الشيخ الدكتور إحسان بعدرانيالمكتب الدينيحاجتنا إلى فقهٍ جديدسلسلة القراءة المطلوبة (6)مقالات دينية

14- المصلحة، وفقه المصلحة: د.إحسان بعدراني

المصلحة وفقه المصلحة في حياة الصحابة والتابعين والأئمة:
قال تعالى: “لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة” [الأحزاب: 21].
هذه الآية الكريمة تدل على استحباب التأسي والاقتداء برسول الله ﷺ وليس على الوجوب، كما أجمع على ذلك المفسرون. فليس من الواجب مثلًا أن نقتدي به ﷺ في كل شيء – وإن قال بعضهم بخلاف ذلك فهو مما لا يعتد به، فالنص واضح لا غبار عليه، وفيه دلالة على تنظيم حركة الفعل حسب ظرفي الزمان والمكان وطبيعة القيم الفكرية والثقافية في حياة وسيرة رسول الله ﷺ من خلال نزول رسالته الإلهية – فندعو إلى الله سرًا، ثم ندعو إلى الله جهرًا كما روي في كتب السيرة، وليس من الواجب أن نظل ثلاثة عشر عامًا في الفترة المكية كما فعل ﷺ، وليس من الواجب أن نهاجر كما هاجر، وليس من الواجب أن نغزو سبع عشرة غزوة أو تسع عشرة غزوة كما غزا ﷺ في الجزيرة العربية، وهذا ما ذهب إليه د. يوسف القرضاوي في كتابه “كيف نتعامل مع السنة النبوية الشريفة”.

ومن الواجب أن نقف عند سيرة بعض الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ممن رأى المصلحة التي رُوعيت في عهد الرسالة قد تغيرت والأمثلة كثيرة.


1- كما فعل عمر رضي الله عنه مع بلال بن الحارث المزني في الأرض التي أقطعه إياها رسول الله ﷺ، وهي أرض العقيق، واد بالقرب من المدينة المنورة، ذو مساحة واسعة، استقدمه عمر رضي الله عنه في خلافته وقال له: “استقطعت رسول الله ﷺ أرضًا طويلة عريضة فأقطعك إياها، وإن رسول الله ﷺ كان جوادًا لا يمنع شيئًا يُسأله، وأنت لا تطيق ما في يديك،” فقال: “أجل.” فقال عمر رضي الله عنه: “فانظر ما قويت عليه منها فأمسكه، وما لم تقو عليه فادفعه لنا نقسمه بين المسلمين،” فقال بلال: “لا أفعل والله، ولا أفرط في شيء أقطعنيه رسول الله ﷺ.” فقال عمر رضي الله عنه: “والله لتفعلن،” وأخذ منه ما عجز عن عمارته، فقسمه بين المسلمين.
إن مجرد السوابق العملية في السيرة لا تحمل صفة الإلزام التشريعي، وكل ما في الأمر، أنها هي المناسبة لزمانها ومكانها، فإذا تغيرت العلل تغير ما بني عليها.

2- قال تعالى: “إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا” [التوبة: 58]. وكما فعل عمر رضي الله عنه مع المؤلفة قلوبهم منهم: الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن حين لم يوافق أبا بكر رضي الله عنه على إعطائهما أرضًا من مال الصدقة، فقال لهما: “إن رسول الله ﷺ كان يتألفكما والإسلام يومئذ قليل – أي في القوة – وإن الله قد أغنى الإسلام اذهبا فاجتهدا جهديكما،” وهذا يندرج تحت عنوان “العلل النفعية”، في الوقت الذي كان رسول الله ﷺ قد أعطى كلًا منهما مائة بعير بعد يوم حنين، يومئذ وجد الأنصار في صدورهم حاجة لإعطائهما، فكان مما قاله لهم رسول الله ﷺ: “إني لأعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون برسول الله إلى رحالكم” [البخاري عن أنس بن مالك].
والعلة النفعية المعينة بينة في آية [التوبة: 58]، حيث كان الإسلام بحاجة إلى النصراء، فلما زالت هذه العلة وجب تعطيل الحكم أيضًا بمنع الإعطاء، وليس ذلك مبنيًا على الرأي والاجتهاد الشخصي وإنما على تغير العلة، والعلة مضطردة تتغير مع تغير الواقع، ولكن لا تزول، إذ الحاجة للتأليف دائمة بحكم ما هو واقع.
لا شك إن إعطاء المؤلفة قلوبهم أمر موكول إلى الإمام يفعله بمقتضى المصلحة العامة، وهذا يسوقنا إلى القول:
أولًا – إن المصلحة هنا زمنية وهي تتبدل بتبدل الزمان.
ثانيًا – الإمام هو المسؤول عن النظر في هذه المسألة وأمثالها.

3- قال تعالى: “واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا” [الأنفال: 41]. وكما فعل عمر رضي الله عنه بأرض سواد العراق بعد فتحها حيث لم يقسمها كما قسم رسول الله ﷺ خيبر، فأمر رضي الله عنه أن تبقى الأرض بيد أهلها، وأن يوضع عليها الخراج لينفق منه على المصالح العامة لكل جيل في كل زمان، ورأى في قسمة هذه الأراضي خاصة مفسدة عامة تلحق بالأمة في المستقبل “فقه المستقبل”، فلو قسمت هذه الأراضي لتوقف هذا الخير الذي يأتي من الخراج نحو الأبناء والأحفاد.
ولو قسم عمر رضي الله عنه ذلك لانشغل الصحابة والمسلمون بها عن الهدف الثابت، فلا يقال بأن عمر رضي الله عنه خالف نص القرآن أو خالف فعل رسول الله ﷺ، وقد فعل عمر رضي الله عنه ما هو الأصلح في خلافته في الوقت الذي فعل رسول الله ﷺ ما هو الأصلح لوقته، لأن القصد من الشرع تحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد برتبها الثلاث الضرورية والحاجية والتحسينية، فكان عمر رضي الله عنه على هدي الله ورسوله ﷺ.
قال ابن قدامة: “وقسمةُ الرسول ﷺ لخيبر، كانت في بدء الإسلام وشدة الحاجة، فكانت المصلحة فيه، وقد تعينت المصلحة فيما بعد ذلك في وقف الأرض، فكان هو الواجب”.
إن الفاروق عمر رضي الله عنه كان ينظر إلى المستقبل وفقه المستقبل بهذا الرأي الذي أنفذه وكان يقول: “لولا آخر المسلمين ما فتحت قريةً إلا قسمتها – أي بين الفاتحين – كما قسم رسول الله ﷺ خيبر”، وهو الموافق للمصلحة العامة للمسلمين.


4- قال تعالى: “قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين” [النور: 54]. سُئل رسول الله ﷺ عن ضالة الإبل فقال: “ما لك ولها، دعها، فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر، حتى يجدها ربها”، وسُئل رسول الله ﷺ عن الشاة فقال: “خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب” [عن زيد بن خالد، متفق عليه].
وقد مضى الأمر على هذا في عهده ﷺ وعهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فكانت ضالة الإبل تترك على ما هي عليه لا يأخذها أحد حتى يجدها صاحبها.
وجاء في الموطأ أن مالكاً رضي الله عنه سمع ابن شهاب الزهري يقول: “كانت ضوال الإبل في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إبلاً مؤبلة – أي كثيرة – تتناتج لا يمسها أحد حتى إذا كان زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه أمر بتعريفها ثم تباع فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها” [أخرجه الإمام مالك في الموطأ].
وتغير الحال في زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فرأى أنه قد يكون في بيعها وإعطاء ثمنها لصاحبها إن جاء ضررٌ به، لأن الثمن لا يغني غناءها بذواتها، فرأى التقاطها والإنفاق عليها من بيت مال المسلمين حتى إذا جاء صاحبها أعطيت له.
إن حديث سيدنا رسول الله ﷺ المتعلق بضالة الإبل الذي يمنع التقاطها يهدف إلى تحقيق مصلحة صاحب الضالة الذي سيفتش عن ضالته، فإن حبست هذه الضالة، وضمت إلى إبل القوم، هدرت هذه المصلحة، لأن صاحبها لا يتمكن من إدراك وجودها، وإن أدركه فربما ينشأ خلاف بينه وبين هذا الملتقط لها، لسبب علفها وإيوائها أو إنكارها، وكل ذلك خلاف المصلحة المطلوبة.
وأما عثمان رضي الله عنه فقد وجد أنه لا بد من تحقيق مصلحة صاحب الضالة التي كان يحرص عليها رسول الله ﷺ، ورأى أن تحقيق هذه المصلحة يكون بشكل آخر يختلف عما كان عليه الحال في زمنه ﷺ، وهذا الشكل هو تعريفها فإن لم تعرف تباع ويحفظ ثمنها لصاحبها، فعل عثمان رضي الله عنه ذلك كله لأن الأمانة قلت أو ضعفت.
وأما في زمن علي رضي الله عنه فقد أصبح الثمن لا يغني غناء الضوال بذواتها، أي أصبحت مصلحة صاحب الضالة لا تتحقق بحفظ ثمنها، وإنما تتحقق مصلحته بحفظ الضالة ذاتها، فكان علي رضي الله عنه يحفظها وينفق عليها من بيت مال المسلمين، إلى أن يجدها صاحبها فيطالب بما أنفق عليها.
وهكذا نرى أن حكم الضالة تغير في هذه الحالات الثلاث لتحقيق المصلحة المتعلقة بصاحب الضالة، وبحسب الظرف الطارئ في كل عهد، وهذا ما فيه دليل على تغير الأحكام بتغير الأزمان.


5- قال تعالى: “ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها” [البقرة: 114]. وقال تعالى: “إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر” [التوبة: 18]. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال، قال رسول الله ﷺ: “لا تمنعوا إماء الله مساجد الله” [رواه البخاري].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ: “ولا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات – غير متطيبات أو متعطرات”.
وروى الخشني قائلا: “كان مؤدبًا في قصر الأمير محمد بن الأغلب – في الأندلس – يعلم الأطفال في النهار والبنات في الليل”.
وقالت امرأة: يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوما نأتي إليك فيه تعلمنا مما علمك الله، فقال ﷺ: “اجتمعن في يوم كذا وكذا” فاجتمعن، فعلمهن.
وروي أن رسول الله ﷺ كان يأمر النساء بالخروج لحضور صلاة العيدين حتى الحيض منهن بقوله: “ليشهدن العيد ودعوة المسلمين” [رواه النسائي وابن ماجه]، وفي رواية لأبي داود: “أمرنا رسول الله ﷺ أن نخرج ذوات الخدور يوم العيد”.
هذا من جانب، وأما من جانب آخر فقد روى الإمام مالك رضي الله عنه عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت الرحمن، عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: “لو أدرك رسول الله ﷺ ما أحدث النساء لمنعهن المساجد”، وهكذا رأت السيدة عائشة أن الأفضل منع النساء دخول المساجد، مع أن الرواية صريحة عن رسول الله ﷺ بالإذن، لأن الفعل المأذون به شرعًا لزم عنه في رأي عائشة رضي الله عنها مفسدة، هي أرجح من مصلحة خروج النساء للصلاة بسبب ما أحدثن من الزينة والتطيب، فالمنع في رأي عائشة رضي الله عنها فيه درء للمفسدة، وهو مقدم على جلب المصلحة.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال، قال رسول الله ﷺ: “إذا استأذنت أحدكم امرأته فلا يمنعها” فقال ابنه بلال بن عبد الله بن عمر: “والله لنمنعهن” فأقبل عليه والده عبد الله وقال: “أخبرك عن رسول الله ﷺ وتقول: والله لنمنعهن؟!”.
وفي رواية أخرى أن واقد بن عبد الله بن عمر، قد رأى منع النساء الخروج إلى المساجد وأقسم “والله لا نأذن لهن، يتخذن ذلك دغلا – أي لإظهار الزينة -“. قال الراوي: فغضب عبد الله بن عمر، وقال: “أقول قال رسول الله ﷺ: ‘ائذنوا لهن’ وتقول أنت: ‘لا’؟”.
نقول: تعليل ذلك أن الصحابي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما تمسك بالنص في الإذن للنساء بالخروج إلى المساجد، ولكن ابنيه (بلالاً أو واقداً) كل منهما يرى النص ويؤمن به، ويرى أن المقصود ليس مجرد الخروج إلى المساجد، بل المقصود تحقيق الهدف من الخروج، والخروج مجرد الخروج لم يحقق ما استهدفه رسول الله ﷺ من الإذن، فإذا أدى الخروج إلى غير الهدف المطلوب، ونتج عنه مفسدة تبرج المرأة وإظهار زينتها ونشر العطر من أثوابها، فقد تغير القصد والهدف المطلوب، وهو التقرب إلى الله ﷻ بالعبادة وطلب العلم والتفقه في الدين في المساجد، وبهذا يكون (بلالٌ أو واقدٌ) ابنا عبد الله بن عمر قد نظر كل منهما إلى النص، ونظر معه إلى العلل التي شرعت الأحكام من أجلها، ورأى أنه من الحق أن تدور الأحكام مع عللها ومقاصدها لتحقيق الأهداف المرادة من الشريعة ودرء المفاسد عنها.


6- قال تعالى: “الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حَلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ” [المائدة: 5]. اتسعت دائرة مدن المعسكرات وازداد عمرانُها في الأراضي المفتوحة بمرور الزمن أولاً، وبمشاركة العرب أهلَ البلادِ المفتوحةِ بالإقامة فيها ثانياً، فاختلط هؤلاء بهؤلاء، وصاهروهم، وروى بعض من شهد يومَ القادسية مع الصّحابيّ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن عدداً من المجاهدين الفاتحين قد تزوّج بنساءٍ من أهل الكتاب، ولمّا أرادوا العودة إلى المدينة المنورة فمنهم من طلَّقَ ومنهم من أمسكَ.

وذكر الطبريُّ أن عدداً من رجال المهاجرين والأنصار قد تزوجوا بكتابيّات من أهل السَّوَادِ بعد فتح العراق. ومنهم: حذيفة بن اليمان والِيْهِ على المدائن في بلاد الفُرْسِ، فبعث عمر رضي الله عنه إليه رسالةً يقول فيها: “بلغني أنك تزوجتَ امرأةً من أهل المدائنِ – وحذيفة هذا من كُتّابِ الوحيِ وهو أمينُ سرّ رسول الله ﷺ في المنافقين – من أهلِ الكتاب وذلكَ ما لا أَرْضَاهُ لَكَ فَطلِّقْهَا”، فكتب إليه حذيفة رضي الله عنه: “أحلالٌ أم حرام، ولِمَ تأمرني بطلاقها؟”، فقال عمر رضي الله عنه: “هذا حلالٌ، ولكِنّ في نساءِ الأعاجِمِ خَلَاْبةً وخِدَاعَاً، وإنِّي لأخْشَى عليكم منهُ، فإنْ أقبلتُمْ عليهِنَّ غَلَبْنَكُمْ على نسائِكُم”، فقال حذيفة رضي الله عنه: “آلآنَ…” فَطَلَّقَها.

نقول: إباحةُ التّزوج بالكتابية حكمٌ شرعيٌّ جاء في كتاب الله تعالى، لكنّنا نرى عُمَرَ رضي الله عنه قد نهى عن ذلك بعد القادسية لظروف تتعلق بالصّالح العامّ، دافعاً لِمَفْسَدةٍ عُظمى تترتّبُ على هذا الحُكْمِ المباحِ. منها إبعادُ روحِ الفتنةِ عن المسلمات اللواتي يكثُرُ عدَدُهنَّ حين ينصرف رجال المسلمين عنهُنَّ لجمالِ الكتابيّات، ولا شكّ أن هذه المفسدة نقيضُ الحكمةِ التي شُرِعَ من أجلها نكاحُ الكتابيّات في كتابِ الله. ومنها تركُ المصلحة الجزئية المشروعة في ذاتها، وهي مصلحةُ حذيفة رضي الله عنه في التّزوّج من الكتابية، من أجل المصلحةِ الكليّة المتعلّقة بالأمّة. ومنها درءُ خِداعِ الكتابيّات الأجنبيّات لقادةِ المسلمينَ وَوُلاتِهِم، وهم على ثغرٍ من ثُغُورِ الأمّة. إنّ هذا الضَّرَرَ العامّ يَرْبُو على المصْلَحةِ الشّخصيّة لحذيفة رضي الله عنه، وتُصبِحُ مصلحةُ المسلمينَ إزاءَ هذا الظرفِ الطارئِ الجديد لا تتحقّقُ بالإباحةِ بل بالمَنعِ، وهذا ما نظرَ إليه عمرُ الفاروقُ رضي الله عنه، وهوَ ما يقومُ دليلاً على تغيُّرِ الأحكامِ بتغيُّرِ الأزمانِ.


7- جَلَدَ الخليفة علي رضي الله عنه الوليد بن عقبة أربعين، ثم قال: (جلد رسول الله ﷺ أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سُنة، وهذا أحبُّ إليّ) [رواه مسلم]. رغم أن الوليد قد شهد عليه جماعة بشرب الخمر في عهد عثمان رضي الله عنه حين كان واليًا على الكوفة إزاء أرض العدو.
قال الإمام أبو يوسف، قاضي قضاة بغداد، تلميذ أبي حنيفة، ما نصّه: (ولا ينبغي أن تُقامَ الحدود في المساجد ولا في أرض العدو)، انطلاقًا ممّا رواه أبو داود عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: نهى ﷺ أن يُسْتَقَادَ في المسجد وأن تُنْشَدَ فيه الأشعارُ وأن تُقَامَ فيه الحدود [فقه السنة للسيد سابق]. ثم إنّ أبا يوسف يبيّن العلة فيقول: (أخبرنا بعض أشياخنا عن مكحول عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنّه قال: لا تُقامُ الحدودُ في دارِ الحربِ مخافةَ أن يلحقَ أهلُها بالعدوِّ) [انظر فقه السنة 2/365].
وممّا كتب سيدنا عمر رضي الله عنه إلى عمير بن سعد الأنصاري، إلى عمّاله، ألّا يُقِيموا حدًّا على أحدٍ من المسلمين في أرض الحرب حتى يخرجوا إلى أرض المصالحة.
وروي عن علقمة قال: أصاب أميرُ الجيشِ وهو الوليدُ بن عقبة شرابًا فَسَكِرَ فقال الناس لابن مسعود رضي الله عنه وحذيفة بن اليمان رضي الله عنه: أقيما عليه الحدّ، فقالا: (لا نَفعلُ، نحن بإزاء العدوّ، ونكرهُ أن يعلموا فتكون جُرْأَةٌ منهم علينا وضعفٌ بنا).
إن الآثار السابقة تدلّ على سببين لعدم إقامة الحدود:
الأول: هو احتمال ارتداد من يُقَامُ عليه الحدّ، فيلحقَ بالأعداء وينقل أخبار المسلمين إليهم، وهي مفسدة عُظمى.
الثاني: هو علمُ العدوّ بما يجري في صفوف المسلمين من ضعف فيكون ذلك سببًا في جُرْأَتِهِم عليهم.
إن عدم إقامة الحد في القتال والحرب هدفه درء مفسدةٍ راجحةٍ وُجِدَت بسبب هذا الظرف الطارئ، وإذا عاد المسلمون إلى الأمان عاد الحكمُ إلى ما هو عليه في الأصل، والحكم تحكمه ظروفه الموضوعية والطبيعية.


8- قال تعالى: {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 38-39]. روى الإمام مالك عن أنس رضي الله عنه أنّ أرقاء لعبد الرحمن بن حاطب سرقوا ناقة لرجلٍ من مُزينة فانتحروها، فرُفِعَ ذلك إلى عمر رضي الله عنه فقال: يا كثير بن الصلت، اذهب فاقطع أيديهم، فلمّا ولّى بهم ردّهم عمر رضي الله عنه وقال: (أما والله لولا أنّي أعلم أنكم تستعملونهم وتُجيّعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرّم الله عليه حلّ له لقطعت أيديهم، وأيم الله إذ لم أفعل لأغرّمنّك غرامةً توجعُك). وقال للمزني: كم ثمن ناقتك؟ قال المزني: قد كنت والله أمنعها من أربعمائة درهم، فقال عمر لابن حاطب: أعطه ثمانمائة درهم [موطأ مالك].
وكذلك نهى عمر رضي الله عنه عن القطع عام المجاعة، فقال: (لا تُقطع اليد في عذق ولا عام سنة) [كنز العمال]. قال السعدي: سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث، فقال: العذق: النخلة. فقلت لأحمد: تقول به؟ فقال: أي لعمري. قلت: إن سرق في مجاعة لا تقطعه؟ فقال: لا إذا حملته الحاجة على ذلك والناس في مجاعة وشدة. والنهي عن القطع عام المجاعة عند عمر رضي الله عنه هو مظنة كون السرقة بسبب الحاجة الملحة.
من هذين الأثرين نرى أن عمر رضي الله عنه قد فهم من تشريع القطع أن يكون هناك اعتداء مادي محض، وحين تبين له أن هؤلاء الأرقاء إنما اضطروا لما اجترحوا بسبب ما نالهم من الجوع والحرمان، لم ير أن يُمضي عليهم حد السرقة.
النصوص جميعها تؤكد أن الأحكام شُرعت لعلل تقتضيها ومقاصد تؤدي إليها، وأنها تدور مع عللها وجودًا وعدمًا، فحيث تخلفت العلة تخلف الحكم.
والعلة في إيجاب القطع هي الاعتداء المادي على مال الغير بقصد الإجرام، وقد تغير الحال بسبب وجود الضرورة بالنسبة للأرقاء الذين نحروا الناقة جوعًا، وكذلك مظنة وجود الضرورة عام المجاعة، فتغير الحكم. ونقف عند قوله تعالى: {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا…} [المائدة: 38]، لنرى أن هناك من فهم (القطع) و(اليد) على الحقيقة المادية، وأن اليد اسم يتناول (الأصابع) وغيرها، ومنهم من رأى أن (القطع) يشمل الأرجل، بدلالة قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ…}، ولو كان لا يشمل الأرجل لقال تعالى: (يداهما). ومنهم من فهم (القطع) و(اليد) على الحقيقة المعنوية، فاعتبر (القطع) يعني (الكف والمنع)، وأن (اليد) تعني (القدرة)، واستدلوا على فهمهم هذا بقوله تعالى: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه} [المائدة: 39]. ولم يروا محلاً لقطع الأيدي من الأصابع أو مع الكف حتى الرسغ، بوجود التوبة والعمل الصالح ومغفرة الله ورحمته، ولعل استبدال عقوبة قطع الأيدي بعقوبة الحبس أو المنع أو الكف، بمعانيها الواسعة، أقرب إلى المعنى والدلالة الحقيقية لآيتي [المائدة: 38-39]، ونحن مع من يقرأ الآيتين على هذا المعنى.


9- قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75]. جاء في “نيل الأوطار” للشوكاني أن النبي محمد ﷺ قال: “لا ضمان على مؤتمن”، رواه البيهقي عن ابن عمر وقال السيوطي إن الحديث ضعيف. ورأى الفقهاء، استنادًا إلى الحديث، أن يد المودع يد أمانة، ومعنى هذا أنه لا يضمن إذا هلك أو تلف ما تحت يده إلا إذا ثبت تعديه على ما استودع لديه أو تفريطه في الحفظ. والصانع ونحوه يعتبر مودعًا لما أعطاه المستصنع ليصنع له ما يريد، كالنساج والخياط والنجار وغيرهم، إلا أن من الناس من يضعف إيمانهم فيصير منهم كما قال تعالى في الآية.

حدث بعد النبي محمد ﷺ أن مالت النفوس إلى هذا الميل، فقلّت الأمانة إذ ضعف الإيمان. وكان لا بد من علاج الأمر رعايةً للمصلحة العامة بشكل يحقق مصلحة المؤتمن (صاحب العمل) ويجعل المؤتمن (العامل) أكثر حرصًا على حفظ ما تحت يده. فكان العلاج تبدل الحكم من عدم التضمين إلى التضمين، وقد أورد الإمام البيهقي جملة من الآثار عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه تثبت أنه قضى بتضمين الأجراء، منها أنه ضمن الغسال والصباغ وقال: “لا يُصلح الناس إلا ذلك”.

وإذا كنا قد وجدنا هذا في فقه الصحابة، فإننا نجده في فقه التابعين. كما ورد عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث يروي ابن سعد في “الطبقات”، أن عروة بن الزبير، المتوفى (94هـ)، استودع عند أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام مالاً من مال بني مصعب بن الزبير. قال: فأصيب المال عند أبي بكر أو بعضه، فأرسل إليه عروة: “أن لا ضمان عليك، إنما أنت مؤتمن”. فقال أبو بكر: “قد علمت أن لا ضمان عليّ، ولكن لم تكن لتحدث قريشًا إن أمانتي قد خربت”. قال: فباع مالًا له فقضاه.

نرى في هذه الواقعة أن هلاك الأمانة أو بعضها لدى أبي بكر بن عبد الرحمن لم تكن بتعدٍ ولا تفريطٍ منه، ومع هذا أبى إلا أن يضمن ما هلك لديه حتى لا يتسرب الشك لأمانة الرجال، أمثال أبي بكر بن عبد الرحمن، وذلك بسبب ضعف الإيمان في نفوس الناس، ولا بد أن نذكر بأن عروة بن الزبير وأبا بكر بن عبد الرحمن كانا من الفقهاء السبعة في المدينة المنورة، فعروة ابن أسماء والزبير، وأخو مصعب وعبد الله، وأبو بكر بن عبد الرحمن يُلقّب براهب دمشق وكان كفيفًا.


10- قال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيبٍ مِّن مَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ فَاسْأَلُوا الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} [النحل: 43]. وقد ذكر الله عز وجل في القرآن الكريم: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمَّا إِصْلاَحٌ بَيْنَهُمَا وَإِمَّا فُرَاقٌ بِمَعْرُوفٍ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ لِلْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ فَلاَ يَحِلُّ لَهُمْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ امْرَأَةً غَيْرَهُنَّ} [البقرة: 229-230]. يروي الإمام مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن الطلاق في عهد الرسول ﷺ وأبي بكر وأول خلافة عمر كان الطلاق الثلاث يعتبر طلقة واحدة. لكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لاحظ استعجال الناس في هذا الأمر الذي كان يتطلب أناة وتدبر، فقرر تطبيق الطلاق الثلاث كثلاث طلقات منفصلة لضمان عدم التسرع في الطلاق ولحفظ العلاقة الزوجية قدر الإمكان.

من هذه الرواية نستنتج أمرين:

  1. أن طلاق الثلاث دفعة واحدة كان يعتبر طلقة واحدة على عهد الرسول ﷺ وأبي بكر وبداية خلافة عمر.
  2. أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرر تغيير هذه الممارسة نظرًا للتغيرات في سلوك الناس تجاه الطلاق، مؤكدًا أن الطلاق يجب أن يتم بتروٍ وتأني لما له من عواقب جسيمة على الأسرة والمجتمع.

11- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} [البقرة: 282]. وتوضح هذه الآية أهمية التوثيق والعدل في المعاملات المالية، مؤكدة على ضرورة كتابة الدين وشهادة الشهود لتجنب النزاعات والخلافات. الشهيد والشاهد مفردان، وجمعهما شهداء وأشهاد، ومنها تأتي كلمة شهادة، المشتقة من الشهادة أو الإدلاء بالمعرفة حول حدث معين، وهي تعبر عن الإخبار بما شهد الشخص أو علم به، وتعتبر الشهادة فرض عين إذا دعي إليها الشخص وخيف ضياع الحق.
وهي واجبة: إذا لم يُدْعَ إليها، وخيف من ضياع الحق، وكان قادرًا على أدائها بلا ضرر يلحقه في بدنه أو عرضه أو أهله أو ماله. قال تعالى: “ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه” [البقرة: 283]. وقال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين” [النساء: 135].
وهي مندوبة: إذا كثر الشهود ولم يخش على الحق أن يضيع. وأما شروط قبولها: العدالة، والبلوغ، والعقل، والكلام، والحفظ، والضبط، ونفي التهمة بسبب المحبة أو البغض. وشروط نفي التهمة خالفها عمر بن الخطاب وشريح وعمر بن عبد العزيز حيث قالوا: تقبل شهادة الولد لوالده، والوالد لولده، والابن لأمه، والأم لابنها، والخادم الذي ينفق عليه صاحب البيت، رغم أن عائشة رضي الله عنها روت عن النبي قوله: ((لا تقبل شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه المسلم، ولا شهادة الولد لوالده، ولا شهادة الوالد لولده))، وفي رواية: ((ولا شهادة القانع لأهل البيت)) – القانع: الخادم، ذي غمر: صاحب حقد – [فقه السنة ص 329].

يذكر ابن قيم الجوزية في كتاب (إعلام الموقعين) عن ابن نافع الحميري أن عمر بن الخطاب قال بجواز شهادة الوالد لولده والأخ لأخيه، كما يقول الزهري: لم يكن يتهم السلف الصالح من المسلمين في شهادة الوالد لولده ولا الأخ لأخيه ولا الزوج لامرأته.

ويذكر ابن قيم الجوزية أيضًا أن شريح القاضي قد أجاز في أكثر من حادثة لامرأة شهادة أبيها وزوجها، ولما قال الخصم في إحدى الحوادث: هذا أبوها وهذا زوجها، قال له شريح: أتعلم شيئًا تجرح به شهادتهما؟ كل مسلم شهادته جائزة.

كما يذكر ابن قيم الجوزية أن عمر بن عبد العزيز أجاز شهادة الابن لأبيه إذا كان عدلاً، ويستند هذا الفهم في قبول الشهادة إلى ظاهر الآيات السابقة التي نراها قد اشترطت لقبول شهادة الشاهد أن يكون ممن ترضى حاله وأمانته، ومعنى هذا أن يكون عدلاً يؤمن على قوله الحق ولا يتبع الهوى. وبتغير الزمن تغير الحال فظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهام الناس في قول الحق، فتركت شهادة من يتهم إذا كان من قرابة.

وهذا محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة يقول: حدثنا الهيثم عن شريح قال: أربعة لا تجوز شهادة بعضهم لبعض، المرأة لزوجها، والزوج لامرأته، والأب لابنه، والابن لأبيه، والشريك لشريكه، والمحدود حداً في قذف.
وردّ شريحٌ شهادة سيدنا الحسن لأبيه سيدنا عليّ رضي الله عنهما في قضيةٍ كانت منه على يهوديٍّ أمام شريح القاضي، وطلبَ أن يزيدَه شاهداً مكانَ الحسَنِ رضي الله عنه، تقول الرواية: أخرج أبو نعيم في الحلية قال:
(وجدَ عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه درعاً له عند يهوديّ التقطها فعرفها فقال: “درعي سقطت عن جملٍ لي أَوْرَق”، فقال اليهوديّ: “درعي وفي يدي.” ثم قال اليهوديّ: “بيني وبينك قاضي المسلمين”، فأتَوا شُرَيحاً.
قال شُرَيح: “ما تشاء يا أمير المؤمنين؟” قال: “دِرْعِي سقطت عن جملٍ لي أَوْرَق فالتقطها هذا اليهوديّ.”
قال شُرَيح: “ما تقول يا يهودي؟” قال: “درعي وفي يدي.”
قال شُرَيح: “صدقتَ يا أمير المؤمنين، ولكِنْ لا بدّ من شَاهِدَين.”
فدعا قَنْبرَ والحسنَ بن عليّ وشَهِدَا أنّها دِرْعُهُ.
قال شُرَيح: “أما شهادة مولاك (قنبر) فقد أجزناها، وأما شهادة ابنكَ (الحسن) لك فلا نُجِيزُها.”
فقال عليّ: “أما سمعتَ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحَسَنُ والحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ)).”
قال: “اللهم نعم.”
قال: “أفلا تُجِيزُ شهادةَ سيّدِ شبابِ أهل الجنة؟”
ثم قال شُرَيح (القاضي) لليهودي: “خُذْ الدِّرْعَ.”
فقال اليهوديّ: “أميرُ المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمينَ فقضى لي ورَضِيَ. صدقتَ واللهِ يا أمير المؤمنين إنّها لدرعُكَ سقطتْ عن جملٍ أَوْرَقٍ لكَ التَقَطُّها. أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله.”
فوَهَبها له عليٌّ رضي الله عنه، وأجازَه بتسعِمائة، وقُتِلَ معَهُ يوم صفِّينَ).
ونحنُ أمامَ رأيَيْن في هذه الروايات بخصوص شهادة الأقارب:
الأول: هو التّمسكُ بالنصوص القرآنية في قبول شهادة ذوي القربى بعضهم على بعض، وهو ما كان في زمن الصحابة، وما طبّقه بعض التابعين كشُرَيح القاضي في زمن خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهم، لأن الآيات لم تشترط لقبول الشهادة سوى أن يكون الشاهد عدلاً، والمعروف أن الأصل في المسلم العدالة، ولا سيّما السلف الصّالح الذي لم يكن متهماً في قبول الحق ولو كان على ذوي القربى.

الثاني: رَدُّ شهادة ذوي القربى كما فعله بعض التابعين ومنهم شريح القاضي في زمن خلافة علي رضي الله عنه، لأنّ القرابة القريبة والصّلة الوثيقة أصبحت مظنّة المَيْل مع الهوى والاتهام في قول الحق بعد مرور الزّمن وتغيّر حال الناس من التقى والصّلاح، وبما أن الغاية من الشهادة جلبُ مصلحةٍ للأفرادِ والجماعاتِ في حكم القضاء، وذلك للوصول بها إلى إحقاق الحق، فقد أصبحت هذه المصلحة لا تتحقّق إلا بمنع شهادة ذوي القربى بسبب هذا الميل.

ولذلك فإن شريحاً القاضي نفسه ردّ شهادة ذوي القرابة بعدما كان يقبلها في حوادث عديدة، ولا بدّ أن نذكر أنّ شريحاً كان من المعمرّينَ فقد عاش مائة وعشرين سنة كما يذكر ابن قتيبة في كتابه (المعارف) وقد ظلّ قاضياً على الكوفة لعمرَ بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده أكثر من سبعين سنة، وهذه مدّة طويلة تَغَيَّرَ فِيْهَا حَالُ النَّاس بتغيّر الزّمن فتغيّر فيها الرأيُ والحكمُ ذلك لأنّ الأحكام تدور مع عِلَلِها ومقاصدها وجوداً وعدماً ليتّحققّ دائماً ما تقصده الشّريعة من تحقيقِ مصالحِ العبادِ.


12- قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ. ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 33-34].

ورد في منتقى الأخبار عن ابن عباس، كما رواه الإمام الشافعي في مسنده، أنهم: (إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض).

والسؤال: هل تقبل توبة قاطع الطريق بعد أن ارتكب ما ارتكب من جنايات على النفس والمال، ولا تطبق عليه الحدود المعينة لهذه الجنايات؟ إن الآية صريحة في قبول هذه التوبة إذا كانت قبل القدرة عليهم بلا تفريق بين مسلم وكافر لأنها تفيد العموم، قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34].

وينحصر قبول التوبة بسقوط حد المحاربة والسعي في الأرض فساداً، وتبقى بقية الحقوق قائمة. وقد جرى فعل الصحابة على هذا، فقد روى البيهقي عن الشعبيّ أن عثمان بن عفان رضي الله عنه استخلف الصحابي الجليل أبا موسى الأشعريّ فلمّا صلى الفجر جاء رجل من مراد فقال: ماذا مقام العائذ التائب؟ أنا فلان بن فلان، من حارب الله ورسوله، جئت تائباً من قبل أن تقدروا عليّ. فقال أبو موسى رضي الله عنه: جاء تائباً من قبل أن تقدروا عليه فلا يعرض له إلا بخير.
كما ورد في (جامع البيان في تفسير القرآن) لأبي جعفر بن جرير الطبري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين رضي سعيد بن قيس أن يستأمن لديه لحارثة بن بدر، وكان محاربًا في عهد سيدنا علي رضي الله عنه فتقدم إليه وقال: يا أمير المؤمنين، ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله؟ فقال:
﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 33].
ثم قال:
﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المائدة: 34].
قال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر؟ قال: وإن كان حارثة بن بدر. فقال: هذا حارثة بن بدر تائبًا، فهو آمن. قال علي رضي الله عنه: نعم. فجاء به، فبايعه وقبل ذلك منه وكتب له أمانًا.

وتغير الحكم في عهد التابعين بتقدم الزمن، فرفض عروة بن الزبير رضي الله عنه وهو أحد فقهاء المدينة السبعة هذه التوبة، فقد روى الإمام ابن جرير الطبري عن هشام بن عروة أنه أخبره أنهم سألوا عروة رضي الله عنه عمن أصاب حدودًا ثم جاء تائبًا، فقال رضي الله عنه: لا تقبل توبته، لو قبل ذلك منهم اجترؤوا عليها وكان فسادًا كبيرًا.

يتضح بذلك أن ما حدث من عثمان وعلي رضي الله عنهما، وقبل به سائر الصحابة دون إنكار من أحد في قبول توبة قاطع الطريق كان تطبيقًا لظاهر النص القرآني:
﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المائدة: 34].
لقد كان تطبيق حكم الآيات القرآنية يحقق مقصد الشارع وهو استتابة هؤلاء وإعادتهم إلى صفوف المسلمين بدل أن يكونوا حربًا عليهم ومفسدين في أرضهم، وفي ذلك مصلحة مؤكدة.
ولكن عروة بن الزبير رضي الله عنه التابعي رأى عدم قبول توبة من تاب قبل القدرة عليه، واعتبره مؤاخذًا بما جنى، نظرًا لما ترتب في عصره من مفاسد وأن اتخاذ التوبة سبيلًا للتخلص من العقوبة، وتجرؤ على انتهاك محارم الله. وهو الحكم الذي يحقق المصلحة ويلتقي مع مقاصد الشارع في ردع المجرم عن اقتراف جرائمه.

13-قال تعالى:
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 92-93].

رسول الله ﷺ حين (قضى بالدية في قتل الخطأ وشبه العمد على العاقلة)

  • العاقلة: هم أقارب الرجل، وهم محددون بالشرع – ولكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين وضع الديوان والعطاء سنة /20هـ/ عشرين من الهجرة النبوية الشريفة جعل (الدية على أهل الديوان)، حيث كان جند كل مدينة ينصر بعضهم بعضًا، ويعين بعضهم بعضًا وإن لم يكونوا من الأقارب.

قال ابن الأثير: الديوان هو السجل والدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء.
وقال الماوردي: هو موضع لحفظ ما، يتعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال، ومن يقوم بها من الجيوش والعمال.
وعمر رضي الله عنه هو أول من دون الدواوين في الإسلام، فأنشأ ديوان الجند لكتابة أسمائهم، وما يخص كلًا منهم من عطاء.
ونقول: إن الدية كانت في عهد رسول الله ﷺ على العاقلة وهم أقارب الرجل، فجعلها عمر رضي الله عنه على أهل الديوان، وهم من ينصرون الرجل، وممن سجلت أسماؤهم في الديوان، وذهب الأحناف في جعل الدية على من ينصر الرجل ويعينه ممن هم ليسوا من الأقارب ولا من أهل الديوان، مستدلين بفعل عمر رضي الله عنه، وهذا هو النظر في مقصود النص دون التمسك بحرفيته، وهو إيصال الحق إلى أصحابه سواء عن طريق أقارب الرجل أو أهل الديوان أو من ينصر الرجل ويعينه دون تحديد.

لقد بُني هذا الحكم على عرف زمني كان قائمًا في عهد سيدنا رسول الله ﷺ ثم تغير في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم تغير في عهد الأئمة رضوان الله عليهم.


14- قال تعالى:
﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا * وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُو۟لُوا۟ ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينُ فَٱرْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا۟ لَهُمْ قَوْلًۭا مَّعْرُوفًۭا﴾ [النساء: 7-8].

وقال تعالى:
﴿يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِىٓ أَوْلَـٰدِكُمْۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلْأُنثَيَيْنِۚ فَإِن كُنَّ نِسَآءًۭ فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَۖ وَإِن كَانَتْ وَٰحِدَةًۭ فَلَهَا ٱلنِّصْفُۚ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَٰحِدٍۢ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٌۭۚ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٌۭ وَوَرِثَهُۥٓ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُۚ فَإِن كَانَ لَهُۥٓ إِخْوَةٌۭ فَلِأُمِّهِ ٱلسُّدُسُۚ مِّنۢ بَعْدِ وَصِيَّةٍۢ يُوصِى بِهَآ أَوْ دَيْنٍۢۗ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًۭاۚ فَرِيضَةًۭ مِّنَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًۭا * وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَٰجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌۭۚ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌۭ فَلَكُمُ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَۖ مِنۢ بَعْدِ وَصِيَّةٍۢ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍۢۚ وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌۭۚ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌۭ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّنۢ بَعْدِ وَصِيَّةٍۢ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍۢۗ وَإِن كَانَ رَجُلٌۭ يُورَثُ كَلَـٰلَةً أَوِ ٱمْرَأَةٌۭ وَلَهُۥٓ أَخٌ أَوْ أُخْتٌۭ فَلِكُلِّ وَٰحِدٍۢ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُۚ فَإِن كَانُوٓا۟ أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِى ٱلثُّلُثِۚ مِنۢ بَعْدِ وَصِيَّةٍۢ يُوصَىٰ بِهَآ أَوْ دَيْنٍۢ غَيْرَ مُضَآرٍّۢۚ وَصِيَّةًۭ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌۭ * تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدْخِلْهُ جَنَّـٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ يُدْخِلْهُ نَارًۭا خَـٰلِدًا فِيهَا وَلَهُۥ عَذَابٌۭ مُّهِينٌۭ﴾ [النساء: 11-14].

وقال تعالى:
﴿يَسْتَفْتُونَكَ ۖ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى ٱلْكَلَـٰلَةِ ۚ إِنِ ٱمْرُؤٌۭ هَلَكَ لَيْسَ لَهُۥ وَلَدٌۭ وَلَهُۥٓ أُخْتٌۭ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ۚ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌۭ ۚ فَإِن كَانَتَا ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ۚ وَإِن كَانُوٓا۟ إِخْوَةًۭ رِّجَالًۭا وَنِسَآءًۭ فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلْأُنثَيَيْنِ ۗ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا۟ ۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌۭ﴾ [النساء: 176].

إن جميع ما سبق من آيات هي من سورة النساء وهناك بعض الآيات من سورة الأنفال تناولت بعضًا من أحكام الميراث وإن كانت دلالتها عامة.

قال تعالى:
﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مِنۢ بَعْدُ وَهَاجَرُوا۟ وَجَٰهَدُوا۟ مَعَكُمْ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ مِنكُمْ ۚ وَأُو۟لُو ٱلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍۢ فِى كِتَـٰبِ ٱللَّهِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌۭ﴾ [الأنفال: 75].

علم الميراث يستمد أحكامه من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وإجماع الصحابة الكرام، هذا بعد الإسلام، أما قبله فقد كانت المرأة العربية لا تُعطى شيئًا من الإرث بحجة أنها لا تقاتل، ولا تدافع عن حمى العشيرة، ومن أقوال العربِ: (كيفَ نُعطِي المالَ مَنْ لا يركَبُ فرسًا، ولا يَحملُ سيفًا، ولا يُقاتِلُ عدوَّا).

عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: ((أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهْو لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَر)) [رواه البخاري ومسلم].

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله ﷺ بابنتيها عن سعد فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد ابن الربيع قُتِلَ أبوهما معك في أُحُدٍ شهيدًا، وإن عَمّهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالًا ولا تُنكحَان إلا بِمَالٍ، فقال: ((يَقْضِي اللهُ فِي ذَلِكَ))، فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله ﷺ إلى عَمِّهِما فقال: ((أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ وَأُمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِيَ فَهْو لَكَ)) [رواه الخمسة إلا النسائي].

وروي أنّها نزلت في شأن عبد الرحمن بن ثابت، أخي حسان بن ثابت الشاعر، مات وتركَ امرأةً يُقالُ لها (أمّ كحَّة)، وترك خمس بنات، فجاء الورثة من الرجال يأخذون المالَ فَشَكَتْ (أمُّ كحَّة) إلى النبي ﷺ فنزَلَتْ آية الميراث.

وعن زيد بن ثابت أنه سُئِل عن زوجٍ وأختٍ لأبوينِ فأعطى الزّوجَ النِّصفَ والأختَ النِّصفَ، وقال: حضرتُ رسولَ اللهِ ﷺ قَضَى بِذلِكَ. [رواه الإمام أحمد].

وعن هزيل بن شرحبيل قال: سُئِل أبو موسى عن ابنةٍ وابنةِ ابنٍ وأختٍ، فقال: للابنةِ النصفُ، وللأختِ النصفُ، وائتِ ابنَ مسعودَ فَسَيُتَابِعُنِي، فسُئِلَ ابنُ مسعود وأُخْبِرَ بقولِ أبي موسى، فقال: لقد ضَلَلْتُ إذاً وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قَضَى النبي ﷺ للبنتِ النصفُ ولابنةِ الابنِ السُّدُسُ تكملةَ الثُّلُثَين وما بَقِيَ فللأختِ. [رواه الجماعة إلا مسلمًا والبخاري].

عن قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجَدَّةُ إلى أبي بكرٍ فسألَتْهُ ميراثَها، فقال: ما لكِ في كتابِ اللهِ شَيءٌ، وما علمتُ لكِ في سنّةِ رسولِ اللهِ ﷺ شيئًا فارْجِعِي حتى أَسْألَ النّاسَ، فسألَ الناسَ فقالَ المغيرةُ بنُ شعبة: حضرتُ رسولَ اللهِ ﷺ أعطاهَا السدسَ، فقال: هل معك غَيرُكَ؟ فقامَ محمدُ بن مسلمة الأنصاريّ فقالَ مِثْلَ مَا قالَ المغيرةُ بن شعبة، فَأَنْفَذَهُ لها أبو بكر. قال: ثمّ جاءتْ الجَدةُ الأخرى إلى عمرَ فسألتهُ ميراثهَا، فقال: ما لكِ في كتابِ اللهِ شيءٌ ولكنْ هو ذلكَ السُّدُسُ فإنْ اجتمعتُمَا فهو بينَكُمَـا وأَيُّكُمَا خَلَتْ بهِ فَهُو لَها. [رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي].

وعن عبد الرحمن بن زيد قال: أعطى رسول الله ﷺ ثلاثَ جداتٍ السُّدُسَ. ثِنْتَيْنِ مِنْ قِبَلِ الأبِ، وواحدةً مِنْ قِبَلِ الأمّ. [رواه الدارقطني].

وعن المقداد بن معد يكرب عن النبي ﷺ قال: ((مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَأَنَا وَارِثُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، أَعْقِلُ عَنْهُ وَأَرِثُ، وَالخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، يَعْقِلُ عَنْهُ وَيَرِثُهُ)) [رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه].

أركان الإرثِ ثلاثةٌ هي: (مُوَرِّثٌ ووَارِثٌ وَحَقٌّ مَورُوثٌ)، والإرثُ الثابتُ بالكتابِ والسُّنّة والمجمع عليه من قِبَلِ الصّحابةِ ومَنْ بعدهم نوعانِ هما:
أ- الإرثُ بالفرضِ: الفرضُ في اللغةِ القطعُ والتقديرُ والبيان، وفي الاصطلاح هو جُزءٌ من التركة مقدّر بنصٍّ من نصوص الشّرع، والفروض المقدرة في كتاب الله ستةٌ هي: (النصف، الربع، الثمن، الثلثان، الثلث، السدس)، وهناكَ فرضٌ سابعٌ ثبت في الاجتهاد وهو (ثلث الباقي).
ب- والإرث بالتعصيبِ: العُصبةُ هو كلّ شيءٍ مَنْ ليس له نصيبٌ مقدّر من التركة ويأخذُ التّركة كلها إذا انفردَ، والباقي بعد أصحاب الفروض.

واجتهدَ الصّحابة الكرام ومن بعدهم من علماء الأمة في أن أنواعٍ أخرى من الإرثِ وهي: الإرثُ بالرَّدِّ، وبحقّ الرَّحِمِ، وقد تلَّقَتْ الأمّة الإسلامية هذه الأنواع بالقبول نظراً لقوّة الدليل الذي استندت إليه من السُّنّة النبوية الشريفة.

قال ﷺ: ((تَعَلَمُّوا القُرْآنَ وعَلِّمُوهُ، وَتَعَلَّمُوا الفَرَائِضَ وَعَلِّمُوْهَا النَّاسَ، فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ، وَإِنَّ هَذَا العِلْمَ سَيُقْبَضُ وَتَظْهَرُ الفِتَنُ حَتَّى يَخْتَلِفَ الاثْنَانِ فِي الفَرِيْضَةِ فَلا يَجِدَانِ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا)) [أحمد عن ابن مسعود].

وقال ﷺ: ((العِلْمُ ثَلاثَةٌ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَضْلٌ، آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، أَو فَرِيْضَةٌ عَادِلَةٌ)) [رواه أبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو].

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى