الشورقراطية

مقدمة:
تشكل الشورى ركيزة أساسية في البنية السياسية الإسلامية، وتعتبر جزءاً أساسياً من الشورقراطية، تتجاوز مجرد آلية عملية لاتخاذ القرار إلى كونها مبدأً وجودياً يعكس رؤية الإسلام لطبيعة السلطة وعلاقتها بالجماعة.

تُعرف الشورى لغوياً بأنها "استخراج الرأي الأنسب بتداول الآراء" كما ورد في لسان العرب، أما اصطلاحاً فهي "بذل الوسع في الوصول إلى الرأي الأصوب عن طريق تقليب وجهات النظر مع أهل التقوى والعلم".
وفي الحديث عن الشورى لا بد من الكشف عن الجذور التاريخية لها في المجتمعات العربية قبل الإسلام، فقد اتسمت المجتمعات العربية قبل الإسلام بوجود أنظمة شورية متطورة تجسدت في "دار الندوة" في مكة التي بناها قصي بن كلاب، وكانت مركزاً لاتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بالسلم والحرب، والزواج، والتجارة، والعلاقات مع القبائل.
كما كان يتم اختيار شيخ القبيلة بالانتخاب الحر المباشر وفق معايير صارمة تتضمن "السخاء، النجدة، الصبر، الحلم، التواضع، والبيان" كما نقل الجاحظ .
إضافة لأنه لم تكن السلطة مرّكزة بيد الزعيم، بل كانت "السُّلطة الفعلية بيد مجلس القبيلة ككل" وفقاً للآلوسي، وكان للفرد الحق في محاسبة الزعيم على أي تقصير .
وقد تميزت الشورى في العصر الجاهلي بخصائص أساسية، على رأسها الطبيعة التوافقية، حيث كانت القرارات تتخذ بالإجماع غالباً، وإن غلبت الأكثرية باستخدام الضغط الاجتماعي، كما عبر الشاعر دريد بن الصمة: "ومَا أنا إلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ غَوَيْتُ وإنْ تَرْشَدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ"، وأيضاً القيود الاجتماعية، ففي دار الندوة، لم يكن يُسمح بدخول غير أبناء قصي أو من بلغ الأربعين عاماً، مع استثناءات قليلة كحكيم بن خزام الذي دخلها في الخامسة عشرة.
وأخيراً الامتداد الحضاري، فقد شهدت الدول اليمنية مجالس شورية متطورة، كما في مملكتي سبأ وحمير، حيث كانت المجالس أكثر تنظيماً في المجتمعات المستقرة منها في البدو الرحل.

وبالانتقال للديمقراطية، تظل أحد أكثر المفاهيم إثارة للجدل في الفلسفة السياسية المعاصرة، حيث يتجاوز تعريفها البسيط "حكم الشعب" – وفق الترجمة الحرفية للأصل الإغريقي (Demos = الشعب، Kratos = السلطة) – إلى إشكاليات تتعلق بآليات الممارسة وحدود المشاركة وعلاقة الأغلبية بالأقلية، حيث يلاحظ بعض الباحثين أن انتشار المصطلح عالمياً صاحبه تمدد دلالي جعله "فضفاضاً وغامضاً"، حتى أن الأنظمة الاستبدادية تبنت الخطاب الديمقراطي شكلياً عبر انتخابات صورية، سنحاول في هذه الورقة، البحث في الشورى والديمقراطية وسؤال إمكانية الجمع بينهما بما أسميناه في تيار المستقبل السوري بـ "الشوراقراطية".

التأسيس النبوي للشورى وتحولاتها المفاهيمية:
نبدأ في قضية التأسيس للشورى من الأسس النصية المقدسة للشورى في الإسلام، فقد أرسى القرآن الكريم مبدأ الشورى عبر آيتين محوريتين:
١- الأمر النبوي: "وشاورهم في الأمر" (آل عمران: 159) الذي نزل بعد غزوة أحد رغم أن نتيجة المشورة أدت إلى الهزيمة، مما يؤكد قدسية المبدأ فوق النتائج.
٢- الصفة المجتمعية: "وأمرهم شورى بينهم" (الشورى: 38) التي قرنت الشورى بإقامة الصلاة، مما يدل على وجوبها الشرعي.
وفي الممارسة النبوية باعتبارها النموذج التطبيقي للقرآن، نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم جسّد الشورى عملياً في مواقف عديدة:
1- غزوة بدر، حيث شاور الصحابة في موقع المعركة ومواجهة العدو.
2- غزوة أحد، إذ نزل عن رأيه الشخصي (البقاء في المدينة) لرأي الأغلبية (الخروج للعدو).
3- غزوة الخندق، حيث استشار سلمان الفارسي في فكرة حفر الخندق.
4- أمور المجتمع، فلقد شاور في سَنِّ الأذان، وقصة الإفك، وشؤون الأسرة ونحوهم.
وقد وصف أبو هريرة هذا المنهج بقوله: "ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من النبي صلى الله عليه وسلم"، هذه الممارسات هي التي أسست لتحول جذري في مفهوم الشورى من كونه عرفاً قبلياً إلى فريضة دينية.
هذا، وقد أحدث الإسلام تحولات نوعية ثلاثة في مفهوم الشورى:
الأول، التعميم، فقد تحولت من مجال السياسة إلى "منهج حياة" يشمل الاجتماعي والاقتصادي والعلمي.
الثاني، التكريس الديني، حيث أصبحت "لازمة من لوازم المسلمين في كل أحوالهم" كما يرى القاضي عبد القادر عودة.
الثالث، التوازن، حين أصبحت الشورى "أداة توازن بين حرية الفرد ونظام الجماعة" وفقاً للدكتور توفيق الشاوي.
وفي التطور التاريخي في العهد الراشدي والأموي للشورى، نجد النموذج الراشدي، ويمكن إتخاذ عمر بن الخطاب أنموذجاً لطول مدة خلافته، كما ولأنه بلغت الشورى ذروتها في عهد الفاروق عمر الذي جعلها أساساً للحكم، حيث كانت الأسس النظرية واضحة في قول عمر: "لا خير في أمر أبرم من غير شورى"، و"يحق على المسلمين أن يكون أمرهم شورى بينهم" .
وأما الآليات العملية، فكانت واضحة في التوسع في دائرة المستشارين لتشمل الشباب مثل عبد الله بن عباس، واستشارة النساء كما استشار ابنته حفصة أم المؤمنين، والتخصص في المشورة حين استشارة عمرو بن معد يكرب في الشؤون العسكرية، كما طوّر عمر نظاماً يشبه "المجالس الدستورية" حيث يعرض الأمر على العامة ثم على مجلس خاص من كبار الصحابة.
هذا وقد شهد العصر الأموي والعباسي تحولات مهمة يمكن جمعها بثلاثة مرتكزات:
١- الاستمرارية النسبية، إذ حافظ معاوية على "بيت الحكمة" في دمشق كمركز للعلم والمشورة.
٢- الازدهار العباسي، حيث طوّر المأمون "بيت الحكمة" في بغداد (القرن 9م) ليكون مجمعاً علمياً يضم مترجمين وعلماء من مختلف التخصصات، مع نظام للترجمة والبحث الجماعي.
٣- الانفتاح الثقافي، ويتجلى باستعانة الخلفاء بغير المسلمين في المشورة العلمية، كحنين بن إسحاق الطبيب النسطوري الذي ترجم أعمال جالينوس .

على أن مركزية الشورى في الفكر السياسي الإسلامي اليوم تقوم على:

  1. الأسس الكلامية والفقهية، إذ تطورت نظريات الشورى في الفكر الإسلامي حول محورين أساسيين، الأول، الإلزامية، فقد اختلف الفقهاء بين القائلين بإلزامية الشورى (المودودي، سيد قطب، الغزالي) والقائلين بأنها مُعلمة فقط، إلا أن الرأي الذي يُفضل كما يبدو هو الإلزامية.
    الثاني، المجال، حيث اتسع مفهوم الشورى ليشمل "السياسي" كاختيار الحاكم ومراقبته، والاجتماعي مثل "إزالة الطغيان في منهج الأسرة"، والاقتصادي كنظم التوزيع والإنفاق.
    ٢. إسهامات المفكرين المعاصرين، فقدم مفكرو القرن العشرين قراءات تجديدية، فالغنوشي اعتبر الشورى "العمود الفقري في سلطان الأمة" و"أصل من أصول الدين". وأما سيد قطب، فقد رأى أنها "أصل من أصول الحياة في الإسلام" تتجاوز السياسة إلى كل مجالات الحياة، كما وأكّد المودودي على إلزامية الشورى وضرورة الأخذ برأي الأغلبية.
    يظهر إذاً أن الشورى تُمثل نواة الفلسفة السياسية الإسلامية، وتجمع بين الأصالة والمرونة، فمن جذورها القبلية في دار الندوة، إلى تأسيسها النبوي كفريضة دينية، وتطورها في العهد الراشدي إلى نظام شبه مؤسسي، ثم ازدهارها في بيت الحكمة في العهدين الأموي والعباسي، وصولاً إلى إعادة اكتشافها في الفكر الإسلامي الحديث كبديل إسلامي للديمقراطية الغربية، فظلت الشورى بذلك تمثل الإجابة الإسلامية على إشكالية السلطة وعلاقتها بالمجتمع.

وإذا كان الفكر السياسي المعاصر يواجه تحديات عديدة كالاستبداد والتبعية الفكرية، فإن إحياء نموذج الشورى المتكامل الذي يجمع بين الثوابت الشرعية والمرونة الإجرائية، وبين سلطان الأمة واختصاص العلماء، قد يُشكِّل مُدخلاً لإعادة بناء النسق السياسي الإسلامي المعاصر. فالشورى ليست مجرد آلية سياسية، بل هي "فريضة سياسية واجبة" كما سماها المصلحون، و"ذنب سياسي" يقع بتركها ، وهي فوق هذا كله تجسيد عملي لخلافة الإنسان في الأرض التي تقوم على التشارك لا الاستبداد، والحكمة لا القوة.

الشورى والديمقراطية، تماثلات وتمايزات في الفكر السياسي المعاصر:
في إطار الإشكالية، تشغل العلاقة بين الشورى الإسلامية والديمقراطية الغربية حيزاً مركزياً في النقاش السياسي الإسلامي المعاصر، فبينما تنطلق الشورى من مرجعية دينية تجعل التشاور فريضة ملزمة، تقوم الديمقراطية على فلسفة العقد الاجتماعي والسيادة الشعبية، لهذا من الضروري أن نبحث في نقاط التماثل والتباين الجوهرية، وتقييم إمكانية التكامل بينهما في سياق الدولة الحديثة، من خلال الأُسُس المفاهيمية الآتية:

  1. الماهيات التأسيسية، فالشورى تُعرف في الفقه الإسلامي بأنها "استخراج الرأي الأصوب عبر تبادل الآراء بين أهل الاختصاص والعدالة ضمن ضوابط الشرع"، ويؤكد ابن عاشور أنها "أصل كلي من أصول الحكم في الإسلام".
    وأما الديمقراطية، يُعرِّفها شومبيتر كـ "آلية تنافسية لاختيار النخب الحاكمة عبر الصندوق الانتخابي"، تتركز سيادتها في الإرادة الشعبية كمصدر وحيد للتشريع.
  2. المصادر الفكرية، حيث تستمد الشورى شرعيتها من النصوص القرآنية الصريحة التي مرّ بعضها، بينما ترتكز الديمقراطية على إرث فلسفي غربي تجسده أعمال روسو في "العقد الاجتماعي" ومونتسكيو في "فصل السلطات".
    وفي الحديث عن أوجه التماثل الوظيفية بين الشورى والديمقراطية، فهي تبدو بالآليات والوظائف الحمائية.

أما آليات الحكم المشتركة ففي:
١- المشاركة الشعبية، فكلا النظامين يرفضان الاحتكار الفردي للسلطة.
فالشورى تُلزم الحاكم بمشورة أهل الحل والعقد، كما تفرض الديمقراطية التمثيل النيابي.
٢- الرقابة والمحاسبة، حيث أرسى الإسلام مبدأ "الحُسبة" (محاسبة الحاكم)، فيما طورت الديمقراطية آليات مثل الاستجوابات البرلمانية وسحب الثقة.
٣- تعددية الرأي، إذ يعترف كلا النظامين بشرعية الاختلاف، فالأثر الديني: "اختلاف أمتي رحمة" يقابل مبدأ التعددية الحزبية في الديمقراطية.

وأما الوظائف الحمائية، فتهدف الشورى إلى كبح الاستبداد عبر تحويل القرار من الفرد إلى الجماعة، وهو ما ينسجم مع تحذير جون ستيوارت ميل من "طغيان الأغلبية" في الديمقراطية، كما يُحقق النظامان "المصلحة العامة" بآليات متوازية: استشارة الخبراء في الشورى مقابل اللجان البرلمانية المتخصصة في الديمقراطية.

وفي الحديث عن الفروقات الجوهرية يمكن تقسيمها على النحو الآتي:

  1. الإطار المرجعي: فمصدر الشرعية في الشورى هي أن السيادة للشرع، فـ "إنْ الحكمُ إلاّ لله" (يوسف: 40)، والديمقراطية تكون السيادة فيها للشعب، فالإرادة العامة هي مصدر التشريع.
    وأما حدود التغيير، فالشورى تُقيّد القرارات بالثوابت الشرعية (كالحدود والأحوال الشخصية)، بينما تمنح الديمقراطيةُ البرلمانَ سلطة مطلقة في التشريع، حتى لو ناقضت قوانين سابقة.
  2. شروط المشاركة، حيث تشترط الشورى في المُستشار: العلم بالشريعة (ابن تيمية: "لا شورى مع جهل")، إضافة إلى العدالة الأخلاقية.
    بينما تقصُر الديمقراطية المعايير على الشروط الإجرائية (العمر، الجنسية).
  3. نماذج التطبيق التاريخي ترينا فشلها في معظم تجارب "الديمقراطية الإسلامية" (كالسودان وإيران) في التوفيق بين الآليتين، ففي السودان أُجهضت التجربة الديمقراطية (1986-1989) بسبب صراع الإسلاميين والعلمانيين، وفي إيران يعلو مجلس صيانة الدستور (المكون من فقهاء) على البرلمان المنتخب.

وفي الحديث عن إمكانات التكامل وشروطه فإننا نرى أموراً ثلاثة يجب ملاحظتها:

  1. نظريات الجمع بين النظامين، مثل نظرية "التوظيف الإجرائي"، حيث يتم تبني آليات الديمقراطية (انتخابات، برلمان) وتقييدها بالإطار القيمي الإسلامي، والعمل على التأصيل الشرعي لها كما فعل طه عبد الرحمن بإعادة صياغة المفاهيم الديمقراطية بلغة إسلامية، وربطها بمقاصد الشريعة كالعدل والحرية.
  2. التحديات العاصفة، وعلى رأسها الإشكالية الدينية، حيث تعارض "الحاكمية لله" بحسب تنظير سيد قطب مع "سيادة الشعب"، والإشكالية القانونية من خلال تصادم القوانين الوضعية مع النصوص القطعية، وأيضاً الإشكالية السياسية مثل استغلال الديمقراطية لتعزيز الاستبداد.
  3. شروط التكامل الناجح يكمن في التفريق بين الآليات والأيديولوجيا، مثل اقتباس الآليات الديمقراطية (كالتصويت)، ونقد الفلسفة المادية المصاحبة لها.
    ومثل المرجعية الدستورية بجعل الشريعة المصدر الأساسي للتشريع، ومنح المؤسسات المنتخبة صلاحية الاجتهاد في المساحات الاجتهادية.
    ومثل الضمانات المؤسسية كالهيئات القضائية المستقلة لمراقبة دستورية القوانين، ومجالس علمية استشارية غير معطلة للإرادة الشعبية.

ورغم الاختلافات العميقة بين الشورى والديمقراطية في مصادر الشرعية وحدود السلطة، فإننا نرى أن التكامل العملي ممكن عبر:

  1. تحديث الشورى، مع تبني المؤسسية والتمثيل الشعبي، وتوسيع دائرة المستشارين لتمثيل كافة الفئات.
  2. أسلمة الديمقراطية (إن صح التعبير)، فهي تبقى نظاماً بشرياً قابلاً للتطوير غير مقدس ولا مقولب بشكل جامد لا يُراعي الخصوصيات الثقاقية للبشر، وذلك من خلال ضبط آلياتها بالثوابت الأخلاقية الإسلامية، وربط السيادة الشعبية بالمسؤولية أمام الشرع.
  3. الاستفادة من التجارب الناجحة، فالنموذج الماليزي استطاع أن يوازن بين الإسلام والديمقراطية في إطار دستوري.
    والتجربة التونسية، إذا استبعدنا الظرف الراهن، يتحلى في التوافق بين الإسلاميين والعلمانيين على دستور 2014.
    هذا، ويظل التحدي الأكبر هو تجاوز الجدل الأيديولوجي لصالح "العملية التداولية" التي تُحقق مصالح الناس، فـ "الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها"، كما أن الشورى والديمقراطية ليستا نقيضين، بل هما وجهان لرغبة إنسانية واحدة وهي: مقاومة الاستبداد.

حول الشورقراطية:
يبدو أن أول من نَظَّر لمصطلح "الشورقراطية" عموماً هو الزعيم الإسلامي الجزائري محفوظ نحناح، رئيس حركة مجتمع السلم (حمس)، وذلك في سياق الحوار السياسي في الجزائر مطلع تسعينيات القرن العشرين، حيث صاغ نحناح المصطلح خلال حوار مع الحكومة الجزائرية عام 1991م، بهدف تقديم نموذج وسطي يجمع بين المبادئ الإسلامية والآليات الديمقراطية، وجاء هذا كردٍّ على الانتقادات التي وُجِّهت للإسلاميين بشأن التوافق بين الإسلام والديمقراطية، حيث رأى نحناح أن "الشورقراطية" تمثل مسارًا لتجنب الاستقطاب بين التطرف الديني والعلمانية، حيث اقترح نحناح المصطلح ليعبّر عن نظام حكم يُطبِّق مبدأ "الشورى" (كأصل إسلامي) عبر آليات ديمقراطية حديثة مثل الانتخابات والتعددية، ولاحقاً طور الدبلوماسي الألماني مراد هوفمان (اعتنق الإسلام) المصطلح في كتابه "الإسلام في الألفية الثالثة" (2000)، معتبرًا إياه نموذجًا للحكم الإسلامي المعاصر، لكن نحناح يُعتبر الأبرز في نشر المفهوم سياسيًا.
ويرى غسان خالد في كتابه "البدوقراطية: قراءة سوسيولوجية في الديمقراطيات العربية" أن إشكالية تطبيق الديمقراطية الغربية في المجتمعات العربية تتمثل بأن البيئة الاجتماعية والسياسية العربية تختلف جوهريًا عن الغربية، مما يجعل نقل النموذج الديمقراطي الغربي "إسقاطًا فاشلًا".
وبدلًا من ذلك، يطرح مفهوم "البدوقراطية" لوصف النظام السياسي العربي القائم على الذهنية القبلية والبنية الاجتماعية التقليدية، إذ يرفض الخالد اختزال الديمقراطية في الانتخابات وتداول السلطة، مؤكدًا أن غياب مراعاة البيئة الاجتماعية (مثل البنية القبلية والدينية) والظروف التاريخية يجعلها شكلًا دون جوهر، لهذا يطرح البدوقراطية كمفهوم بديل باعتباره نظاماً سياسياً يعكس "الذهنية القبلية" العربية، حيث تُدار الممارسة السياسية عبر آليات مثل "القبلية السياسية" (كما سماها عالم الاجتماع خلدون النقيب)، لهذا فإنه يُفند محاولات التوفيق بين الديمقراطية الغربية والمفاهيم المحلية (مثل "الشورقراطية" التي تدمج الشورى الإسلامية والديمقراطية)، ويشير إلى فشلها بسبب عدم مراعاة التعقيدات الاجتماعية العربية ، فبرأيه سيُنتج المزج بين الدين والبنية الاجتماعية العربية منظومة قيم مغلقة، تُعيق استيعاب المفاهيم الديمقراطية وتُكرس الذهنية المحافظة.
يُصوِّر غسان خالد في كتابه "البدوقراطية" التكاملَ بين الشورى الإسلامية والديمقراطية الغربية كمشروعٍ فاشلٍ مستندًا إلى اختلاف البنى الاجتماعية والتاريخية بين المجتمعات العربية والغربية.
فبينما يُعتبر نقده للديمقراطيات الشكلية في العالم العربي تحليلًا قيمًا، فإن تعميمه فكرة "استحالة التكامل" يحتاج إلى تمحيصٍ من منظور الفكر السياسي الإسلامي والتجارب التاريخية والمعاصرة.
فاختزال الديمقراطية في النموذج الغربي واضح بأطروحته، حيث يُغفل خالد حقيقة أن الديمقراطية كمنظومة قيم (المساواة، المشاركة، المساءلة) ليست حكرًا على الغرب.
ففي التراث الإسلامي، تُشكِّل مبادئ الشورى كآليةٍ لصنع القرار الجماعي.
والبيعة كعقدٍ توافقي بين الحاكم والمحكوم، والعدل كغايةٍ عليا للحكم (كقول عمر بن الخطاب: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟").
هذه المبادئ تُظهر توافقًا جوهريًا مع القيم الديمقراطية، كما يؤكد عبد الوهاب المسيري أن الديمقراطية "آلية محايدة" قابلة للتجسيد في سياقات ثقافية مختلفة.
ويُهمل الكتاب التطورَ التاريخي لمؤسسة الشورى، ففي العهد النبوي كان التشاور في الغزوات (بدر، أحد)، وفي عهد الخلفاء الراشدين: آلية اختيار الخليفة عبر أهل الحل والعقد (تمثيلٌ مجتمعي)، وفي العصر العباسي: ظهور "ديوان المظالم" للمحاسبة.

إن هذا التطور يدل على مرونة الشورى وقدرتها على استيعاب آليات حكم معاصرة، كما يرى محمد عابد الجابري أن الشورى تمتلك "قابلية للتحديث المؤسسي".
إن النموذج التكاملي، أو الممكن والمطلوب يتجلى بـ:

  1. التكامل القيمي، حيث تتقاطع الشورى والديمقراطية في مرتكزات أساسية: مثل الشرعية الشعبية، فالبيعة الإسلامية والعقد الاجتماعي الديمقراطي يُؤسسان لشرعيةٍ تستند إلى الرضا الشعبي.
    ومثل العدالة كغاية مشتركة (يقول ابن تيمية: "إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة…").
    ومثل المساءلة، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتوازيان مع آليات المساءلة الديمقراطية.
  2. التكامل المؤسسي، فيمكن بناء نموذج هجين عبر آليات ديمقراطية أساسية: انتخابات حرة، تعددية حزبية، فصل السلطات.
    وأيضا عبر ضوابط شورية، مثل إنشاء "مجلس القيم العليا" (منتخب من علماء ومختصين وممثلي مجتمع مدني) لمهام:
    • مراقبة اتساق القوانين مع مقاصد الشريعة (العدل، الكرامة، المصلحة العامة).
    • منع سن قوانين تتعارض مع الثوابت الأخلاقية للأغلبية دون فرض رؤية دينية شمولية.
    ثم بدلاً من رفض التكامل، يمكن تبني "ديمقراطية تدرجية" تراعي الخصوصية، ففي مرحلة أولى يتم تعزيز اللامركزية والمجالس المحلية، ومرحلة متوسطة يتم بها تطوير مؤسسات المجتمع المدني، ومرحلة متقدمة يكون بها دمقرطة كاملة مع ضوابط ثقافية.

إن المغرب يُقدم نموذجًا عمليًا لهذا المسار التدرجي رغم تعثره، كما يوضح عبد الإله بلقزيز في "المسألة الديمقراطية في العالم العربي".
ويؤكد هنا الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه "في فقه الدولة الإسلامية" أن "جوهر الديمقراطية (المشاركة، المحاسبة) لا يتعارض مع الإسلام، بل هو من صميمه. الإشكال في ربطها بالإلحاد أو الانحلال الأخلاقي".
ويرى راشد الغنوشي أن "الشورى هي الجذر التاريخي للديمقراطية، والديمقراطية هي التطور التاريخي للشورى في العصر الحديث" (بكتابه "الحريات العامة في الدولة الإسلامية").
لاشك أن أطروحة خالد تُقدم نقدًا مفيدًا للديمقراطية الشكلية، لكنها تبالغ في:

  1. تحويل الإخفاقات إلى حتمية ثقافية.
  2. تجميد الشورى في نموذج تاريخي غير قابل للتطور.
  3. إنكار قدرة المجتمعات على التكيف.
    ولهذا فإننا نرى في تيار المستقبل السوري أن النموذج التكاملي المقترح هو توليفٌ خلاق بين الجذور القيمية الإسلامية والآليات العصرية، كما يجسده قول مالك بن نبي: "لا نستورد الآلات ونهمل الروح، ولا نتمسك بالروح ونرفض الآلات".

خاتمة:
نزعم أن تيار المستقبل السوري هو أول من أطلق مصطلح "الشورقراطية" في سورية، عبر كلمةٍ ألقاها رئيسه الدكتور زاهر بعدراني، وذلك بعد التحرير من النظام السوري البائد، خلال ورشة العمل الوطني الأولى التي عقدها تيار المستقبل السوري يوم الجمعة بتاريخ 202/02/21م، في فندق "إنانا" بقلب العاصمة السورية دمشق، حيث ضمت مختلف الشرائح السورية من شخصيات وطنية سياسية وإعلامية واجتماعية، وممثلين عن كيانات وأحزاب سياسية من جميع المحافظات، وخاصة من مدينة دمشق وريفها، إضافةً لكوادر تيار المستقبل السوري في الشمال، وكانت الطاولة التاسعة للورشة بعنوان: التحول الشورقراطي.

وإنطلاقا من هذا الموقف، فإننا في قسم البحوث والدراسات لـ تيار المستقبل السوري يوصي بالآتي:

  1. التأسيس الدستوري والتوازن بين الهوية والمواطنة، من خلال تجنب المركزية المفرطة، واستلهام درس الجمهورية العربية المتحدة (1958-1961) التي فشلت بسبب إلغاء الخصوصية السورية لصالح النموذج المصري المركزي، لهذا نرى أن يكرس الدستور الجديد مركزية تعاونية كما اقترحناها في ورقة سابقة منشورة عبر موقعنا الرسمي بعنوان: "المركزية واللامركزية والخيار الثالث بينهما"، حيث تعترف بتنوع المناطق السورية. إضافة لصياغة هوية وطنية تجمع بين الإسلام كمرجعية قيمية والمواطنة كأساس للحقوق، مع تجنب النموذج البعثي الذي جعل الحزب "قائد الدولة" كما في دستور حافظ الأسد.
    وأيضاً إنشاء هيئة مستقلة (منتخبة لا معينة) تراقب اتساق القوانين مع مقاصد الشريعة (العدل، الكرامة، المصلحة العامة ونحوها)، دون فرض وصاية دينية شمولية.
  2. تفكيك إرث "البدوقراطية" وبناء المؤسسات، عبر مواجهة العصبيات الطائفية، فنظام الأسد حوَّل الطائفية إلى أداة حكم عبر هيمنة الضباط العلويين البعثيين، لهذا فإن العلاج يكون بـ:
  • إلغاء تسييس الهويات عبر قوانين تجرّم التمييز.
  • تضمين جميع المكونات والأغليا في السلطة بعد عقود من القمع.
  • إصلاح الجيش والأمن، عبر تحويل المؤسسة العسكرية من أداة قمع (كما في قمع الاحتجاجات 2011) إلى مؤسسة وطنية محايدة.
  1. آليات الشورى التشاركية، والانتقال من النظرية إلى الممارسة من خلال المجالس المحلية كأساس، وتطبيق نموذج "الديمقراطية التدرجية" الذي يبدأ بتمكين المجالس المحلية (كما في تجربة المغرب) خاصة بعد تفتت السلطة المركزية.
    إضافة لضمان تمثيل كل التيارات (إسلامية، علمانية، كردية … إلخ) في البرلمان القادم عبر نظام انتخابي نسبي يمنع هيمنة أغلبية طاغية، مع إعطاء حصص للنساء والشباب في القوائم الانتخابية.
    وبناء مجالس أهل الحل والعقد المعاصر، وإحياء هذه الآلية عبر إنشاء مجالس استشارية مستقلة (علماء، نقابات، أكاديميين) تُدخل الرأي الخبير في صنع القرار، بعيدًا عن الاحتكار الأمني.
  2. الاقتصاد، وجعل العدالة ضمان للاستقرار من خلال محاربة اقتصاد الريع، عبر إعادة توزيع الثروة وسن ضرائب تصاعدية. إضافة لدعم المشروعات الصغيرة في المناطق المهمشة. والشفافية في الموارد بتمكين هيئة وطنية لمكافحة الفساد، مع رقابة شعبية على عقود إعادة الإعمار.
  3. السياسة الخارجية، وضرورة التوازن بين الخصوصية والانفتاح، عبر تجنب سياسات النظام البائد التي جعلت سورية ساحة للصراعات الإقليمية (كالتدخل في لبنان والعراق)، والاستمرار في اعتماد رؤية وزارة الخارجية التي يرأسها اليوم معالي وزير الخارجية، والتي تقوم على بناء علاقات مع دول الجوار (الأردن، تركيا، العراق) عبر آليات مثل "اجتماعات دول الطوق السوري" ، مع الحفاظ على السيادة.
  4. تجديد الخطاب الديني بتجنب الاستقطاب، وعدم تكرار خطأ نظام الأسد في توظيف الدين لتبرير السلطة، مع تبني نموذج الفصل بين العمل السياسي والمرجعية الدينية المباشرة، مع التركيز على القيم المشتركة (العدل، الشفافية).
    وما يستتبع ذلك من إصلاح التعليم كله، عبر إدخال مناهج تعزز قيم الشورى والنقد البناء، بدلًا من ثقافة الطاعة العمياء.
  5. ضمانات الاستدامة، والانتقال من الفوضى إلى التسامح، وقيام مصالحة وطنية شاملة وحقيقية تجنب الانتقام، مع التشدد بضمان حقوق المسيحيين والعلويين والدروز عبر قوانين تجرّم التكفير، وباعتبار ذلك دليل عافية وقوة للدولة.
    وأخيراً، إنشاء منصات إعلامية تعكس تعددية الرأي، بعيدًا عن احتكار النظام السابق للإعلام.

إننا نرى "الشورقراطية" ليست تلفيقًا بين الشورى والديمقراطية، بل هي توليف حضاري يجمع بين أصالة المبدأ الإسلامي ومرونة الآليات العصرية، فالشورى هي الجذر التاريخي للديمقراطية، والتجربة السورية تتطلب اعترافًا بأن الاستبداد دمر نسيج المجتمع، وأن العلاج ليس في استبداد جديد باسم الدين، بل في عقد اجتماعي جديد يجمع بين العدل والحرية.

المراجع:

  1. الجابري، محمد عابد، (1990). الديمقراطية وحقوق الإنسان، مركز دراسات الوحدة العربية.
  2. الغنوشي، راشد، (1993). الحريات العامة في الدولة الإسلامية، دار الشروق.
  3. القرضاوي، يوسف، (1997). في فقه الدولة الإسلامية، دار الشروق.
  4. المسيري، عبد الوهاب، (2002). الديمقراطية ومسألة الشرعية، دار الهلال.
  5. بلقزيز، عبد الإله، (2007). المسألة الديمقراطية في العالم العربي، الشبكة العربية للأبحاث.
  6. مهنا، محمد جميل، (2015). الشورى في الإسلام: من النظرية إلى الممارسة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
  7. عبد الفتاح، ناصيف، (2018). التجربة التونسية: الإسلام والديمقراطية، مركز الجزيرة للدراسات.
  8. الزين، خليل، (2020). الانتقال الديمقراطي في المغرب: التحديات والآفاق، مجلة المستقبل العربي.
  9. غنيمة، هاني، (2021). النظم السياسية الهجينة: دراسة في النموذج الماليزي، مجلة السياسة الدولية.
  10. خالد، غسان، (2019). البدوقراطية: قراءة سوسيولوجية في الديمقراطيات العربية، دار الرافدين.
  11. ابن عاشور، محمد الطاهر. مقاصد الشريعة الإسلامية.
  12. عبد الرحمن، طه. روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية.
  13. العوا، محمد سليم. في النظام السياسي للدولة الإسلامية.
  14. شومبيتر، جوزيف. الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية.
  15. Huntington, Samuel. The Third Wave: Democratization in the Late Twentieth Century.
  16. "إشكالية العلاقة بين الشورى والديمقراطية"، مركز الجزيرة للدراسات، 2019.
  17. "الدستور التونسي: التوافق المستحيل"، معهد كارنيغي، 2014.
  18. حميد علي اسكندر، "الديمقراطية: جذورها الفلسفية وتطورها إلى نظام سياسي"، مجلة رؤى، 2020.
  19. توفيق الشاوي، "الدولة الديمقراطية في الفلسفة السياسية والقانون"، دار المركز الثقافي العربي، 2014 .
  20. "الديمقراطية – Democracy"، الموسوعة السياسية، 2022 .
  21. الإسلام أونلاين. "الشورى والوعي القبلي في العصر الجاهلي".
  22. المجلس الإسلامي السوري. "دراسة الشورى وتطبيقاتها المعاصرة".

شاركها على:

اقرأ أيضا

أخبار يوم الأربعاء 2025/07/09م.

تحديثات شاملة عن أخبار يوم الأربعاء 09-07-2025

9 يوليو 2025

إدارة الموقع

سورية والاتحاد من أجل المتوسط: استعادة العضوية أم إعادة تعريف الدور؟

استعادة عضوية الجمهورية السورية تمثل تحولاً سياسياً

9 يوليو 2025

إدارة الموقع