الخرائط الصامتة: بين سردية التجدد وشروط الدولة الممكنة في سورية ما بعد الرماد

مقدمة:

في لحظةٍ تتكاثر فيها الخرائط وتتقاطع فيها السرديات، تبدو سورية وكأنها تسير فوق طبقاتٍ متراكبة من الزمن السياسي، لا يُسعفها الحاضر ولا يسمح لها الماضي أن تخلعه بالكامل.
فنحن إزاء مشهد تُعاد فيه هندسة الواجهة دون ترميم الأساسات، ويُعاد رسم الرموز قبل أن تُعاد صياغة العقد. المدن تُسمّى من جديد، والمشاريع تُضخّم، والمؤسسات تُفرّغ وتُستبدل.

ومع ذلك، يبقى سؤال الدولة، لا المشروع، هو الجوهري.
إذ أن سرديات "التجدد" التي ترافق اليوم كل إعلان رسمي من بوابة دمشق، إلى إعادة هيكلة الجيش، إلى خطاب التطوير المؤسساتي ليست سوى محاولة لإنتاج مستقبل يُقدّم بديلاً عن مساءلة الماضي.
لكنّ مستقبلاً بدون سرديات قسرية، لا يُبنى، بل يُعلّق.
ففي غياب عقد اجتماعي حقيقي، تصبح الرمزية أداة حكم، وتغدو الدولة ممكنة فقط بقدر ما تستطيع احتواء التناقض بين شكلها وتاريخها، وبين خطابها وبنيتها.
فمن منظور الفلسفة السياسية، ليست الدولة مجرد بنية قانونية أو مشروع إداري، بل هي علاقة تقوم على الاعتراف، والثقة، والتفاوض على المصالح والمصائر. وإذا كانت السياسة -كما يرى هابرماس- فضاءً للتداول العقلاني بين أفراد أحرار، فإن ما نشهده هو انحسار للسياسي لصالح "ما بعد سياسي" رمزي، حيث تُستبدل الحوارات بالمراسيم، والنقاش العام بالإنتاج الإعلامي.
إن الدولة الممكنة لا تولد من رحم البلاغة، بل من شرطين أساسيين: القدرة على إنتاج المعنى المشترك، والالتزام بتوزيع عادل للسلطة والموارد.
وفي غياب هذين الشرطين، تصبح الدولة واجهةً فقط، وتتحول مشاريعها مهما بدت طموحة إلى خرائط صامتة! فلا تقول الحقيقة، بل ترسم ملامح وهمٍ مأمول.

تيار الصور: الدولة السورية بين الجسد الإعلامي واستراتيجيات الرمزية:

في سورية الراهنة، حيث تتقاطع سرديات التجدد مع هشاشة الواقع المؤسساتي، تتقدم المشاريع الرمزية لتملأ فراغ السياسة. وليطفو على السطح سؤالٌ جوهري: هل يعيد النظام السياسي إنتاج نفسه عبر الفعل السياسي، أم من خلال تكثيف حضور الصورة؟
وفي هذا السياق، يظهر مشروع "بوابة دمشق" كأكثر من مجرد مدينة إعلامية؛ بل كبنية رمزية تهدف إلى إعادة ترسيم خريطة الدولة من خلال سرد بصري، وليس عبر مأسسة العقد الاجتماعي.

وبعيدًا عن قراءة المشروع كاستثمار إنتاجي بحت، فإن توقيته، وموقعه، وخطابه، وسياقه المؤسساتي، تحيل جميعها إلى محاولة لتكريس ما يمكن تسميته بـ"السلطة التمثيلية"، حيث تُعاد الدولة إلى الواجهة، لا عبر سياسات عمومية تفاعلية، بل من خلال صور كبرى تملأ الفضاء العام وتُحدث إحساسًا بـ"الحضور الفاعل" للدولة.
فالدولة التي تتراجع قدرتها على توزيع العدالة والخدمات، تميل إلى تعويض ذلك بحضور رمزي كثيف، حيث يتم تصدير صور الإنجاز كبديل عن الإنجاز نفسه.
فمشروع كـ"بوابة دمشق" يحمل في طياته أبعادًا عدة.
فهو من جهة، إعادة تموضع رمزي للعاصمة بوصفها مركزًا للهوية والإنتاج، ومن جهة أخرى، يمثّل محاولة لاحتواء المجال الإعلامي ضمن أطر رسمية – سواء من خلال البنية أو المحتوى.
وتتكشف خطورة هذا التمركز حين يُطرح المشروع في ظل غياب بيئة مؤسسية تضمن حرية التعبير واستقلال الفضاء العمومي. بمعنى آخر: إذا كانت المدينة الإعلامية تنقل فقط ما تسمح به الدولة، فهي لا تصنع إعلامًا، بل تستنسخ النظام.
هنا تلعب الفلسفة السياسية دورًا بالغ الأهمية في كشف آليات الاستحواذ الرمزي.
وكما بيّن ميشيل فوكو، فإن السلطة لا تُمارس فقط من خلال القوانين والعنف، بل أيضًا عبر الخطاب، والمعرفة، وصناعة الحقيقة.
وبهذا المعنى، فإن الجسد الإعلامي للدولة، حين يتحرك خارج دائرة النقاش العام والتعددية، يصبح أداة لإعادة إنتاج الخضوع، لا الوعي.
وينسحب ذلك على المجال البصري، حيث تتحول الصورة إلى "مجال سيادي"، لا يسمح إلا بتأويلٍ واحد.
وهنا ينبغي أن نقرأ المشاريع الكبرى في ضوء هذه العلاقة بين الشكل والمضمون، وبين ما يُعلن وما يُمارس.
فالدولة التي تُكثر من المشاهد لا تعني بالضرورة أنها أكثر حضورًا، بل قد تكون أشد فراغًا.
والمواطن الذي يشاهد ولا يُشارك، لا يدخل في عقد، بل في طقس رمزي يرسّخ الغياب.

والسؤال إذًا ليس في "بوابة دمشق" كفكرة، بل في غياب المساءلة، وفي انعدام النقاش حول محتواها، واستقلاليتها، وجدواها التنموية في بيئة تُعاني من هشاشة البنى، وتفاوت التوزيع، وانكماش المرجعيات المستقلة.
فالدولة لا تُبنى بالصورة وحدها، بل بالعدالة، والمشاركة، والمعنى.
ولذلك، فإن مشروع "بوابة دمشق" قد يكون مجازيًا أكثر مما هو فعلي: بوابة نحو تصور الدولة عن ذاتها، لا عن مجتمعها.
بوابة إلى سردية لا تزال تعيد إنتاج الماضي في هيئة مستقبل.
وفي هذا التوتر الدقيق بين الصورة والمؤسسة، تتحدد ملامح الدولة الممكنة في سورية: هل ستكون نظامًا منفتحًا يعكس تعدديات المجتمع، أم "واجهة إعلامية" تحبس الحقيقة خلف عدسة واحدة.

المرجعيات المستبدلة: انكماش المجال الديني وتحييد الاستقلال الرمزي في سورية:

في النظم التي تفتقد إلى الضمانات المؤسسية والتعددية في المرجعيات، تصبح العلاقة بين السلطة والدين حقلًا مركزيًا لإعادة إنتاج السيطرة الرمزية.
هذا ما تشهده الساحة السورية اليوم، خصوصًا عقب إعلان "حلّ المجلس الإسلامي السوري"، وهو أحد أبرز التكوينات الدينية التي حاولت الحفاظ على قدر من الاستقلال خارج أطر السيطرة السياسية الرسمية. وهذه الخطوة لم تأتِ في فراغ، بل تندرج ضمن مشهد أوسع من إعادة تشكيل المجال الرمزي والديني لصالح هيمنة أحادية، تُعيد إنتاج السلطة في هيئة دينية مؤمْنَة، مُتماهية، ومحايدة ظاهريًا.

أولًا: اختفاء المرجعيات المستقلة وتوسيع الفراغ المؤسسي:

كان "المجلس الإسلامي السوري"، رغم ما وُجّه له من انتقادات، يمثل إحدى المحاولات النادرة لتأطير الفعل الديني داخل سورية ما بعد 2011 بمعزل عن المركز الرسمي أو الهيئات العابرة.
وحين يُحلّ، دون توضيحات وافية أو مشاورات مجتمعية، فإننا أمام لحظة سياسية محمّلة بالدلالات: لا تراجع عن السلطنة الرمزية للدولة، ولا مساحة لفعل ديني مستقل يُنتج تأويلًا غير مرخّص له.
هذا الانكماش في المرجعيات يتقاطع مع ما سماه الباحث التونسي عبد المجيد الشرفي بـ"الدولة المؤولة"؛ أي الدولة التي تحتكر حق تأويل النص، وتنتج ما يُسمى بـ"الإسلام الرسمي"، وتقصي أي سرد ديني لا يتماهى مع هندستها السياسية.

ثانيًا: الدين بوصفه مجالًا سياديًا لا مدنيًا:

تحويل المجال الديني إلى ملف سيادي يجعل من كل خطاب إيماني غير مُنضبط تهديدًا ضمنيًا للهيبة الرمزية للدولة.
وعليه، فإن هندسة الخطاب الديني لم تعد تخضع لمنطق الاجتهاد أو التفاعل مع الحاجات الاجتماعية، بل صارت جزءًا من البنية الأمنية والسياسية العامة، وهذا ينسف الفضاء المدني ويُقزّم الأوقاف والمؤسسات الدينية إلى أذرع للضبط، لا وسائط للتأمل أو الإصلاح.
وكما بيّن المفكر المغربي عبد الله العروي، فإن السلطة في السياق العربي لا تحتمل وجود مؤسسة "محايدة"، حتى لو كانت دينية، بل تعتبر الحياد اختراقًا ضمنيًا لشرعية المركز.

ثالثًا: فقدان التنوع الرمزي والانعكاس على الهوية المجتمعية:

إن تراجع استقلال المرجعيات الدينية لا يعني فقط إعادة إنتاج التوجيه الفوقي، بل أيضًا تعطيل لجدلية المجتمع مع ذاته. فالدين، في المجتمع السوري المتعدد، ليس مجرد منظومة شعائرية، بل نسيج اجتماعي ثقافي يوصل بين القرى والمدن، بين الداخل والشتات. وحين يُحاصر التأويل داخل سقف واحد، يُصاب المجتمع بعطب في وعيه الثقافي وقدرته على المبادرة والخروج من التكرار.
وبينما تحدث الباحث السوري محمد جمال باروت عن ضرورة الحفاظ على "العروة الثقافية" بوصفها أساسًا لأي مشروع سياسي قابل للاستمرار، فإن تحييد المرجعيات المستقلة يؤدي إلى تهتك هذه العروة، ويفتح المجال لتطرف مزدوج: إما تديّن صوري تابع، أو ردة فعل متشددة خارج الأطر.

رابعًا: المرجعية كوسيط مجتمعي لا كناطق رسمي:

الحاجة إلى مرجعية دينية مستقلة لا تنبع من مواجهة الدولة، بل من رغبة في تفعيل الوسيط الثقافي داخل المجتمع.
فالمرجعية، بهذا المعنى، ليست سلطة، بل جسرٌ بين النص والحياة، بين المقدس واليومي.
إنها مجالٌ لاختبار التأويل، لا لتلقين الخطاب.
وإذا كانت السلطة لا تحتمل التعدد، فإن المجتمع لن ينمو أو يتقدم!.
إن غياب المرجعية المستقلة يعمّق من قلق الهوية، ويُخرج الدين من طاقته الإصلاحية إلى أداة للضبط الطقوسي.
وهذا ما أشار إليه الراحل حسن حنفي حين طالب بما سماه "تحرير الوعي الديني من السلطة"، مؤكدًا أن الدين لا يزدهر إلا خارج الاستعمال الرسمي المُوجَّه.
هنا، وفي ظل انكماش المرجعيات الدينية المستقلة داخل سورية، نقرأ محاولة واضحة لاحتواء الفضاء الرمزي داخل حدود الجسد السياسي، وحرمان المجتمع من أي وسيط ثقافي حرّ.
وما لم يُستعد التوازن بين الدولة والمجتمع، بين الرسمي والمدني، فإن الفضاء العام سيظل مجالًا معطوبًا، تُعاد فيه صياغة السلطة، لا العدالة. وفي هذه الحالة، لا بد من التفكير بمرجعية تنبثق من المجتمع، تعبّر عنه، وتبقى مستقلة عن كل سلطته، أكانت دينية أو سياسية.

السياسة السرّية: من التفاوض غير المعلن إلى اغتيالات النفي في المشهد السوري:

في سياق سياسي تعمّه التناقضات وتطغى عليه غشاوة الخطاب، تظهر "السياسة السرّية" في سورية لا بوصفها انحرافًا طارئًا عن المألوف، بل كنسقٍ مألوف بذاته، حيث تُدار الشؤون العامة بمنطق الكتمان لا المشاركة، وبالرسائل الضمنية لا التصريحات الصريحة.
إنها سياسة تُنتَج في الظلّ، وتُدار من خلف الستار، وتُبرّر بذرائع الأمن والمصلحة العليا.
مظاهر هذه السياسة تتكثف اليوم عبر مفارقات لافتة: نفيٌ رسمي لمحاولة اغتيال رئيس الدولة في درعا، مقابل تقارير تُسرِّب أسماء ومواقع مفترضة للمتورطين؛ اتصالات خلفية مع إسرائيل تُسرَّب إلى الإعلام دون اعتراف رسمي، مقابل خطاب خارجي لا يزال يتبنى شعارات الصراع والممانعة.
إنها لحظة مفصلية تتراكم فيها المؤشرات: فهناك سياسة تُصنَع بعيدًا عن المواطن، وتُساق باسمه، لكنها لا تُعلَن له، ولا يُستشار فيها.

أولًا: التفاوض كعلامة على افتقار التمثيل:

إن التفاوض، حين يتم خارج الأطر البرلمانية والعمومية، يتحول من آلية لبناء التفاهم إلى أسلوب لتوزيع التواطؤ.
فالاتصالات مع إسرائيل بغض النظر عن موقفنا منها إذا أُنجزت دون مرجعية وطنية أو تفويض شعبي، فإنها تصبح جزءًا من هندسة الهيمنة لا مسار السلام. فالتفاوض، كما أوضح الباحث عزمي بشارة، لا يفقد شرعيته بفعل محتواه فقط، بل أيضًا من خلال شروطه وبُناه المؤسسية.
غياب الشفافية في السياسة الخارجية يعكس هشاشة الداخل، ويُحوّل العلاقات الدولية إلى امتداد للسياسة السرّية، حيث يُصاغ مصير البلاد لا في مؤسساتها، بل في غرف مغلقة يُستبدل فيها التمثيل بالإذعان، والتفويض بالاحتكار.

ثانيًا: منطق النفي والسيادة الغامضة:

نفي محاولة اغتيال رأس الدولة ليس مجرد توضيح تقني، بل فعل سيادي بامتياز.
ففي دولة تُدار فيها الحقيقة كملف أمني، يصبح النفي الممنهج هو الأسلوب الرئيس لبناء الرواية الرسمية. وكما بيّن عبد الله العروي، فإن "السلطة التقليدية تحتاج إلى ضجيج الصمت أكثر من حاجتها إلى الوقائع".
هنا يتحوّل الصمت الرسمي إلى أداء سياسي.
فلا تُسكت الأصوات المعارضة فقط، بل يُسكت الواقع ذاته، ويُملأ بتمثيلات جاهزة. وهذا يضعف إدراك المواطن لمعطيات السياسة، ويفقده القدرة على التأويل الذاتي، مما يحوّل الجمهور إلى متفرّج سلبي في مشهد لا يُسمح له بتفسيره أو حتى التصديق بحدوثه.

ثالثًا: من الحوكمة إلى الغموض البنيوي:

تعمل "السياسة السرّية" على تقويض مبدأ المساءلة.
فحين تغيب المعطيات، لا يمكن محاسبة أحد، وحين تختزل الدولة في أمنها، تُلغى شروط الدولة الحديثة التي ترتكز على القانون، والمؤسسات، والتفويض الشعبي. فكما أشار المؤرخ التونسي هشام جعيط، فإن "الحداثة السياسية لا تقوم على الواجهة، بل على إمكانية الوصول إلى المعنى العام من خلال المساءلة والنقاش".
إن السياسة في سورية لا تُدار كمنظومة مفتوحة، بل كـ"نظام استعصاء"، حيث السيطرة لا تقوم على قوة الإقناع، بل على منع الوصول إلى المعرفة.
وهذا ينعكس على كل مفاصل الحكم: من الأمن إلى الاقتصاد، ومن الإعلام إلى القضاء.

رابعًا: الدولة كمتخيَّل سياسي لا ككيان تعاقدي:

في هذا النمط من الحُكم، تغدو الدولة كيانًا متخيَّلاً أكثر منها واقعًا معاشًا. فالمواطن لا يلمس دور الدولة في تقديم الحقوق بقدر ما يتلقى سردياتها في الإعلام.
فتغيب السياسة كمجال تفاوضي، وتحلّ محلها الإدارة كأمرٍ تقني، بينما يبقى المواطن محصورًا في موقع المتلقي، لا صاحب القرار.
وهذه حالة ليست فقط سياسية، بل معرفية: إنها مصادرة للقدرة على التأويل، التي تُعدّ أساسًا لأي انخراط مدني.
ليس الإشكال في التفاوض مع الخصوم، ولا في درء محاولات الاغتيال، بل في أن تظلّ هذه الأفعال معلقة بين التلميح والنفي، زبين الإشاعة والتسريب، دون أن يُفسح المجال لمجتمع يطالب بالمعرفة والمشاركة.
فلا يمكن بناء دولة ممكنة بسياسة مستحيلة، ولا شرعية بدون مسار علني للمداولة.
إن السياسة السرّية، مهما بدت فعّالة، تؤول دائمًا إلى حُكم فاقد للثقة، بل وفاقد للمعنى.

الدولة الممكنة في سورية: ما بعد الرماد، ما بعد الرمز:

بعد أكثر من عقد على انكسار البنى السياسية والاجتماعية في سورية، تتقدم سرديات متباينة لتجيب عن سؤالٍ واحدٍ مؤجل: ما شكل الدولة التي يمكن أن تولد من ركام الحاضر؟ هل هي امتداد محدث للدولة السابقة؟ أم قطيعة كاملة معها؟ أم مشروعٌ جديد تتشكل ملامحه من احتكاك الهوامش بالمركز، ومن تناقضات الداخل والشتات، والدين والسياسة، والماضي والممكن؟.

ففي الآونة الأخيرة، تعددت مشاريع الإعمار الرمزي من "بوابة دمشق الإعلامية" إلى "إعادة هيكلة الجيش" دون أن ترافقها تحولات حقيقية في طرائق الحكم أو بنية الشرعية.
كأننا نعيد طلاء الجدران التي تهشّمت، دون أن نرسم مخططًا جديدًا للبيت الذي نريد أن نسكنه.


أولًا: الدولة كعقد، لا كمشهد:

جوهر الدولة الحديثة لا يكمن في بناها البيروقراطية، بل في "العقد الضمني" الذي يربط المواطن بالمجتمع السياسي. هذا العقد ليس ورقة، بل ممارسة: ممارسة العدالة، تكافؤ الفرص، توزيع الثروة، وحماية الكرامة. في سورية، لم يُعد النظر في هذا العقد؛ لا بل تفكّك تدريجيًا، واستُبدل بإدارة طوارئ مزمنة سياسية، أمنية، معيشية حرمت المواطن من حقّ التخيّل، ومن جرأة السؤال.
فسورية الممكنة تبدأ من استعادة هذا التخيل، لا من بناء هياكل فوق رمال.
وكما أشار المفكر طارق البشري، فإن الدولة لا تكتمل إلا حين "تنبع شرعيتها من الصيغة التي يقبلها العقل الجمعي بوصفها عادلة وممثلة".


ثانيًا: الدولة كمجال مشترك لا كجهاز استحواذ:

ففي نماذج ما بعد النزاعات، تعيد الدولة تعريف ذاتها كمجال مشترك لا كأداة لاحتكار الحقيقة. والفارق هنا جوهري: فالدولة المتخيَّلة في الوعي السوري لا تزال مرتبطة بالرقابة، لا بالضمان؛ وبالهيبة، لا بالحوار.
وهذا يستدعي قطيعة مفاهيمية لا عنفوية مع النمط الريعي القديم، واستحضار دولة تشاركية، لا تختزل المجتمع في خطاب، ولا تُفرّغ السياسة من تعدديتها.
ويرى المفكر برهان غليون أن التحول يبدأ حين "يستعيد المواطن مكانته كفاعل سياسي، لا كمتلقٍ للخدمة أو الخطاب".

ثالثًا: العدالة بوصفها حجر الأساس، لا إضافة تجميلية:

لا مستقبل لأي إعادة بناء إن لم تبدأ من العدالة: العدالة الانتقالية، العدالة الاجتماعية، العدالة في توزيع السلطة والفرص.
فكل مشروع لا ينطلق من هذه النقطة، محكوم عليه بأن يتحول إلى "بوابة إعلامية" أخرى، أو "مبادرة فوقية" لا تمسّ جوهر الانقسام.
فالعدالة ليست شعارًا، بل شرط إمكانية الدولة نفسها.
وهنا تحضر مقولة عبد الرحمن الكواكبي بأن "العدل أساس العمران"، لا بمعناها التجريدي، بل كتذكير بأن الظلم السياسي يقود حتمًا إلى انحلال الجماعة، وأن الإنصاف المؤسسي هو جوهر الاستقرار.

رابعًا: الدولة الممكنة كوعي لا كإجراء:

لن تولد الدولة السورية الجديدة من مرسوم، ولا من اجتماع طارئ، بل من تبلور وعي جمعي بأن الوقت قد حان لدفن الدولة الصورية، واستدعاء دولة تجيب عن أسئلة تتعلق بالمصير، لا بالمشهد. دولة تُصغي أكثر مما تخطب، تُوزّع أكثر مما تحتكر، وتتعدد أكثر مما تُوحّد قسرًا.
وهذا لا يتحقق إلا بترميم المجال العمومي: الإعلام الحر، التعليم النقدي، المجالس المنتخبة، والنقاشات المفتوحة. بدون ذلك، يبقى كل مشروع تنموي مهما بلغ حجمهمحض مشهد آخر على مسرح قديم.

خاتمة:

في خضمّ هذا المسح التأملي والتحليلي لأوجه الدولة السورية الراهنة والممكنة، يتضح أن البلاد تقف أمام مفترق مفاهيمي قبل أن يكون سياسيًا: هل تُستعاد الدولة كجهاز مهيمن يُعاد إنتاجه من أعلى، أم كمساحة شراكة تُبنى من القاعدة؟
إن الرهان ليس على النوايا ولا على الصور، بل على القدرة على التحول من سرديات الاحتواء إلى تعاقدات العدالة، ومن مركزية الخطاب إلى تعددية الاعتراف.
لقد بيّن التحليل السابق أن المشهد السوري مُحمّل بالمفارقات، فالإعلام يلمّع دون مساءلة، ومرجعيات دينية تندثر بدل أن تتجدد، وسياسة تُدار بالهمس بينما يتساقط الثقل الرمزي للدولة في أذهان الناس.
وفي مواجهة هذا التعقيد، تصبح الإجابة الوحيدة القابلة للاستمرار هي تلك التي تسترد السياسة من الظل، وتردّ الصوت إلى مجاله، وتعيد للدولة معناها كجسرٍ بين المختلفين، لا كسقفٍ يُلقى على الجميع.
إن سورية الممكنة ليست في متناول اليد، لكنها ليست مستحيلة. هي تنمو في الهامش، في صمت الضحايا، في إصرار المجتمعات المحلية، وفي أصوات لم تتعب من الحلم رغم الخيبة.
ومن هنا، فإن بناء الدولة لا يبدأ بخطاب ولا بيان، بل بقرار جمعي أن لا تكون الذاكرة عبئًا، ولا التعددية تهمة، ولا الحرية استثناء.
فمن الرماد، لا تنبعث الطمأنينة، بل الإمكانية.
ومن الإمكانية، تُولد السياسة مجددًا، بوصفها فنّ العدل، لا إدارة الولاء.

وعليه، وقبل مغادرة المقال، نقدم توصيات مركبة لا تنطلق من رغبة إصلاحية سطحية، بل من منظور فلسفي سياسي يدرك هشاشة اللحظة وضرورة بناء دولة ممكنة:

  1. بناء عقد اجتماعي جديد عبر ميثاق وطني تداولي، ويكون عبر:
  • إطلاق حوار وطني حقيقي ومستدام وغير محدد بسقف زمني، وشفاف تُشارك فيه جميع التيارات الفكرية والمجتمعية والمدنية، لصياغة ميثاق يُعيد تعريف علاقة الدولة بالمواطن.
  • تجاوز السرديات المركزية لصالح رؤية تشاركية تعكس التعدد الديني، القومي، السياسي، والجغرافي في البلاد.

2. تحرير المجال الرمزي من الاحتكار الرسمي عبر:

  • استقلال المؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية عن الجهاز التنفيذي، لتكون مساحات حرة لصياغة المعنى لا أذرعًا للتلقين.
  • تشجيع نشوء مرجعيات معرفية مستقلة (دينية، ثقافية، فنية) تربط المجتمع بمخزونه القيمي لا بمقرّرات رسمية.

3. مأسسة الحق في المعرفة كشرط للسيادة، عبر إقرار قوانين لضمان الشفافية في صناعة القرار والموازنة، وتفعيل آليات مساءلة واقعية للسلطة التنفيذية، إضافة لتحويل الإعلام إلى ساحة نقد عام ومساءلة لا إلى ساحة طمأنينة موجهة، وإشراك المجتمع في إنتاج السرديات الوطنية

4. عدالة الانتقال لا عدالة الوعود، وتكون بإطلاق مسارات عدالة انتقالية تبدأ بالاعتراف بالضحايا وبالمظلومية المجتمعية، وتتدرج نحو المصالحة عبر الإنصاف والتوثيق، لا المحو والنسيان، مع عدم اختزال إعادة الإعمار في الإسمنت والحديد، بل إدماجها ضمن تصور أشمل للتعافي الرمزي والمؤسسي.موقفنا باللامركزية كاملاً ومفصلا في مقال سابق نشره موقعنا الرسمي لـ تيار المستقبل السوري حمل عنوان: "المركزية واللامركزية والخيار الثالث بينهما".

5. اللا مركزية بوصفها ضمانة تنموية لا تهديدًا لوحدة الدولة، بمعنى تبنّي نهج لامركزي حقيقي يمنح للمجتمعات المحلية صلاحيات واسعة في القرار، الإدارة، وإنتاج المعرفة، وتحويل المحافظات من وحدات تنفيذية إلى فواعل تنموية ومعرفية مستقلة ترتبط بالدولة عبر العقد، لا عبر التبعية، وقد ذكرنا موقفنا باللامركزية كاملاً ومفصلا في مقال سابق نشره موقعنا الرسمي لـ تيار المستقبل السوري حمل عنوان: "المركزية واللامركزية والخيار الثالث بينهما".

6. بناء الدولة بوصفها وسيلة لتحقيق الإرادة العامة لا غاية ذاتية، وذلك يتحلى بإعادة تعريف الدولة بأنها فضاء مشترك لتحقيق العدالة والحرية، لا جهاز أمني أو رمزي يُعاد إنتاجه إعلاميًا، وتحديث مفاهيم السيادة والوطنية لتشمل الكرامة، الحرية، وحق الاختلاف، لا مجرد السيطرة على الحدود أو الصور.

إن سورية لا تحتاج إلى "نظام جديد" فقط، بل إلى زمن جديد، زمن تكون فيه الدولة نتيجةً لتوافق مجتمعي طويل النفس، لا لسلطة متخيلة تفرض نفسها بلغة الإنقاذ أو الممانعة أو الانبعاث.
إن مستقبل سورية ممكن فقط حين يُنصت لصمت مجتمعها لا لصخب صورتها.

شاركها على:

اقرأ أيضا

أخبار يوم الأربعاء 2025/07/09م.

تحديثات شاملة عن أخبار يوم الأربعاء 09-07-2025

9 يوليو 2025

إدارة الموقع

سورية والاتحاد من أجل المتوسط: استعادة العضوية أم إعادة تعريف الدور؟

استعادة عضوية الجمهورية السورية تمثل تحولاً سياسياً

9 يوليو 2025

إدارة الموقع