مقدمة:
تتقاطع الآمال اليوم بالخلاص مع تعقيدات الواقع السياسي والاجتماعي، إذ لم تعد البلاد محكومة بسلطة مركزية واحدة، بل باتت موزعة بين كيانات متعددة، لكل منها رؤيتها وممارساتها الخاصة، وبينما يتطلع السوريون إلى مستقبل أكثر عدالة وكرامة، تبرز قضية حقوق الإنسان كأحد أهم التحديات التي لا يمكن تأجيلها أو تجاهلها.
هذا المقال يسعى إلى تحليل واقع حقوق الإنسان في سورية خلال المرحلة الانتقالية، في ظل تعدد سلطات الأمر الواقع، على اعتبار أن قضية حقوق الانسان أسمى من أي واقع وأهم من أي قضية أخرى، بل يمكن لنا قبول واقع ممزق مضمومة فيه حقوق الانسان على واقع سياسي صحي ليست معه مضمونة، كما أن المقال يطرح تساؤلات جوهرية حول إمكانية بناء منظومة حقوقية موحدة في بلد ممزق، ويقدم رؤى وتوصيات عملية للمضي نحو مستقبل يليق بتضحيات السوريين.
أولًا، الإرث الثقيل لانتهاكات حقوق الإنسان في سورية:
قبل عام 2011، كانت سورية تُدار بقبضة أمنية صارمة، حيث كانت الانتهاكات الحقوقية جزءًا من بنية النظام السياسي، الاعتقال التعسفي، التعذيب، غياب حرية التعبير، وتقييد النشاط المدني كانت ممارسات يومية، تُنفذ تحت مظلة "أمن الدولة" و"مصلحة الوطن".
ومع اندلاع الثورة، لم تتغير هذه الممارسات فحسب، بل تصاعدت بشكل غير مسبوق، فتحولت السجون إلى مقابر، والمنازل إلى أهداف عسكرية، والمدن إلى ساحات قتال، ودخلت أطراف متعددة على خط النزاع، وكل منها ارتكب انتهاكات بحق المدنيين، ما جعل ملف حقوق الإنسان أكثر تعقيدًا وتشابكًا.
واليوم، وبعد أكثر من عقد من النزاع، لا يمكن الحديث عن مستقبل سورية دون مواجهة هذا الإرث الثقيل، والاعتراف بأن العدالة ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية.
ثانيًا، السلطات المتعددة وتباين المرجعيات الحقوقية:
- السلطة الانتقالية في دمشق:
رغم انهيار النظام السابق، لا تزال دمشق تحت سيطرة سلطة انتقالية تحاول بناء دولة مهشمة، وهو ما يوحد غالبية السوريين خصوصاً الثوار منهم مع مساعدة هذه السلطة، إلا أن هذه السلطة، وإن كانت تتحدث عن "إصلاحات"، إلا أن ممارساتها على الأرض لم تثبت ركائزها، كما ورغم كل الجهود والأمل لا تبشر بتحول جذري لأسباب كثيرة، ولكن من المعتقلين بادلب قبل التحرير، وحتى الحالات الفردية التي يتم بها تبرير التجاوزات، إلى تجربة سورية بداية نشوئها حيث تحولت نحو الاستبداد، كل ذلك يُبرز الحاجة إلى مراقبة أداء هذه السلطة من منظور حقوقي، ومساءلتها عن مدى التزامها بالمعايير الدولية، خاصة في ما يتعلق بحرية التعبير، استقلال القضاء، وحقوق المعتقلين السياسيين. - قوات سورية الديمقراطية (قسد) في الجزيرة:
في شمال شرق سورية، تدير قوات سورية الديمقراطية منطقة واسعة تحت مظلة "الإدارة الذاتية"، ورغم أن هذه الإدارة تُقدم نفسها كنموذج ديمقراطي، إلا أن الواقع يشير إلى تحديات كبيرة.
فهناك جهود واضحة في مجال تمكين المرأة، والتعليم، وإشراك المجتمعات المحلية، لكن في المقابل، هناك تقارير عن اعتقالات تعسفية، وتقييد حرية الصحافة، وممارسات أمنية لا تختلف كثيرًا عن الأنظمة التقليدية.
ولعل التحدي هنا يكمن في التوازن بين الحفاظ على الأمن، وبناء نموذج حقوقي حقيقي، خاصة في ظل التعدد الإثني والديني في المنطقة.
- الحكم المحلي في السويداء:
السويداء، ذات الغالبية الدرزية، شهدت خلال السنوات الأخيرة تحولات لافتة، حيث نشأت أشكال من الحكم المحلي شبه الذاتي، بعيدًا عن سلطة دمشق.
هذا النموذج، رغم محدوديته، يُعيد ما تجاوزه السوريون زمن الثورة من بناء سلطة مدنية هوياتية لاتهتم ولا تحترم الحقوق بل وتستند إلى التمثيل الشعبي، إضافة إلى التحديات التي لا تزال قائمة، أبرزها ضعف الموارد، وغياب الدعم الدولي، وتداخل النفوذ الأمني، وعودة رجالات النظام البائد الهاربين.
ثالثًا، العدالة الانتقالية كمدخل لإعادة بناء الحقوق:
العدالة الانتقالية منظومة متكاملة تهدف إلى معالجة آثار الانتهاكات، وجبر الضرر، وضمان عدم التكرار. في الحالة السورية، تبدو العدالة الانتقالية ضرورة ملحة، لكنها تواجه تحديات هائلة.
أولًا، لا توجد سلطة موحدة قادرة على إطلاق عملية وطنية شاملة رغم قوة وصلابة سلطة دمشق مقارنة مع سلطة قسد والمتمردين بالسويداء.
ثانيًا، هناك انقسام مجتمعي عميق، يجعل من المصالحة أمرًا معقدًا.
ثالثًا، هناك تدخلات دولية وإقليمية تُعيق أي مسار مستقل.
ومع ذلك، يمكن البدء بخطوات صغيرة، مثل توثيق الانتهاكات، ودعم الضحايا نفسيًا واجتماعيًا، وإطلاق مبادرات محلية للمصالحة.
كما يمكن للمجتمع المدني أن يلعب دورًا محوريًا في هذا المجال، من خلال بناء شبكات حقوقية، وتنظيم حملات توعية، وتقديم الدعم القانوني.
رابعًا، التحديات البنيوية والثقافية:
لا يمكن الحديث عن حقوق الإنسان بمعزل عن البنية السياسية والثقافية، ففي سورية، هناك تحديات بنيوية عميقة، أبرزها:
١- غياب سلطة موحدة يجعل من تطبيق أي منظومة حقوقية أمرًا شبه مستحيل.
٢- التدخلات الخارجية تُعيد تشكيل المشهد السياسي وفق مصالح دولية، لا وفق احتياجات السوريين.
٣- الانقسام المجتمعي: الطائفي، الإثني، والسياسي، يُضعف أي محاولة لبناء خطاب حقوقي جامع.
٤- ضعف المؤسسات القضائية، التعليمية، والإعلامية، يجعل من نشر ثقافة الحقوق أمرًا صعبًا.
لكن، هناك أيضًا تحديات ثقافية، مثل النظرة التقليدية للسلطة، وغياب ثقافة المحاسبة، والخوف من التغيير.
هذه التحديات تحتاج إلى عمل طويل الأمد، يبدأ من التعليم، ويمر بالإعلام، ولا ينتهي إلا ببناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية.
خاتمة:
في مقال سابق نشرناه بموقعنا بعنوان: "في يوم حقوق الانسان: سورية بوابة دخول التوحش البشري عصره الجديد" حيث أكدنا على أن غياب حقوق الانسان في سورية سبب التوحش والفساد، ولتجاوز ذلك، فإننا في المكتب العلمي لـ تيار المستقبل السوري نوصي بما يأتي لبناء مستقبل حقوقي:
- صياغة ميثاق حقوقي وطني:
يجب أن تتفق القوى السياسية والمدنية على ميثاق حقوقي شامل، يُحدد المبادئ الأساسية التي لا يمكن التنازل عنها، مثل حرية التعبير، والمساواة، والعدالة. - إشراك المجتمعات المحلية:
ربما من الصعب بناء منظومة حقوقية من الأعلى إلى الأسفل، لهذا نرى أنه يجب إشراك المجتمعات المحلية في صياغة السياسات، وتحديد الأولويات، ومراقبة الأداء. - دعم الإعلام المستقل:
فالإعلام هو أداة لنشر الوعي، وكشف الانتهاكات، وتحفيز النقاش العام، يجب دعم المنصات المستقلة، وتوفير الحماية للصحفيين. - تعزيز التعليم الحقوقي:
يجب إدماج مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية، وتدريب المعلمين، وتنظيم ورش عمل للشباب. - تمكين المرأة والشباب:
لا يمكن بناء مستقبل حقوقي دون إشراك الفئات المهمشة، لذا يجب دعم النساء والشباب في العمل السياسي، المدني، والإعلامي.
خاتمة:
إن الحديث عن حقوق الإنسان في سورية ما بعد الأسد ليس ترفًا فكريًا، بل هو ضرورة وجودية، فالمستقبل لا يُبنى فقط على أنقاض الماضي، بل على رؤية واضحة تُعيد الاعتبار للكرامة الإنسانية، وتُؤسس لعقد اجتماعي جديد.
ورغم التحديات الهائلة، فإن الفرصة لا تزال قائمة. فالسوريون، الذين دفعوا أثمانًا باهظة، يستحقون مستقبلًا أفضل، تُحترم فيه حقوقهم، وتُصان فيه حرياتهم، ويُحاسب فيه من انتهك كرامتهم.
إن بناء سورية الجديدة يبدأ من الإنسان، وينتهي إليه، وكل خطوة نحو العدالة، هي خطوة نحو السلام الحقيقي.
د. زاهر بعدراني
رئيس تيار المستقبل السوري