المكتب السياسيالمكتب العلميباحثون مستقلونقسم البحوث و الدراساتمقالاتمقالات سياسية

جدلية (الديني) و(السياسي) في سوريا الحاضر والمستقبل: دعوةٌ للحوار

من لحظة بدء الثورة إلى شهرين بعد التحرير، تفرضُ جدلية الديني والسياسي نفسها على سوريا بشكلٍ يتطلب المواجهة الصريحة للموضوع.

هذه حقيقةٌ بات الاعترافُ بها مطلوباً. بعيداً عن الشعارات والأوهام والأمنيات.. لأن الإصرار على إنكارها في هذا الواقع إنكارٌ للواقع ذاته. وإنكارُ الواقع لا يؤدي إلا إلى الفوضى. في حين أن التسليم بوجود تلك الحقيقة قد يؤدي إلى استيعابها والتعامل معها بشكلٍ يحقق مصلحة سوريا الحاضر والمستقبل.

فالتطورات المتسارعة في الواقع السوري تُبرز بشكلٍ متزايد حضور جدلية الديني والسياسي، إلى درجةٍ تدفع للتساؤل: لماذا تفرضُ هذه الجدليةُ نفسَها على سوريا بهذه الحدّة؟ هل صحيحٌ أن الأمر لايعدو أن يكون (لعنةً) أصابت ثقافةَ البلد وحاضرَها ومستقبلها كما يرى البعض؟ أم أن دلالات الظاهرة أكبر من أن يتمّ اختزالها في ذلك التفسير الهروبي الخفيف؟

بكلماتٍ أخرى: هل يحاول التاريخ أن يقول للسوريين شيئاً؟ هل تحاول التجربة البشرية أن توصل إليهم رسالة معينة، ولو من خلال الضجيج؟

وباختصارٍ ووضوح: هل يمكن أن يكون في تلك الجدلية كمونٌ يجبر السوريين على مواجهة تحدي البحث عن (نموذج جديد)؟

ليست صناعة التاريخ ولا صناعة نماذج الحياة حكراً على أحد في هذه الدنيا. فلماذا نهرب من مواجهة ذلك السؤال؟

يفهم المرء تخوّف البعض من الروح (الرسالية) حين تتلبّس بعض أفراد المجتمع أو جماعاته المنظّمة، لأن نتيجة ذلك التلبّس كانت مأساويةً في كثيرٍ من الأحيان.

ففي وجود شروط فكرية وثقافية موضوعية معينة، تساعد الروح الرسالية على صناعة التاريخ والحياة. أما في غياب تلك الشروط، كما كان عليه الحال في الواقع السوري والعربي، فقد صارت الروح الرسالية نـقمةً على أهلها حيناً، ونـقمةً على العالم بأسره حيناً آخر.

فباسم (الرسالة) القومية، نتج التسلط السياسي، ومعه التخلف الاقتصادي والاجتماعي على كل صعيد. وباسم (الرسالة) الدينية، نتجت العزلة عن الآخر في اتجاه (الأنا)، وعن الدنيا في اتجاه (الآخرة)، وعن الحاضر والمستقبل في اتجاه (الماضي). وباسم (رسالة) الحداثة والعصرنة والتحضّر، نتج ضياع الهوية حيناً، وضياع البوصلة حيناً آخر.

هذا ماتفعله الروح الرساليّة عندما تتملك العقل الذي لايعرف الحلول الوسط، ويعالج ردود الأفعال بردود الأفعال.

لكن هذا لايعني أن يتمثل الخيار البديل في (الاستقالة) الحضارية بشكل كامل. فتلك هي عقلية الثنائيات المتقابلة التي تحاصر واقعنا وتخنقه، حين نقفز على الدوام على أي خيارٍ ثالث.

لهذا، صار مطلوبا أن يتم البحث في جدلية الديني والسياسي في سوريا، لأنها قد تؤدي إلى تقديم نموذج (استيعاب) و(استجابة) جديد، هدفُهُ تمكين السوريين من التعامل مع قضاياهم بحدٍ أدنى من العقلانية والواقعية والمنهجية فقط، لا أكثر ولا أقل.

وهذا لا يكون إلا عبر إعادة التفكير بهدوء في عناصر تلك الجدلية التي تفرض نفسها باطراد، وإعادة التفكير بدورها لن تكون ممكنة إلا في حال استطاع المثقفون السوريون، من مختلف المدارس الفكرية والأيديولوجية، تجاوز مواقفهم الصارمة المحدّدة المعروفة تجاه تلك الجدلية.

إذ لا يبدو ثمة إمكانية في الواقع السوري الراهن بعد الآن للنظر إلى الممارسة السياسية، والتعامل مع السياسة بمنطق التصورات والأحكام الطهورية كما يريد البعض..

ولا إمكانيةَ للنظر إلى (الديني) بمنطق (الرفض المبدئي) المبني على مزيج من الشعور بالفوقية الثقافية تجاهه وبالخوف والحذر منه. والتأكيد بالذات على رفض أي علاقة للسياسة بالدين أو للدين بالسياسة، كما يفعل البعض الآخر..

لم تعد ثمة جدوى تُذكر للتعامل مع جدلية الديني والسياسي من مثل تلك المنطلقات بعد اليوم.

واضحٌ إذاً أننا بحاجة إلى الكثير من المرونة والكثير من الموضوعية والكثير من التجرد والكثير من الحوار.

ربما كانت هذه الشروط صعبة، ولكنها ليست مستحيلة.

نعرف جميعاً أن من الصعب على شرائح من المثقفين السوريين، من مختلف الانتماءات، التزحزح عن مواقعهم الفكرية لسببٍ أو لآخر..

لكن الأمر لم يعد خياراً أو ترفاً فكرياً، وإنما أصبح يتعلق بمصير سوريا، حاضرها ومستقبلها.

ولا نتحدث هنا عن مثاليات طوباوية. فرغم ضرورة الإيمان بإمكانية أن تقدم سوريا مع الأيام مساهمة حضارية متميزة، وتمتلك دوراً تاريخياً فريداً، إلا أن الواقعية تفرض منطقاً لايمكن القفز على متطلباته الملحّة والعاجلة.

فالبحث هنا ليس فيما (يجب أن نكون). بل عما يجب أن نفعله أولاً كحدٍ أدنى لـ (نكون).

والحوار المطلوب بين المثقفين السوريين لايتطلب ذلك النوع من الإجماع الكامل الذي يفكر به البعض. فالمسألة تتعلق بالنوع وليس بالكمّ. وهي أولا وقبل كل شيء (موقفٌ) ثقافي يُترك الحكم عليه للتاريخ.

و ربما يكفي أن توجد بعض الشرائح المستعدة لتحريك الراكد لكي ينطلق القطار.

عندها، يصبح الآخرون أمام الخيار المعروف بين القفز إليه في آخر لحظة أو الحياة بعد مغادرته في قاعات الانتظار.

المكتب السياسي
الأستاذ وائل مرزا
 قسم البحوث والدراسات
باحثون مستقلون
تيار المستقبل السوري

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى