مجلس الشعب السوري بين الإصلاح السياسي وإعادة إنتاج المركزية

مقدمة:
شهد المشهد السياسي السوري تحولاً ملحوظاً مع صدور المرسوم الرئاسي رقم 66 لعام 2025، الذي أعاد صياغة آلية انتخاب مجلس الشعب وشروط تشكيله، فاتحاً الباب أمام نقاشات جوهرية حول مجلس الشعب بين الإصلاح السياسي وإنتاج المركزية، واستقلالية المؤسسات، وإمكانات الإصلاح السياسي في ظل التوازنات القائمة.

ورغم الترحيب بهذا القرار باعتباره خطوة نحو إعادة بناء المؤسسة التشريعية، والذي أيده تيار المستقبل السوري في ببيانه يوم السبت 2025/06/14م، فإن التحليل العميق لهذا النموذج الانتخابي يكشف عن إشكاليات جوهرية تتعلق بطبيعة التمثيل، مثل دور الأحزاب السياسية، ومدى قدرة المجلس القادم على لعب دوره كمؤسسة تشريعية مستقلة، بعيداً عن تأثير السلطة التنفيذية.
فمن الناحية النظرية، يمثل هذا المرسوم إعادة هيكلة لمؤسسة تشريعية لطالما كانت محط جدل حول دورها الفعلي في صياغة السياسات العامة والتأثير في القرارات السيادية، إذ يتضمن المرسوم إعادة توزيع المقاعد وفق فئات اجتماعية محددة، واعتماد آلية انتخابية جديدة، إضافةً إلى تعيين ثلث أعضاء المجلس من قبل رئيس الجمهورية، هذه التغييرات تثير تساؤلات جوهرية حول طبيعة هذا النموذج!
هل هو خطوة نحو الإصلاح السياسي الفعلي؟ أم أنه مجرد إعادة إنتاج لمنظومة حكم مركزية؟.
وعلى المستوى الفلسفي، يمكن النظر إلى أن إعادة هيكلة مجلس الشعب ضمن إطار أوسع يتعلق بالمفهوم العام للتمثيل السياسي، ومدى استجابته لمبادئ الشرعية الديمقراطية، والتعددية السياسية، والحوكمة المستقلة، فالتحولات في النظام التشريعي لأي دولة لا يمكن أن يقتصر على تعديلات إجرائية، بل يجب أن يعكس إرادة سياسية حقيقية لخلق بيئة حكم أكثر تمثيلاً وشمولية.
أما من منظور العلوم السياسية، فالمجلس التشريعي يمثل الركيزة الأساسية في توزيع السلطة بين المؤسسات المختلفة، وتحديدُ وظائفه وصلاحياته يعكس طبيعة الدولة واتجاهاتها السياسية.

وعليه، فإن أي تعديل في هيكلية المجلس لابدّ أن يُدرَس بعناية لضمان عدم تقييد دوره في الرقابة وصياغة السياسات، وتجنب تحوله إلى مؤسسة شكلية خاضعة للسلطة التنفيذية.

هذا المقال يسعى إلى تقديم تحليل متكامل للمرسوم رقم 66 لعام 2025م من خلال النظر في الأسس النظرية والعملية لهذا النموذج، ودراسة انعكاساته المحتملة على المشهد السياسي السوري، مع التركيز على مدى تحقيقه للديمقراطية الفاعلة، والاستقلالية المؤسسية، ومشاركة كافة القوى السياسية والاجتماعية في صنع القرار.

مفهوم التمثيل السياسي بين النخبوية والديمقراطية:
لطالما شكلت قضية التمثيل السياسي محوراً مركزياً في التنظير الفلسفي والسياسي حول طبيعة الحكم، وتحديد الفئات التي تمتلك حق المشاركة في صناعة القرار, ومع صدور المرسوم الرئاسي رقم 66 لعام 2025 في سورية، برز نموذج جديد لتنظيم مجلس الشعب عبر تقسيمه إلى فئتي الأعيان والمثقفين، ما يطرح تساؤلات جوهرية حول مدى تحقيق هذا النموذج للتعددية السياسية، أو ما إذا كان يعيد إنتاج نخبوية سياسية تسعى للحفاظ على هيمنة محددة في المشهد التشريعي.

إن تحديد عضوية مجلس الشعب وفق فئتي الأعيان والمثقفين يُعيد إلى الواجهة السؤال الفلسفي القديم حول طبيعة من يمتلك حق الحكم: هل يجب أن يكون الحكام من ذوي النفوذ الاجتماعي والتاريخي، أم من أصحاب المعرفة والفكر السياسي؟
هذا النموذج، وإن كان يسعى إلى تحقيق توازن بين النفوذ والتخصص، فإنه يثير عدداً من الإشكاليات:
١- تعريف الأعيان والمثقفين غير محدد بدقة في المرسوم، مما يفتح المجال أمام اختيارات غير شفافة، قد تُفضي إلى هيمنة نخبوية دون أسس واضحة.
٢- قد يؤدي هذا التصنيف إلى إقصاء الفئات الشعبية الأخرى، مثل العمال والفلاحين، الذين لطالما شكلوا جزءاً من الهيكلية السياسية السورية في فترات سابقة.
٣- التركيز على فئتي الأعيان والمثقفين قد يُفقد المجلس صفة التمثيل الواسع، إذ أن التمثيل الحقيقي لا ينبغي أن يكون مقتصراً على أصحاب النفوذ الاجتماعي والفكري فقط، بل يجب أن يشمل الطيف الكامل للمجتمع السوري.
هذا، وعلى امتداد الفكر السياسي، من أفلاطون إلى هابرماس، نجد اختلافاً واضحاً بين التوجه النخبوي القائم على حكم الخبراء والأعيان، وبين النموذج الديمقراطي القائم على الاختيار الشعبي المفتوح.
وفي سورية، فإن إعادة صياغة عضوية المجلس بهذا الشكل تطرح إشكالية: هل هذا النموذج يمثل تحولاً نحو الديمقراطية التمثيلية، أم أنه يشير إلى مركزية جديدة في صناعة القرار؟
لاشك أن نجاح أي تجربة تشريعية يرتبط بمدى قدرتها على تمثيل المجتمع في تنوعه الاجتماعي والسياسي، وعدم اقتصارها على فئات محددة، فغياب الفئات الأخرى عن التركيبة الجديدة للمجلس قد يؤدي إلى:
١- إضعاف الطابع التعددي للمؤسسة التشريعية، وتحويل المجلس إلى هيئة نخبوية ذات توجهات محددة مسبقاً.
٢- تقليل فرص المشاركة الشعبية في العملية السياسية، خاصة إذا كان اختيار الأعضاء سيتم بطرٍق غير شفافة، أو عبر توافقات سياسية مسبقة.
٣- غياب الأحزاب السياسية عن المشهد التشريعي يعمّق هذه الإشكالية، إذ أن التمثيل النيابي دون وجود تنظيم حزبي يؤدي إلى ضعف الفاعلية السياسية في المجلس.

وبناءً على المعايير المعتمدة، يمكن القول أن المرسوم الجديد يعيد صياغة مفهوم التمثيل السياسي ضمن إطار نخبوي جديد، قد يؤدي إلى إعادة إنتاج هيمنة سياسية قائمة بدلاً من بناء نموذج تعددي جديد، وإذا كانت آلية الاختيار لا تعتمد على الانتخابات الشعبية المفتوحة بل على لجان فرعية، فإن ذلك يطرح تساؤلاً حول مدى استقلالية هذه اللجان في اختيار أعضاء المجلس.
كما أن التركيز على فئتي الأعيان والمثقفين قد يُفضي إلى تمثيل غير متوازن، حيث تكون المؤسسات التشريعية أقرب إلى هيئة استشارية للنظام السياسي بدلاً من كونها سلطة مستقلة تعكس التنوع المجتمعي الحقيقي.

إن تشكيل مجلس الشعب الجديد وفق النموذج القائم على الأعيان والمثقفين يثير إشكاليات جوهرية تتعلق بطبيعة التمثيل السياسي ومدى استجابة المجلس لمتطلبات التحول الديمقراطي الحقيقي، وفي ظل غياب الأحزاب السياسية وعدم وضوح آلية اختيار الأعضاء، تظل هناك حاجة إلى إصلاحات أكثر عمقاً لضمان أن تكون المؤسسة التشريعية في سورية انعكاساً حقيقياً لإرادة الشعب، وليس مجرد امتداد لمنظومة سياسية قائمة على إعادة إنتاج الهيمنة النخبوية.

العلاقة بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية: إشكالية الثلث الرئاسي:
لطالما كان التوازن بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية محوراً أساسياً في بناء نظم الحكم الديمقراطية، حيث يشكل استقلال المجلس التشريعي ضمانة رئيسية لعملية الرقابة، والتشريع، وتمثيل إرادة الشعب بعيداً عن تأثير السلطة التنفيذية.
إلا أن المرسوم الرئاسي رقم 66 لعام 2025م يثير إشكالية جوهرية في هذا التوازن عبر تضمين آلية تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب من قبل رئيس الجمهورية، مما يفتح الباب أمام تساؤلات حول مدى قدرة المجلس على العمل باستقلالية حقيقية.
إذ من الناحية السياسية، فإن تعيين 50 عضواً من أصل 150 مباشرة من قبل الرئيس يمنحه نفوذاً واسعاً داخل المجلس، حيث يمكن لهذا الثلث أن يتحول إلى كتلة تصويتية حاسمة قادرة على دعم القرارات التي تتماشى مع توجهات السلطة التنفيذية أو تعطيل التشريعات غير المرغوب فيها.
يؤدي ذلك إلى حالة من عدم التكافؤ التشريعي، حيث تصبح القدرة على سن القوانين واتخاذ قرارات مصيرية مرهونة بمدى توافق الأغلبية المنتخبة مع الكتلة المعينة، مما قد يحد من استقلالية المجلس ويعرقل دوره في مساءلة الحكومة أو اقتراح تشريعات تتماشى مع مطالب الشارع السياسي.
ففي بعض النظم الديمقراطية، يتم تعيين أعضاء في المجالس التشريعية عبر آليات مختلفة، مثل المقاعد المحجوزة للمؤسسات الأكاديمية، الاقتصادية، أو المجتمعية، بهدف إثراء الحوار السياسي، إلا أن النموذج السوري هنا يميل إلى التعزيز المباشر لنفوذ السلطة التنفيذية داخل المؤسسة التشريعية، خصوصاً بعد التحرير من نظام الأسد، مما يجعله أقرب إلى النظم التي تميل إلى المركزية السياسية.
ففي الأنظمة الديمقراطية الراسخة، تكون العلاقة بين السلطتين تكاملية وليست خاضعة لإحدى السلطتين، حيث تظل التشريعات خاضعة للتداول الحر داخل المجلس، دونما تأثير مباشر من مؤسسة الرئاسة أو الحكومة.
أما في حالة سورية، فإن هذا الثلث الرئاسي يفتح مجالاً أمام توجيه قرارات المجلس بطريقة غير مباشرة عبر تعيين شخصيات موالية أو مرتبطة بالسلطة التنفيذية.
وهنا لابد أن نُذكِّر بوجوب أن يكون المجلس التشريعي بمثابة سلطة مستقلة تراقب الأداء الحكومي، إلا أن تعيين ثلث الأعضاء من قبل الرئيس قد يؤدي إلى:
١- ضعفٍ في مساءلة السلطة التنفيذية، حيث قد تتشكل كتل تصويتية تدعم الحكومة في جميع قراراتها.
٢- إعاقة التشريعات الإصلاحية إذا كانت متعارضة مع توجهات الرئيس.
٣- تحويل المجلس إلى هيئة استشارية أكثر من كونه مؤسسة تشريعية مستقلة، مما يضعف جوهر العملية الديمقراطية.

ولحل هذه الإشكالية، يمكن اقتراح تقليص نسبة التعيينات الرئاسية لضمان استقلالية أكبر للمجلس، أو تحديد آلية واضحة لاختيار الثلث الرئاسي عبر لجنة محايدة لضمان تمثيل أكثر تعددية داخل المجلس، مع ضرورة ربط التعيينات الرئاسية بشروط رقابية تفرض مساءلة فعلية داخل المجلس، مما يحد من استخدام هذه الآلية كمجرد أداة نفوذ سياسي.
إن مسألة الثلث الرئاسي لا تقتصر على كونه تعديلاً إجرائياً، بل هي مسألة جوهرية تتعلق ببنية الدولة ومستقبل العملية التشريعية، مما يستوجب مراجعة دقيقة لضمان أن يكون مجلس الشعب مؤسسة قائمة على التمثيل الديمقراطي الحقيقي وليس مجرد امتداد للسلطة التنفيذية.

غياب الأحزاب السياسية: هل نحن أمام إعادة إنتاج لنظام غير تعددي؟:
لطالما ارتبطت الديمقراطية الحديثة بالتعددية الحزبية، حيث تُشكل الأحزاب السياسية الركيزة الأساسية لأي نظام سياسي يسعى إلى تمثيل مصالح المجتمع وتنظيم العملية السياسية، ومع المرسوم الرئاسي يبدو أن إعادة تشكيل مجلس الشعب تمت دون الإشارة إلى دور الأحزاب السياسية، سواء التقليدية أو المنبثقة عن الثورة، مما يطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة المشهد السياسي المستقبلي في البلاد.
إن عدم ذكر أي دور للأحزاب السياسية في آلية تشكيل مجلس الشعب الجديد يثير احتمالين رئيسيين:
١- إما أن يكون الأمر ظرفاً مؤقتاً في انتظار إصدار قانون جديد ينظم الأحزاب، بحيث يتم لاحقاً دمجها في العملية السياسية ضمن إطار قانوني واضح.
٢- أو أن غياب الأحزاب يعكس سياسة ممنهجة تهدف إلى إبقاء المشهد السياسي تحت سيطرة شخصيات فردية مستقلة، مما يحد من أي تنظيم سياسي مؤسسي قادر على تقديم برامج سياسية واضحة تتنافس فيما بينها.
في الحالة الأولى، قد يكون هناك نية مستقبلية لإدماج الأحزاب في المشهد السياسي، لكن غيابها عن هذه المرحلة التأسيسية للعملية الانتخابية يضعف المصداقية الديمقراطية للمجلس.
أما في الحالة الثانية، فإن إقصاء الأحزاب يفتح الباب أمام نموذج سياسي غير تعددي، حيث لا توجد تنظيمات سياسية تنافسية تُمكّن المواطنين من الاختيار وفق برامج سياسية واضحة، بل يعتمد الأمر على اعتبارات شخصية أو توافقات سياسية غير رسمية.
عبر التاريخ، أظهرت الأنظمة السياسية التي تفتقد لوجود أحزاب مُنظمة ضعفاً في قدرتها على تشكيل مؤسسات تشريعية فاعلة، حيث يتم اختيار الأعضاء وفق ولاءات شخصية أو توازنات سياسية غير مؤسسية، وفي الحالة السورية، فإن غياب الأحزاب السياسية عن مجلس الشعب الجديد قد يؤدي إلى:
١- ضعف التفاعل السياسي الحقيقي داخل المجلس، إذ إن غياب التكتلات السياسية المنظمة سيجعل النقاشات والتشريعات تتم بين أفراد بدون رؤية سياسية واضحة.
٢- احتكار القرار السياسي من قبل السلطة التنفيذية، حيث لن يكون هناك معارضة حزبية منظمة قادرة على تقديم رؤى سياسية بديلة، بل ستكون المعارضة إن وجدت فردية ومحدودة التأثير.
٣- صعوبة تشكيل قوة سياسية قادرة على الضغط من داخل المجلس، إذ إن غياب الأحزاب سيحرم المجلس من القدرة على تنظيم تيارات سياسية تدفع نحو تشريعات أكثر انسجاماً مع تطلعات المجتمع.
إن غياب الأحزاب السياسية عن هذه العملية التشريعية يثير مخاوف جدية حول مستقبل التعددية السياسية في سورية، حيث تبدو العملية الانتخابية أقرب إلى إعادة تشكيل سياسي وفق رؤية مركزية، أكثر من كونها تحولاً ديمقراطياً شاملاً، وإذا استمر هذا النموذج، فقد يؤدي إلى:
١- إضعاف إمكانية بناء مشهد سياسي تنافسي، حيث يبقى التمثيل محصوراً بشخصيات مستقلة بدون قدرة على تنظيم أنفسهم ضمن توجهات سياسية واضحة.
٢- تثبيت نموذج تشريعي غير مؤثر على القرار السياسي العام، إذ ستبقى السلطة التنفيذية قادرة على التحكم في العملية التشريعية دون وجود أحزاب قادرة على فرض توازن سياسي.
٣- فقدان الثقة الشعبية في العملية السياسية، حيث أن المجلس الجديد قد لا يُنظر إليه كمؤسسة تمثل إرادة الشارع السوري، بل كهيئة شكلية تفتقد التعددية الحقيقية.
إن إعادة تشكيل مجلس الشعب دون الإشارة إلى دور الأحزاب السياسية يمثل إشكالية جوهرية في مسار الإصلاح السياسي، حيث يطرح تساؤلات عميقة حول مدى إمكانية تأسيس نموذج سياسي تعددي حقيقي في سورية، وما لم يتم إصدار قانون واضح لتنظيم الأحزاب وإدماجها في المشهد السياسي، فإن هذه الهيكلة التشريعية الجديدة قد تكون مجرد امتداد لنموذج سياسي مركزي، لا يعكس إرادة شعبية حقيقية.

دور اللجنة العليا للانتخابات: إشراف أم سيطرة؟:
يُعد تشكيل اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب خطوة محورية في إعادة تنظيم العملية الانتخابية في سورية، حيث أوكل إليها الإشراف على تشكيل الهيئات الفرعية الناخبة التي ستنتخب ثلثي أعضاء المجلس، بينما يُعيّن الثلث المتبقي من قبل رئيس الجمهورية.
لكن السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هنا هو: هل ستكون اللجنة مجرد هيئة إشرافية، أم أنها ستتحول إلى جهاز سياسي مؤثر في تشكيل المجلس؟
وفق المرسوم، تتولى اللجنة العليا تنظيم العملية الانتخابية، لكنها لم تُمنح صلاحيات تشريعية أو تنفيذية مباشرة، مما يعني أنها لن تكون جزءاً من مجلس الشعب القادم، بل ستقتصر مهمتها على الإشراف والمراقبة، ومع ذلك، فإن طبيعة تشكيل اللجنة وأعضائها تثير تساؤلات حول مدى استقلاليتها، خاصة وأن بعض أعضائها محسوبون على تيارات سياسية معينة، مثل الائتلاف الوطني السوري سابقاً، إضافةً إلى شخصيات كانت مرتبطة بهيئة تحرير الشام سابقاً، هذا التشكيل يفتح الباب أمام مخاوف من أن تتحول اللجنة إلى أداة لضبط التوازنات السياسية بدلاً من كونها هيئة محايدة لضمان نزاهة الانتخابات.
فلم يحدد المرسوم مدة عمل اللجنة العليا أو الإطار الزمني لتشكيل الهيئات الفرعية الناخبة، مما يترك مجالاً واسعاً للتأجيلات السياسية التي قد تؤثر على مصداقية العملية الانتخابية، ففي النظم الديمقراطية، تكون اللجان الانتخابية محددة بزمن واضح لضمان سير العملية الانتخابية وفق جدول زمني صارم، لكن في الحالة السورية، فإن غياب هذا التحديد قد يؤدي إلى تمديد غير مبرر لفترة عمل اللجنة، مما يفتح المجال أمام إعادة هندسة المشهد السياسي وفق اعتبارات غير انتخابية.
ورغم أن اللجنة مكلفة بالإشراف على الانتخابات، إلا أن الإعلان الدستوري ينص على أن مجلس الشعب لا يمتلك سلطة مباشرة على السلطة التنفيذية، بل يقتصر دوره على عقد جلسات استماع للوزراء فقط، مما يضعف دوره الرقابي.
هذا يعني أن اللجنة العليا، رغم دورها التنظيمي، قد لا تكون قادرة على فرض معايير صارمة للنزاهة الانتخابية، خاصة إذا كانت هناك تدخلات سياسية تؤثر على تشكيل الهيئات الفرعية الناخبة.
ولضمان أن تكون اللجنة العليا هيئة محايدة بالفعل، يلزم تحديد إطار زمني واضح لعمل اللجنة، بحيث لا يتم تمديدها خارج نطاق العملية الانتخابية، مع إعادة النظر في تركيبة اللجنة لضمان استقلاليتها عن أي نفوذ سياسي، وإشراك جهات رقابية دولية أو محلية مستقلة لضمان نزاهة الانتخابات، وأيضا توضيح العلاقة بين اللجنة ومجلس الشعب القادم، بحيث لا تتحول إلى هيئة مؤثرة في تشكيل المجلس بطريقة غير مباشرة.
إن دور اللجنة العليا يجب أن يكون تنظيمياً بحتاً، وليس جزءاً من عملية توزيع النفوذ السياسي، وإلا فإن العملية الانتخابية ستفقد جوهرها الديمقراطي.

إعادة تشكيل مجلس الشعب ومدته: بين الانتقال الديمقراطي والتأجيل السياسي:
إحدى القضايا الجوهرية التي يثيرها المرسوم الرئاسي هي مدة ولاية مجلس الشعب الجديد، وإمكانية تمديده قبل الوصول إلى مجلس شعب منتخب بالكامل من الشعب، هذه النقطة ليست مجرد تفصيل إداري، بل تحمل دلالات سياسية عميقة تتعلق بمدى التزام النظام بالانتقال الديمقراطي الفعلي، أو ما إذا كان هذا الإجراء مجرد مرحلة انتقالية مفتوحة قد تطول دون ضمانات واضحة لإجراء انتخابات حرة.
فبحسب الإعلان الدستوري الحالي، فإن مدة ولاية المجلس الجديد تبلغ 30 شهراً قابلة للتجديد، وهو ما يثير عدة إشكاليات سياسية:
١- إذا لم يتم وضع ضوابط قانونية صارمة لعملية التمديد، فقد يتم تأجيل الانتخابات المباشرة لفترات غير محدودة، مما يُبقي السلطة التشريعية تحت سيطرة ترتيبات سياسية انتقالية بدلاً من انتخابات شعبية.
٢- هذا النموذج قد يؤدي إلى غياب الضغط الشعبي لإنهاء المرحلة الانتقالية، إذ إن غياب جدول زمني واضح يجعل فكرة الانتخابات الديمقراطية مؤجلة باستمرار، مما قد يُفقد المجلس شرعيته تدريجياً.
٣- في بعض الأنظمة السياسية، يتم تمديد المجالس التشريعية بحجة عدم استقرار الأوضاع السياسية أو الأمنية، لكن هذا قد يُستخدم كذريعة لتعطيل المسار الديمقراطي، وهو أمر يجب الحذر منه في الحالة السورية.
كما أن المرسوم لم يوضح علاقته بالإعلان الدستوري الحالي، حيث لا توجد تفاصيل حول ما إذا كان الإعلان الدستوري يمنح المجلس صلاحيات تشريعية كاملة أم أنه سيظل خاضعاً لترتيبات سياسية معينة، وإذا لم يكن هناك وضوح في العلاقة بين المجلس والإطار الدستوري العام، فقد يبقى المجلس هيئة سياسية انتقالية أكثر من كونه مؤسسة تشريعية مستقلة.
في بعض النماذج السياسية، يتم تقنين إجراءات انتقال السلطة من مرحلة مؤقتة إلى دائمة، لكن في الحالة السورية، يبدو أن هناك فراغاً تنظيمياً قد يُستغل لتمديد الوضع الحالي إلى ما هو أبعد من المدة المحددة، وإذا لم يتم وضع إطار واضح لإجراء انتخابات مباشرة بعد انتهاء المدة المحددة للمجلس الحالي، فقد يتحول المجلس الجديد إلى:
١- هيئة تشريعية شكلية دون تأثير حقيقي على المشهد السياسي، حيث تكون وظيفته أقرب إلى الاستشارة السياسية بدلاً من إصدار تشريعات تعكس إرادة الشعب.
٢- مجلس يتم تمديده باستمرار بحجة عدم اكتمال الظروف السياسية، مما يُضعف أي توجه حقيقي نحو بناء مؤسسات ديمقراطية دائمة.
٣- أداة سياسية لإعادة ترتيب المشهد دون الوصول إلى انتخابات حقيقية، حيث يتم تأخير أي تحول سياسي فعلي تحت مبررات إجرائية.
إن مدة ولاية مجلس الشعب وفق الإعلان الدستوري الحالي تُشكّل أحد أهم المحددات لمستقبل الانتقال السياسي في سورية، وما لم يتم وضع ضوابط صارمة تمنع تمديد المجلس إلى ما هو أبعد من مدته المحددة، وضمان وجود عملية انتخابية فعلية بعد انتهاء المرحلة الانتقالية، فإن هذه الترتيبات قد تؤدي إلى إدامة الوضع السياسي الحالي دون أي تحول ديمقراطي حقيقي، وهو ما يلزم التحذير منه.

خاتمة:
يُمثل المرسوم الرئاسي رقم 66 لعام 2025 خطوة نحو إعادة هيكلة العملية التشريعية في سورية، لكنه يطرح إشكاليات جوهرية تتعلق بمدى استقلالية المجلس، غياب التعددية السياسية، وتأثير السلطة التنفيذية على القرار التشريعي، إن بناء مؤسسة تشريعية قوية لا يقتصر على تعديل آلية الانتخاب، بل يتطلب إصلاحاً شاملاً يضمن التمثيل الديمقراطي الحقيقي ويُرسّخ قواعد الحوكمة المستقلة.

إن مستقبل سورية السياسي يتوقف على مدى قدرة المؤسسات التشريعية القادمة على تمثيل كافة شرائح المجتمع، والاستقلال عن النفوذ التنفيذي، وإرساء أرضية سياسية قائمة على التعددية والمشاركة الشعبية، لتحقيق ذلك، لا بد من إقرار قانون واضح للأحزاب السياسية، ضبط صلاحيات اللجنة العليا للانتخابات، وضمان رقابة محايدة على العملية الانتخابية، بحيث لا تتحول إعادة هيكلة المجلس إلى مجرد إعادة إنتاج لنموذج سياسي مركزي.
في النهاية، يظل نجاح هذه العملية مرتبطاً بإرادة السوريين أنفسهم، سواء من خلال المشاركة الفاعلة في الانتخابات، أو الضغط لضمان نزاهة العملية السياسية، والمطالبة بإصلاحات حقيقية تضمن بناء مستقبل ديمقراطي شامل.

إن أي عملية سياسية لا تستند إلى الإرادة الشعبية تظل ناقصة ومهددة بفقدان شرعيتها، لذا فإن تشكيل مجلس تشريعي يعكس تطلعات السوريين هو الخطوة الحاسمة نحو بناء سورية أكثر عدالة واستقراراً.

وعليه، فإننا في تيار المستقبل السوري نوصي لضمان عملية تشريعية عادلة ومستقلة في سورية بما يأتأي:

أولاً:توصيات للقيادة السياسية:

  1. إعادة النظر في تعيين الثلث الرئاسي لضمان استقلالية مجلس الشعب وعدم تحوله إلى هيئة صورية خاضعة للسلطة التنفيذية.
  2. البحث عن فتوى قانونية لإقرار استثنائي لقانون واضح لتنظيم الأحزاب السياسية، بحيث يكون المجلس التشريعي مؤسسة تعكس التعددية السياسية بدلاً من كونه تجمعاً لشخصيات مستقلة دون توجهات سياسية واضحة.
  3. تحديد إطار زمني صارم لإنجاز العملية الانتخابية، ومنع أي تأجيلات غير مبررة قد تؤثر على مصداقية المرحلة الانتقالية.
  4. تفعيل الرقابة التشريعية الحقيقية بحيث يمتلك المجلس الصلاحيات اللازمة لمساءلة الحكومة وضبط السياسات العامة وفق إرادة الناخبين.
  5. فتح قنوات حوار وطنية بين مختلف الفاعلين السياسيين والمجتمعيين لضمان توافق سياسي شامل ينعكس على تشكيل مجلس شعب يعبر عن المجتمع السوري بمختلف أطيافه.

ثانياً:توصيات للجنة العليا للانتخابات:

  1. ضمان استقلالية اللجنة بعيداً عن أي تدخلات سياسية، بحيث يكون عملها محصوراً في تنظيم الانتخابات لا التأثير على مخرجاتها السياسية.
  2. وضع ضوابط شفافة لآلية اختيار الهيئات الفرعية الناخبة لضمان نزاهة الانتخابات وعدم خضوعها لأي محاصصة سياسية أو تفاهمات غير رسمية.
  3. إشراك جهات مراقبة دولية صديقة ومعتبرة أومحلية مستقلة لضمان عدم حدوث أي تجاوزات أو تدخلات سياسية في العملية الانتخابية.
  4. تحديد جدول زمني واضح لمراحل الانتخابات، بحيث يتم الالتزام بمواعيد محددة تضمن انتقالاً سلساً إلى مجلس منتخب بكامل الشرعية الشعبية.
  5. إقرار آلية طعون قانونية شفافة تتيح للمرشحين الاعتراض على أي مخالفات محتملة في العملية الانتخابية.

ثالثاً، توصيات للمجتمع المدني:

  1. الضغط من أجل ضمان نزاهة الانتخابات من خلال حملات توعية ورقابة شعبية على مجريات العملية الانتخابية.
  2. تعزيز مشاركة المواطنين في العملية السياسية عبر تنظيم ندوات وورشات عمل توضح أهمية التمثيل التشريعي في بناء مستقبل سورية.
  3. تقديم تقارير رقابية دورية حول مسار الانتخابات لضمان عدم وجود تدخلات غير قانونية أو تجاوزات تعرقل شفافية الانتخابات.
  4. المطالبة بتمثيل أوسع للفئات المهمشة من خلال الدفع باتجاه قانون انتخابي يضمن التنوع الاجتماعي في تركيبة المجلس التشريعي.
  5. تشجيع الحراك السلمي الداعم للإصلاح السياسي من خلال مبادرات وطنية تعزز الحوار بين مختلف الفاعلين السياسيين.

رابعاً، توصيات للكيانات السياسية:

  1. تشكيل تكتلات سياسية واضحة لضمان أن تكون الانتخابات قائمة على برامج سياسية محددة لا مجرد شخصيات مستقلة غير مرتبطة برؤية سياسية متكاملة.
  2. الضغط لفتح المجال أمام الأحزاب السياسية بحيث يكون المجلس التشريعي انعكاساً للحراك السياسي الوطني وليس هيئة مغلقة على توجهات معينة.
  3. تقديم برامج سياسية مدروسة للمرحلة المقبلة تساهم في رسم خارطة طريق واضحة لمستقبل سورية السياسي والتشريعي.
  4. تعزيز الحوار بين القوى السياسية المختلفة لضمان عدم احتكار القرار السياسي من قبل أي جهة منفردة.
  5. المطالبة بضمانات دستورية لاستقلالية مجلس الشعب بحيث لا يتحول إلى أداة تنفيذية للسلطة بل يبقى مؤسسة رقابية وتشريعية مستقلة.

خامساً، توصيات للشعب السوري:

  1. المشاركة الفاعلة في الانتخابات عبر لجان شعبية مُرشِحة، لضمان أن يكون التمثيل التشريعي نابعاً من إرادة الناخبين وليس من تفاهمات سياسية مغلقة.
  2. المطالبة بشفافية العملية الانتخابية ومحاسبة أي جهة تحاول التأثير على نزاهة الانتخابات.
  3. دعم البرامج السياسية الإصلاحية التي تهدف إلى بناء مؤسسات ديمقراطية قوية ومستقلة.
  4. التفاعل مع المجتمع المدني والجهات الرقابية لضمان أن يكون الصوت الشعبي جزءاً أساسياً من العملية السياسية.
  5. رفض أي محاولة لإعادة إنتاج مركزية سياسية تكرس الهيمنة التنفيذية على المجلس التشريعي، والمطالبة بعملية انتخابية تضمن استقلالية القرار التشريعي.

إن بناء مؤسسة تشريعية قوية وممثلة لجميع السوريين يتطلب إصلاحات سياسية جذرية، وإجراءات صارمة لضمان نزاهة الانتخابات واستقلالية المجلس القادم. تحقيق هذا الهدف يستوجب تضافر جهود القيادة السياسية، واللجنة العليا، والمجتمع المدني، والقوى السياسية، والمواطنين أنفسهم في الدفع نحو إصلاح حقيقي يُعزز مستقبل سورية الديمقراطي.

الدكتور زاهر بعدراني

شاركها على:

اقرأ أيضا

أخبار يوم الأربعاء 2025/07/09م.

تحديثات شاملة عن أخبار يوم الأربعاء 09-07-2025

9 يوليو 2025

إدارة الموقع

سورية والاتحاد من أجل المتوسط: استعادة العضوية أم إعادة تعريف الدور؟

استعادة عضوية الجمهورية السورية تمثل تحولاً سياسياً

9 يوليو 2025

إدارة الموقع