الخصوصية السورية واستنساخ النماذج السياسية

مقدمة:

في عالم السياسة والاقتصاد، تُعتبر التجارب الناجحة للدول المتقدمة مصدر إلهام للدول التي تسعى للنهوض من أزماتها، ولكن هل يمكن استنساخ هذه التجارب دون مراعاة الخصوصية الثقافية والاجتماعية والسياسية للدولة؟ هذا السؤال يبرز بشكل خاص في تصريح رجل الأعمال السوري أيمن الأصفري على تلفزيون سوريا الذي دعا إلى استنساخ تجربة سنغافورة وغيرها من الدول المتقدمة في سورية دون مراعاةٍ للخصوصية السورية.

من الناحية الفلسفية، يمكن النظر إلى استنساخ التجارب العالمية كجزء من مفهوم "العالمية" الذي يدعو إلى تبني أفضل الممارسات بغض النظر عن الحدود الوطنية. ومع ذلك، فإن هذا المفهوم يتعارض أحيانًا مع فكرة "الخصوصية الثقافية"، التي تؤكد على أن كل مجتمع له سياقه الخاص الذي يجب أن يُراعى عند تطبيق أي نموذج خارجي.

سنغافورة، على سبيل المثال، نجحت بفضل نظامها السياسي القوي واستثمارها في التعليم والتكنولوجيا. ولكن هل يمكن لسورية، التي تعاني من ضعف المؤسسات وانعدام الثقة بين مكوناتها الاجتماعية، أن تتبنى نفس النهج؟ أم أن الحل يكمن في تطوير نموذج فريد يأخذ بعين الاعتبار التحديات المحلية؟

على أن تصريح السيد أيمن الأصفري يسلط الضوء على الحاجة إلى التفكير النقدي عند استلهام التجارب العالمية، وقد سبب تصريحه في سورية جدالًا فكريًا وسياسيًا حول إمكانية استنساخ نماذج دول ناجحة مثل سنغافورة، حيث ينقسم الرأي بين من يرى في النموذج الليبرالي الغربي أو السلطوي الآسيوي حلًا مثاليًا، وبين من يؤكد على ضرورة مراعاة الخصوصية السورية.

 هذا الجدال ليس جديدًا في حقل الفلسفة السياسية، إذ يتعلق بالسؤال المركزي: كيف يمكن التوفيق بين المبادئ الكونية (كالديمقراطية وحقوق الإنسان) والخصوصيات الثقافية والتاريخية للمجتمعات؟.

الأسس الفلسفية: الكونية مقابل الخصوصية :

ينطلق النقاش من ثنائية فلسفية عميقة بين "الكونية" (Universalism) التي تدعو إلى تطبيق مبادئ عابرة للثقافات، كما في نظرية جون رولز عن "العدالة كإنصاف"، التي تُعلي من شأن الحريات الأساسية والمؤسسات الديمقراطية، وبين "الخصوصية" (Particularism) التي تؤكد، كما عند مايكل والزر في كتابه "الثخين والرفيع" (Thick and Thin)، أن الأنظمة السياسية يجب أن تنبثق من "السّمك الأخلاقي" للمجتمعات، أي قيمها وتاريخها المتراكم.  

وفي هذا الإطار، يقدم أمارتيا صن في "فكرة العدالة" نقدًا للنهج الكوني الصارم، مشيرًا إلى أن العدالة يجب أن تُبنى عبر حوار مقارن (Comparative Approach) يراعي التنوع البشري، بدلًا من فرض نموذج مثالي مجرد.

الخصوصية السورية:

لا يمكن فهم الخصوصية السورية دون تفكيك طبقاتها المتعددة والتي يمكن إجمالها بالآتي:

  1. التاريخية، من الإرث العثماني إلى الانتداب الفرنسي، ثم هيمنة حزب البعث، وصولًا إلى الثورة الأخيرة التي أعادت تشكيل البنية الاجتماعية والسياسية.  
  2. الاجتماعية، من تنوع طائفي (سُني، علوي، مسيحي، درزي…) وعشائري، مع صراعات هويات فرعية تفاقمت بسبب الحرب.  
  3. الجيوسياسية، فموقع سورية مؤثر كساحة صراع إقليمي ودولي، ما يجعل أي نموذج سياسي خاضعًا لتأثيرات خارجية.  
  4. الثقافية، وهي مزيج من الهوية العربية والإسلامية مع إرث ثقافي متنوع، بما في ذلك التقاليد المحلية التي تتعارض أحيانًا مع الفردانية الغربية.  

هذه المكونات تُشكل تحديات أمام استنساخ نموذج مركزي صارم كالسنغافوري، الذي يعتمد على سلطة أبوية (Paternalistic Authority) واقتصاد السوق المفتوح، لكن في سياق مجتمع متجانس نسبيًا.

 تجارب عالمية.. الاستنساخ الذكي واحترام الخصوصية:

تاريخيًا نجحت دول في تبني نماذج خارجية بعد تكييفها مع سياقها، فاليابان في عصر الميجي (1868–1912) استعارت المؤسسات الغربية لكنها حافظت على الهوية اليابانية عبر دمج القيم الكونفوشيوسية.  

وفي جنوب أفريقيا ما بعد الفصل العنصري، مزجت بين الدستور الليبرالي وآليات المصالحة التقليدية (كمحكمة الحقيقة والمصالحة).  

وأما رواندا فقد استخدمت محاكم "غاتشاتشا" التقليدية لإدارة العدالة الانتقالية بعد الإبادة الجماعية، مع الحفاظ على مؤسسات الدولة الحديثة.  

وفي سنغافورة نفسها، فقد جمعت بين الاقتصاد الحر والنظام السلطوي، مستفيدة من القيم الآسيوية مثل الأسرة والانضباط الاجتماعي.  

هذه التجارب تشير إلى أن الاستنساخ الناجح يتطلب التكييف (Hybridity) -مفهوم طرحه هومي بابا في دراسات ما بعد الاستعمار- أي خلط النموذج المستورد مع العناصر المحلية.

بين التجاهل والتوفيق:

ينتصر المقال من خلال المصدر المعرفي التجريبي إلى أنه عندما تُفرض النماذج دون مراعاة السياق، تكون النتائج كارثية.

ففي العراق، أدى إلغاء الجيش وحل حزب البعث إلى تفكيك البنية الاجتماعية، مما فتح الباب للصراع الطائفي. 

وفي أفغانستان، فشل النظام الديمقراطي المركزي في التعايش مع البنية القبلية.

هذه الأمثلة وغيرها تؤكد تحذير إدوارد سعيد في "الاستشراق" من خطورة النظرة الأحادية للشعوب، التي تتجاهل تعقيداتها.

لهذا فإننا في تيار المستقبل السوري نميل نحو نموذج سوري توافقي بين الكوني والخصوصي، وذلك لضمان استقرار سورية المستقبلية، وعليه فإن رؤيتنا تقوم على بناء نموذج سياسي يرتكز على:  

  1. الحوار التشاركي عبر إشراك الفاعلين المحليين (عشائر، ممثلين طائفيين، نخب مدنية) في صياغة العقد الاجتماعي، كما يقترح هابرماس في نظريته عن الفضاء العام.  
  2. المؤسسات الهجينة، بمعنى خاص: دمج آليات ديمقراطية (كانتخابات محلية) مع هياكل تقليدية (كمجالس المصالحة العشائرية).  
  3. العدالة المرنة، من خلال تبني مفهوم أمارتيا صن عن "القدرات" (Capabilities)، الذي يربط بين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافة المحلية.  

الخاتمة:

الخصوصية السورية ليست عائقًا أمام التحديث كما يبدو، بل إطاراً ضروريًا لضمان شرعية أي نموذج سياسي، فالاستنساخ الحكيم لا يعني التقليد الأعمى، بل التفاعل النقدي مع التجارب العالمية، كما فعلت اليابان وجنوب أفريقيا. 

في هذا السياق، تقدم الفلسفة السياسية أدوات لفهم التوازن بين الكوني والخصوصي، مؤكدة أن مستقبل سورية يجب أن يُبنى من الداخل، عبر حوار يعترف بتنوعها ويستلهم من نجاحات الآخرين دون استلاب.

المكتب العلمي

جمعة محمد لهيب

قسم البحوث والدراسات

مقالات

تيار المستقبل السوري

شاركها على:

اقرأ أيضا

منتدى الأعمال السوري الكوري

منتدى الأعمال السوري الكوري الذي أقيم في الشيراتون بحضور الدكتور زاهر بعدراني.

5 ديسمبر 2025

إدارة الموقع

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع