الهجرة النبوية ودروس ما بعد الثورة

استهلال:

تبقى الهجرة النبوية في ذاكرة الأمة لحظةً تأسيسية لا تقل شأنًا عن نزول الوحي؛ إذ مثّلت حالة التحول من الدعوة المقموعة إلى الدولة القائمة، ومن الضعف الفردي إلى التنظيم الجماعي القادر على صياغة المستقبل.

لم تكن الهجرة فعلَ نجاةٍ فردي، بل كانت قرارًا استراتيجيًا مبنيًا على رؤية حضارية، فاتسعت رحمتها لمؤمني قريش ويهود المدينة وحتى المنافقين فيها.

وبقدر ما تحمل الهجرة من رمزية روحية، فإنها تقدّم دروسًا عملية لبناء المجتمعات بعد الانكسار.
واليوم، إذ يمرّ العالم العربي، وسورية خصوصًا، بتجارب ثورية غيّرت البُنى والمفاهيم، يبرز سؤال التأسيس من جديد: كيف ننتقل من الثورة إلى الدولة؟
ومن الغضب إلى العقد الاجتماعي؟
ومن إسقاط الطغيان إلى مشروع العدالة؟
إن الوقوف عند الهجرة بوصفها لحظة تحوّل سياسي وفكري وأخلاقي، لا مجرّد انتقال جغرافي، يفتح الأفق لفهم أعمق لمسؤولية ما بعد الثورة.
فكما أن الهجرة لم تنتهِ بالوصول إلى المدينة، كذلك لا ينبغي للثورة أن تنتهي بإسقاط نظام الأسد؛ بل تبدأ رحلتها الحقيقية في بناء بديلٍ جامع، يرتكز على القيم، ويأخذ العِبرة من السيرة لا الصورة.

تأملات في الفعل التحويلي والنضج السياسي:

حين غادر النبي محمد ﷺ مكة في عام 622م (1 هـ)، ولم يكن ذلك الفرار من اضطهاد قريش فقط، بل كان إعلانًا عن تحول في رؤيته الاستراتيجية العميقة! فمن دعوة تطالب بالحق، إلى مشروع حضاري يسعى لبناء كيان جامع يحفظ الكرامة والحرية والتعدد.
ومن هنا، شكلت الهجرة منعطفًا من حالة الاستضعاف إلى مسار التمكين المنضبط.
ففي مكة، استمر الاضطهاد لأكثر من 13 عامًا؛ قُتلت فيها سمية، وعُذب بلال، ما أجبر بعض الصحابة على الهجرة إلى الحبشة. لكن النبي القائد ﷺ لم يجمد فكرهُ عند ردود الفعل الفردية والمحدودة، بل كان يخطط لهجرة ليست عشوائية عبر:

  • تأمين المدينة كمكان قابل للتحول السياسي بعد بيعة العقبة الثانية (621م، أي قبل الهجرة بعام).
  • تأمين التحالفات المكانية والاجتماعية (الأنصار).
  • الحفاظ على سرية الطريق والإعداد اللوجستي (اختيار الصديق، استخدام عبدالله بن أريقط كدليل طريق، تمويه الأثر عبر أسماء بنت أبي بكر والصغير عبدالله بن أبي بكر).
    تماماً كما جرى بعد خروج السوريين في مظاهراتهم عام 2011، حين وجدوا أنفسهم تدريجيًا في حالة مشابهة لحالة المستضعفين في مكة، ومع حلول عام 2012، بدأ المجتمع الثائر يدخل مرحلة الهجرة القسرية إلى مخيمات الداخل، واللجوء في دول الجوار، وحتى المنافي الأوروبية، لكن التحول السياسي لم يكن ناضجًا حينها، وقد برز سؤال: هل سنبقى في دائرة المظلومية، أم نخطو نحو بناء الكيان؟
    ونلحظ هناك التخطيط النبوي مقابل العفوية الثورية، إذ الهجرة سبقتها ثلاث سنوات من المشاورات والتمهيد في مواسم الحج، ثم انتهت ببيعة العقبة الثانية، التي كانت بمثابة "عقد تأسيسي" بين قيادة الرسول ومجتمع المدينة.
    لم تكن الهجرة مجرد انفعال، بل نتاج وعي سياسي عميق.
    بينما في السياق السوري، ورغم شجاعة الحراك، فإن الكثير من التحولات كانت عفوية أو ردات فعل على الدموية والعنف لا نتيجة تخطيط استراتيجي، مما أفسح المجال لقوى غير مؤهلة أو خارجية لتملأ الفراغ، بدل أن يكون التحول بقيادة وطنية تحظى بشرعية
    بعد الهجرة.
    ثم لم ينشغل النبي ﷺ بالثأر من قريش، بل بدأ مباشرة في بناء اللبنات الأولى للدولة:
  • بناء المسجد كمركز ديني وسياسي واجتماعي (622م).
  • المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار لتأسيس وحدة مجتمعية تتجاوز الجغرافيا.
  • صحيفة المدينة (دستور المدينة) تأسيساً لعقد مدني قائم على التعدد والتكامل.
    فهل نحن مستعدون لتأسيس دار بديلة حقيقية؟ لا مجرد كيان إداري مكرر؟ هل المشروع السياسي الوطني المقترح اليوم قادر على أن يكون “صحيفة مدينة” سورية، تجمع العرب والكرد، المسلمين والمسيحيين، الداخل والخارج، المحافظ والمدني؟
    وإن كانت تجربتنا في المجالس المحلية التي ظهرت في 2012–2014 تشكّل بادرة تنظيمية أولى، فإنها لم تتحول إلى بنية سيادية، بل أُضعفت بسبب التمزقات الجغرافية والتدخلات العسكرية، لهذا نحتاج للشعور بأهمية الانتقال من دار الاستضعاف إلى دار التنظيم، التحول من النية إلى البنية.
    ومن لحاظ الهجرة نرى أنه لم يعلن النبي ﷺ الخلافة أو السيطرة المطلقة بعد الهجرة، بل اتجه نحو بناء القاعدة الاجتماعية، وإدارة الخلافات الداخلية (حضور المنافقين، وجود أهل الكتاب)، وتثبيت شرعية مبنية على التشارك.
    أما في الحالة السورية، فقد تعجل بعض الأطراف قبل التحرير في طرح "النموذج البديل" بسرعة، سواء بصيغ شرعية دينية أو قومية، مما أدى إلى تنازع مراكز السيطرة وانعدام التوافق الوطني.
    إن الهجرة لم تكن نهاية المطاف، بل بدايته.
    ولم تكن مجرد خروج من قهر، بل دخولٌ في مسؤولية!.
    وكذلك الثورة لا يجب أن تتوقف عند لحظة إسقاط نظام الأسد، بل تتخطاه للحظة تأسيس عقد وطني جامع، يُعيد ترتيب القيم والمؤسسات، ويضع المجتمع في موقع الشريك لا التابع.

وعليه، فإن سورية اليوم مدعوة لكتابة "صحيفة المدينة" الخاصة بها، التي تتجاوز لغة الغلبة، وتفتح الباب لمجتمعٍ يتأسس على الحرية المسؤولة، والتعدد المنظم، والعدالة كقيمة حاكمة لا كأداة انتقام.

من الانفجار إلى المشروع:

الثورة ليست لحظة غضبٍ عابر، ولا انفجارًا يُسجّل في التاريخ فحسب، بل هي حالة تحوّل جذري تستدعي وضوح الرؤية، مع عمق الإيمان بالمشروع، والصبر على تدرجات البناء.
وهذا بالضبط ما جسدته الهجرة النبوية التي لم تكن فعل فرار، بل خطوة استباقيةً في التأسيس، وانتقالًا واعيًا من الانفعال إلى الفعل.
فقبل هجرة النبي ﷺ سنة 622م، كان هنالك حراك متدرج لتهيئة الوعي، بدءًا من لقاءات دعوية مع قبائل الأوس والخزرج في مواسم الحج (منذ 620م)، مرورًا ببيعة العقبة الأولى (621م) حيث تعهد 12 رجلًا من يثرب بالإيمان والنصرة، وانتهاءً ببيعة العقبة الثانية التي شارك فيها 73 رجلًا وامرأتان، وشكلت قاعدة سياسية للهجرة.
وفي بداية الثورة السورية مارس 2011، كان الحراك الشعبي يتسم بالعفوية والطهر، لكنه افتقر إلى آلية تدرج مماثلة.
فلم تُبنَ "بيعة عقبة" سورية واضحة تُوّحد الجهود وتُبرم التفاهمات بين الفاعلين الثوريين والمجتمعات المستضيفة (كعشائر دير الزور، أو فعاليات حلب وحمص).
ونتيجة لذلك، دخلت قوى مسلّحة ومناطق تحررت دون عقد سياسي، مما جعل بعض المناطق تتحول سريعًا من "فضاء ثائر" إلى "فراغ سيادي".
إن التضحية دون أفق = تكرار المنفى، وأما الهجرة فبوصلة مشروع، فالصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة (615–616م) ثم إلى المدينة لاحقًا، لم يتحركوا بدافع النجاة وحدها، بل بفهمٍ أنّ التضحية يجب أن تكون لصالح مشروع جامع، والنبي ﷺ رفض الهجرة إلى أي قبيلة رغم طلبات متعددة (قبيلة كندة مثلًا)، لأن المكان لا يكفي، بل يجب أن يكون هناك تعهد بالرؤية والدفاع عنها.
ومئات آلاف السوريين هُجّروا من مناطقهم منذ 2012 (حمص، داريّا، حلب، لاحقًا الغوطة…) دون أن يكون هناك تصور جماعي ما بعد التهجير. لم تكن هناك "هجرة سياسية" بالمعنى النبوي، بل تهجير بلا مشروع جامع. بل إن الشتات السوري، رغم إمكاناته، لا يزال يعاني من غياب البوصلة الجامعة، ما يثير السؤال: هل نملك بيعة تُحوّل المهاجرين السوريين من حالة انكسار إلى طليعة للبناء؟
ومن النصرة العاطفية إلى الشراكة المؤسسية؟
نرى في الهجرة، أن النبي لم يقبل أن يدخل المدينة بدور "قائد غريب" يبحث عن الحماية فقط، بل دخلها بشروط واضحة: القيادة، التعاقد، الشراكة لا الولاء الأعمى.
والأنصار لم يكونوا "جمهورًا مؤيدًا"، بل شركاء تأسيس.
وفي الثورة، كانت العلاقة بين القوى السياسية والعسكرية والمجتمع المحلي ضعيفة، أو قائمة على الولاء العشائري أو الفصائلي لا على ميثاق جامع.
لذلك لم تُبْنَ شراكات حقيقية بين "الفاعلين" و"البيئة الحاضنة".
ومع غياب هذه العلاقة، نُكبت مناطق الثورة مرتين: مرة بالقصف، ومرة بالاقتتال الداخلي.

وبعد أن وصل النبي ﷺ إلى المدينة، لم يبدأ بإعلان السيطرة، بل بترسيخ التدرج في المشروع:

  • أولًا: بناء المسجد (622م) كمركز روحي وسياسي ومكاني.
  • ثانيًا: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، لمعالجة الانقسام الاقتصادي والاجتماعي.
  • ثالثًا: صحيفة المدينة، وهي أول عقد مدني ينظّم العلاقات بين المسلمين واليهود والمنافقين.
  • لاحقًا: غزوة بدر (624م) جاءت بعد عامين، أي بعد تثبيت الجبهة الداخلية.

أما الثوار بعد تحرير إدلب أو شرق حلب، فنجد أنهم سارعوا إلى تشكيل حكومات ومجالس دون توفير أرضية اجتماعية جامعة، ولا بُنى إدارية فعالة.
فلم تُبْنَ "مساجد سياسية" جامعة ولا مؤاخاة مدنية، ولا اتفاقيات منظمة (صحائف مدينة). فدخلت المناطق في دوامة اختطاف الخدمات، وصراع الولاءات، والاحتراب البيني، ما أضعف الحاضنة وأفشل التأسيس.

إن الهجرة ليست فعل طوارئ، بل رؤية منضبطة تحتمل الوقت، والثورة إذا أرادت التمكين، لا بد أن تتحول من شعور إلى فكرة، ومن تمرد إلى مشروع، ومن احتجاج إلى عقد.

والدرس النبوي الأبلغ أن النجاح لا يُقاس بسرعة سقوط النظام القديم، بل بحجم القدرة على تأسيس مشروع جديد قادر على البقاء… مهما تأخر "بدر"، لهذا فإننا نضع محاور المقارنة عبر الآتي:

  1. التدرج في التأسيس:
    ففي النموذج النبوي، سلسلة من التمهيدات (لقاءات الحج – بيعتان – هجرة – مسجد – مؤاخاة – فعقد اجتماعي).

بينما في الواقع السوري، تحررت مناطق فجأة دون استعداد مؤسساتي، ولم تُسبق أو تُلحق بمواثيق محلية جامعة.

  1. القيادة:
    ففي النموذج النبوي، جاءت القيادة بالقبول والبيعة، لا عبر فرض القوة.
    بينما الواقع السوري، تعددت القوى الفاعلة (مدنية وعسكرية) دون تفويض واضح من الشعب.
  2. المؤسسة الجامعة:
    ففي النموذج النبوي كان المسجد مكانًا للعبادة، التشاور، والمراسلات، بينما صحيفة المدينة نظّمت العلاقة بين الطوائف.
    وفي الواقع السوري غياب مؤسسات جامعة أدّى إلى التشرذم وغياب مراكز الإجماع.
  3. إدارة التعدد، من تعايش الأوس والخزرج إلى تنازع الفصائل:
    ففي النموذج النبوي تم احتواء التعدد عبر آليات واضحة، وصحيفة مُلزِمة لجميع الأطراف.
    وفي الواقع السوري غابت الآليات المنظّمة، وتحوّل التعدد إلى صراع حول الشرعية والمصالح.

مِن تجاذبات المدينة إلى انقسامات الواقع:
كما لم تكن المدينة بعد الهجرة جنة خالية من الخلافات، فإن مرحلة ما بعد الثورة ليست نعيمًا سياسيًا تلقائيًا. فالتأسيس الحقيقي يبدأ حين تظهر الفتنة والانقسام؛ فهنا تُختبر القيم، وتُكشف النوايا، وتُبنى الأسس الصلبة، لا في نشوة النصر.

ومن هذا المنطلق، فإن دراسة كيفية إدارة النبي ﷺ للخلافات الداخلية والخارجية بعد الهجرة يقدّم دليلًا واقعيًا وعميقًا لبناء مجتمعات ما بعد الثورة، ومنها الحالة السورية تحديدًا، لهذا فإننا نقدم إسقاطات خمس للاستفادة من ذكرى الهجرة النبوية:

  1. النفاق السياسي، من عبد الله بن أبيّ إلى أدوات الإرباك المدني:
    ففي عام 2 هـ (624م)، بعد الانتصار في بدر، بدأ عبد الله بن أبيّ يُظهر ولاءً ظاهرًا بينما يُضمر التآمر، وتحول إلى رأس حركة النفاق في المدينة، ولم يُبادَر النبي إلى إقصائه، بل وُضعت ضوابط لاحتواء ظاهرته، وصيانة السلم الأهلي، مع مراقبة فعّالة لسلوكه وتحجيم نفوذه.
    وفي المناطق المحررة بعد عام 2012، ظهرت شخصيات وقوى تصدّرت المشهد الثوري خطابيًا، لكنها عمليًا كانت تنفذ أجندات خارجية أو تفرّغ الثورة من مضمونها. والتعامل معها غالبًا ما كان بالفوضى أو التصفية، مما زاد من نزيف الساحة الداخلية.
    فالحل لم يكن في الصدام دائمًا، بل في بناء "بيئة مقاومة للنفاق" من خلال الشفافية، المحاسبة، وقوة المؤسسات، كما فعل النبي ﷺ، وهذا ما يجب أن يُصحح بالمرحلة الراهنة.
  2. التعدد القبلي والديني، من صحيفة المدينة إلى غياب العقد السوري:
    أقرّ النبي ﷺ سنة 1 هـ "صحيفة المدينة"، ونصّت على أن اليهود "أمة مع المؤمنين"، مع الالتزام المتبادل بالحماية والعدل والاحترام. وعند حدوث خروقات (مثل بني قينقاع بعد بدر، ثم بني النضير 4 هـ، وبني قريظة في 5 هـ)، كان التعامل بناءً على بنود الصحيفة، لا على الهوى ولا على الهوية.
    بينما بالمقابل كان لغياب عقد وطني في المناطق المحررة سابقا أن أدّى إلى تحوّل التعدد من مصدر غنى إلى فتنة مستدامة، ولم يكن هناك "صحيفة مدينة سورية" تُحدّد العلاقة بين مكونات المجتمع، لا بين العرب والكُرد، ولا بين الإسلاميين والمدنيين، ولا بين الداخل واللاجئين العائدين. وكل مجموعة تُصنّف الأخرى بناءً على المخاوف والافتراضات، لا على اتفاقات واضحة تُحتَرَم.
  3. خيانة التحالفات وتقلب الولاءات، من بني قريظة إلى تقاطعات الخارج:
    خلال غزوة الأحزاب (5 هـ / 627م)، تحالفت قريش وغطفان، وحاصرت المدينة، ومع اشتداد الضغط، خانت قبيلة بني قريظة ميثاقها وانحازت إلى المحاصِرين، فتعامل النبي ﷺ مع الخيانة بحزم سياسي وقضائي، عبر محاكمة داخلية (بقيادة سعد بن معاذ)، وليس بانتقام غوغائي.
    بينما في سنوات الثورة، دخلت مناطق كثيرة (الغوطة، حلب، درعا…) في تحالفات مع أطراف متعددة؛ بعضها دعمت، وبعضها استغل.
    وعندما خانت بعض هذه القوى حلفاءها في لحظات الحصار أو الاقتحام، لم يكن لدى المعارضة أدوات حقيقية للمحاسبة أو الرد القانوني، بل طغت الانفعالات أو الخطاب العاطفي، وغاب المعيار السياسي الراشد.
  4. فتنة الداخل، من مواجهة المنافقين إلى الاقتتال الفصائلي:
    النبي ﷺ رفض أن يُقتل عبد الله بن أبيّ حتى بعد تصريحاته الخطيرة ("لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل")، وقال: "لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه".
    فاختار أن يحسم الأمر بالزمن والتثبيت الداخلي، لا بالسيف.
    بينما منذ عام 2014، تفاقم الاقتتال بين فصائل الثورة — أحرار الشام، هيئة تحرير الشام، الجيش الحر، وغيرها — بدلاً من بناء آليات سياسية لحسم الخلاف، وبدلاً من احتواء الاختلاف داخل إطار مشروع جامع، فتحوّل الاختلاف إلى تفكك، وفقدت الثورة بوصلتها أمام جمهورها، وإن تم تجاوزها بمرحلة التحرير، إلا ان ترسيخ هذا البعد لازال محتاجاً لجهود أكبر لضمان ديمومته.
  5. إدارة الظرف الطارئ، من حصار المدينة إلى الحصار الإقليمي:
    شكّلت غزوة الأحزاب (627م) أقسى ظرف طارئ على المدينة، فجيش قريش المتحالف مع قبائل عربية، وخيانة داخلية، ونقص في التموين. ومع ذلك، اختار النبي ﷺ الحفر (الخندق) كحل دفاعي جديد لم تعهده الجزيرة (أي فِكر إبداعي لا ارتجال).
    كما بادر لعقد اتفاقية مع بني غطفان لاحتوائهم، دون أن يُضحّي بجوهر المشروع.
    بالمقابل واجهت مناطق مثل الغوطة الشرقية وحلب ظروفًا مشابهة بين 2013–2016: حصار خانق، وتقهقر الدعم، وحصل انقسام داخلي. لكن أدوات المواجهة بقيت تقليدية: قتال أو استغاثة، ولم يُبنَ نموذج بديل كتكتلات شعبية مستقلة، أو مبادرات لتقليل الاعتماد على الخارج، أو تطوير عقد داخلي يُحصّن الجبهة السياسية كما فعل "الخندق".

إن مرحلة ما بعد الثورة، مثل ما بعد الهجرة، ليست خالية من الاضطرابات، لكن العِبرة ليست في وقوع الفتن، بل في طريقة إدارتها.
فكما حوّل النبي ﷺ صراعات المدينة إلى أرضية تأسيس، يمكن لسورية الجديدة أن تحوّل تعددها إلى طاقة تأسيس، وتستفيد من تجربتها زمن الثورة، وذلك إذا توفرت الإرادة.
وإذا كانت الهجرة النبوية بداية الطريق نحو إقامة دولة عادلة، فإن ما تلاها لم يكن مسارًا خاليًا من الانقسامات، بل مليئًا بالتحديات التي كشفت معدن المشروع، ومدى صلابته الأخلاقية والسياسية.
وهذا ينطبق تمامًا على الحالة السورية القادمة، فالثورة ليست هي النصر، بل هي الإعلان عنه.
وما بعد الثورة هو الامتحان الحقيقي للتحول السياسي، والاجتماعي، والقيمي.

إن الهجرة لم تكن فقط انتقالًا من مكة إلى المدينة، بل قفزة نوعية من خطاب الدعوة والمظلومية إلى التأسيس السياسي الكامل، وهذا الانتقال بدأ فعليًا عام 1 هـ مع بناء المسجد والمؤاخاة، وتبلور عام 2 هـ مع أول المواجهات العسكرية (غزوة بدر)، واستمر حتى العام 9 هـ عند بروز الدولة القادرة على التفاوض، كما في "صلح الحديبية" و"وفود القبائل".

وإن المرحلة الحالية في سورية تقف على عتبة مشابهة، فام يعد ممكنًا الاكتفاء بخطاب الثورة وإدانة الاستبداد فقط، بل بات مطلوبًا الانتقال نحو تأسيس الدولة لا كسلطة بديلة، بل كنموذج عقدي واجتماعي، ولكن التحديات التي يجب دراستها:

  • غياب الإجماع الجامع، تمامًا كما كان لابد من بيعة جامعة في العقبة الثانية، فسورية الجديدة تحتاج إلى عقد اجتماعي تتأسس عليه الدولة، لا إلى انقسام فصائلي.
  • معضلة العبور السياسي، فكما لم يكن النبي ﷺ في المدينة مجرد داعية، بل قائدًا مؤسسًا، فلا بد أن تتطور النخب السورية من دور المعارض المندّد إلى المعماري الوطني.
    كما أن الهجرة لم تمحُ الذاكرة الجَرحية، بل واجهتها بالتروي السياسي والضبط الأخلاقي.
    نذكر هنا ثلاث حوادث مفصلية:
  1. أسرى بدر (2 هـ): فبعد الانتصار، اختلف الصحابة في كيفية التعامل مع أسرى قريش، هل يُقتلون أم يُفدَون.
    وقد اختار النبي ﷺ الفداء لمنح فرصة للصفح وتدوير العلاقة.

وبعد سقوط الأسد، لن يكون التعامل مع رموز النظام والمشاركين في الجرائم أمرًا بسيطًا، فالعدالة الانتقالية لا تعني الإعفاء، بل التدرج المحكوم بالقانون والمجتمع، وكذلم ليس بردات الثأر.

  1. معركة أحد (3 هـ): فرغم الهزيمة المؤلمة وسقوط حمزة، لم تتحول المدينة إلى دولة انتقامية، ولم تُعتقل أسر قبيلة قريش في المدينة، بل واصل النبي ﷺ خطاب ضبط النفس والدعوة للحكمة.

وفي حال عودة العشرات من السوريين الموالين للنظام ممن لم تتلطخ أيديهم بالدماء، فستكون مسؤولية القيادة الجديدة هي إدارة التعايش لا تصفية الحسابات.

  1. تعامل النبي مع زيد بن سعد الفهري (أحد قادة بني النضير): فبعد سقوطهم سنة 4 هـ، لم يُقتل الجميع بل نُفيت القبيلة وفق عقد واضح.

وهذا يشبه الحاجة إلى وجود آليات قانونية للفصل بين من مارس الانتهاكات ومن انخرط في المنظومة دون جرمٍ مباشر.

إن الانتقال من الثورة إلى الدولة يتطلب عقلًا تأسيسيًا، لا انفعاليًا، فكما أن الهجرة لم تكتمل بالوصول، بل بالتنظيم والتمكين الأخلاقي، فإن الثورة السورية تحتاج إلى هندسة جديدة، تقوم على التعايش، والعدالة، والتعدد. فالعدالة الانتقالية ليست خيارًا سياسيًا، بل ضرورة أخلاقية تؤسس للسلم الأهلي، وتحمي الثورة من الوقوع في استبداد مضاد.

الخاتمة:

الهجرة روح لا تاريخ، والثورة وعد لا لحظة
فلقد أثبتت الهجرة أنها ليست مجرد انتقال جغرافي بل تحوّل بنيوي في مفهوم الدعوة والقيادة والمجتمع، فلم تكن استراحة مقاتل، بل بداية تأسيس دولة قادرة على العدل وسط الاضطراب، والتوازن وسط الفتنة.

وعلى المنوال ذاته، لا ينبغي للثورة أن تُختزل في لحظة انهيار الطغيان، بل في لحظة التقاء السوريين على مشروع جامع، يتحول فيه الألم إلى وعي، والشتات إلى تصميم، والاختلاف إلى مصدر إلهام لا انقسام.

إن الهجرة قدّمت لنا خريطة طريق واضحة:

  • من الاستضعاف إلى التمكين عبر الصبر والتخطيط.
  • من الفرقة القبلية إلى عقد المواطنة عبر صحيفة المدينة.
  • من الثأر الشخصي إلى العدالة المؤسسية عبر فداء الأسرى ومحاكمة الخائنين.
  • ومن الحنين إلى الماضي إلى هندسة المستقبل بإطلاق قيم جديدة تحكم العلاقات لا الأهواء.

والسؤال لسورية، ليس هل سنسقط الاستبداد وكفى، بل ماذا بعد؟ ومن سيكتب "صحيفتنا"؟
ومن سيبني "مسجدنا السياسي"؟
ومن سيحوّل الشتات إلى قاعدة؟
ومن سيتجرأ على تأسيس دولة تُحاكم لا تنتقم، وتُحاسِب لا تُقصي، وتحتوي لا تستنسخ ما سقط؟

ولأن الهجرة كانت انبعاثًا أخلاقيًا وسياسيًا من قلب المحنة، فإن علينا اليوم أن نستحضرها لا في الخطب ولا في الذكرى، بل في تصميم الدساتير، وترتيب العلاقة بين القوى، وشكل العدالة، وصياغة الحلم السوري القادم.
وبعد أن رسمنا معًا هذه الخريطة الفكرية الممتدة من الهجرة إلى مستقبل سورية، فمن المناسب أن نختتم بمجموعة توصيات عملية تصلح كموجّه للمفكرين، والنشطاء، وصناع السياسات، والمجتمع المدني:

أ‌- توصيات فكرية وسياسية:

  1. تبنّي نموذج الهجرة كإطار تحويلي للتفكير في ما بعد الثورة، لا باعتبارها لحظة رمزية، بل كدليل استراتيجي لإدارة الانتقال من الضعف إلى التمكين، ومن الفوضى إلى التأسيس.
  2. إعداد وثيقة وطنية تأسيسية ("صحيفة مدينة سورية")، تُنظم العلاقة بين المكونات الاجتماعية والسياسية، على أسس العدالة والتعدد والمواطنة المتساوية.
  3. التركيز على بناء الدولة على القيم لا على الانتقام، واستلهام مواقف النبي ﷺ من أسرى بدر، وخيانة بني قريظة، كنماذج للتوازن بين العدالة والحكمة.
  4. الاستفادة من الشتات كقوة تأسيس، لا كقضية إنسانية فقط، وتحويل السوريين في المنافي إلى طليعة بناء الدولة الجديدة عبر تمكينهم من المشاركة السياسية، والدعم المؤسسي.

ب‌- توصيات مؤسساتية وقانونية:

  1. تأسيس هيئة مستقلة للعدالة الانتقالية تضم قضاة ونشطاء وممثلين عن الضحايا، تُشرف على التحقيق والمحاسبة، وتقدم ضمانات للمصالحة العادلة، وهذا ماتم والحمد لله، ويحتاج ترسيخا.
  2. إطلاق حوار وطني مفتوح يستمر على الأقل حتى صياغة الدستور الجديد بالحد الأدنى، لأن التوافق يسبق النص، والاعتراف المتبادل هو أساس أي بناء سياسي.
  3. تمكين المجالس المحلية وتعزيز شرعيتها من القاعدة، عبر آليات انتخاب حرة، وتدريب مؤسساتي، ووصلها بنقاشات العقد الوطني العام.
  4. حماية الفضاء المدني من هيمنة السلاح أو الإقصاء الإيديولوجي، وتأكيد أن الدولة القادمة يجب أن تكون مرجعيتها القانون، لا امتدادًا لسلطة الفصائل أو العصبويات.

ج- توصيات تربوية وثقافية:

  1. إدراج مفاهيم الهجرة والدولة المدنية في مناهج التعليم البديل كوسيلة لتنشئة جيل يستبطن معنى العدالة والمشاركة لا الولاء والخوف.
  2. إنتاج أعمال مرئية وكتابية تروّج لروح الهجرة كبوصلة لبناء سورية، أفلام وثائقية، كتيبات، مسلسلات درامية، أو محتوى بصري رقمي.
  3. إحياء الذكرى السنوية للهجرة كموعد لتجديد النقاش الوطني، وإقامة منتديات حوارية أو مؤتمرات فكرية محلية ودولية مرتبطة بها.

اخيراً، ما أحوجنا اليوم إلى من يفكّر بعقل الهجرة، لا بعقل النفي، ويبني بيد النبوة لا يد الغنيمة، ويوقن أن النصر ليس في سقوط الجدران، بل في بناء البيت المشترك.

شاركها على:

اقرأ أيضا

أخبار يوم الأربعاء 2025/07/09م.

تحديثات شاملة عن أخبار يوم الأربعاء 09-07-2025

9 يوليو 2025

إدارة الموقع

سورية والاتحاد من أجل المتوسط: استعادة العضوية أم إعادة تعريف الدور؟

استعادة عضوية الجمهورية السورية تمثل تحولاً سياسياً

9 يوليو 2025

إدارة الموقع