مقدمة:
في الثلاثين من حزيران عام 2025، وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب القرار التنفيذي القاضي برفع العقوبات الاقتصادية الشاملة عن سورية، منهياً بذلك أكثر من عقدين من العزلة المالية والتجارية التي بدأت منذ فرض العقوبات الأولى عام 2004، وبلغت ذروتها مع تطبيق قانون قيصر عام 2020.
وقد رُوّج لهذا القرار بوصفه نقطة انطلاق نحو الاستقرار والانفتاح، لكن الوقائع الميدانية والسياسية بعده كشفت مشهدًا أكثر تعقيدًا، وأظهرت أن فك الحصار الدولي لا يعني بالضرورة انفتاحًا داخليًا أو تجديدًا وطنياً.
ففي الشمال الشرقي، تواصلت سلطات "الإدارة الذاتية الديمقراطية" عملها بمعزل عن أي طرح دستوري جامع، متجنبة الدخول في مسار سياسي وطني يعيد تعريف العلاقة بين المركز والأطراف.
وفي الجنوب، ورغم سلسلة الاحتجاجات المدنية في السويداء منذ أغسطس 2023، فإن القوى المحلية هناك بقيت خارج العملية السياسية الرسمية، ما يوحي باستمرار العقلية الإقصائية حتى في مرحلة يفترض أنها تأسيسية.
أما على المستوى الاقتصادي، فقد شهدت المدن الرئيسية، وفي مقدمتها دمشق وحلب، تدفقًا استثماريًا مفاجئًا منذ بداية يوليو 2025، تجسّد في إطلاق مشاريع عقارية ومصرفية عملاقة عبر شركات حديثة التأسيس، غالبًا ما تفتقر إلى الشفافية في مصادر تمويلها وهياكل ملكيتها.
هذا الحراك الاقتصادي، الذي يُفترض أن يكون مشفوعًا بإصلاحات حوكمة ومراقبة شعبية، يُنبئ بتشكُّل محاصصات اقتصادية جديدة قد تكرّس سلطات الأمر الواقع وتُضعف فرص إعادة بناء الدولة الوطنية.
ولذلك، فإن مسؤوليتنا كقوى مدنية ديمقراطية لا تقتصر على مراقبة هذه التطورات، بل تتطلب قيادة خطاب إصلاحي شجاع يُعيد الاعتبار لفكرة المواطنة، ويضع العملية السياسية على أسس جديدة تكفل العدالة والشفافية وتفتح الطريق أمام عقد اجتماعي جديد.
إن رفع العقوبات يجب ألّا يتحول إلى فرصة لتحالفات غير رسمية فوق دستورية، بل إلى لحظة تأسيسية تُعيد بناء الوطن من بوابة الحوار والمحاسبة والعدالة.
المحور الأول:
رفع العقوبات أهو خطوة قانونية أم تكريس لاقتصاد فوق وطني؟
وقع الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأمر التنفيذي رقم 13988، منهياً العقوبات الشاملة التي فرضت على سورية منذ عام 2004، وخصوصًا قانون قيصر الذي طُبق منذ 2020. وقد قوبل هذا القرار في بعض الدوائر الرسمية بأنه نافذة خلاص اقتصادي، لكنه على أرض الواقع كشف عن مشهد مركّب، فيه انفتاح خارجي بلا إصلاح داخلي، واستثمارات متدفقة بلا شفافية، وتوجهات اقتصادية تفتقر إلى التمثيل الشعبي أو الرقابة المؤسساتية.
ومن أبرز ما جرى بعد رفع العقوبات:
- ميناء اللاذقية: في 1 أيار 2025، وُقّع عقد استثمار وتشغيل مع شركة CMA CGM الفرنسية، مدته 30 عامًا وبقيمة 230 مليون يورو.
ورغم أهمية المشروع في تحديث البنية البحرية، لم يُعرض العقد على استفتاء أو أن يعلق ليوافق عليه مجلس الشعب القادم، أو يصدر بيان تفصيلي من وزارة النقل حول شروط الشراكة وتوزيع العائدات.
وهذا الغموض يُثير مخاوف حول السيادة الاقتصادية للمرافئ الحيوية. - البنية الرقمية: بتاريخ 31 أيار 2025، وقّعت وزارة الاتصالات مذكرة تفاهم مع شركة "اتحاد عذيب السعودية"، عبر منصة "قو للاتصالات"، بهدف تطوير الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء في سورية.
وهذه المذكرة أيضاً لم تمر عبر لجنة وطنية، ولم تُعلن آليات الاستضافة للبيانات السيادية، رغم أنها تمس البنية التقنية للدولة. - شركة دمشق الشام القابضة: عادت بقوة إلى المشهد من خلال تحديث مشاريع "ماروتا سيتي" و"باسيليا سيتي".
هذه الشركة، التي تأسست عام 2016 وتدير أملاك المحافظة، واجهت منذ سنوات اتهامات بالاحتكار العقاري، ورغم تغير الظروف بعد رفع العقوبات، لم تُجرَ مراجعة مستقلة لحجم إنفاقها أو توزيع المساكن البديلة على المهجرين، رغم أن هذه المناطق تُعد من أخطر مواضع النزوح الحضري في البلاد.
ومن خلال هذه الوقائع، يتضح أن رفع العقوبات لم يكن مساراً نحو إصلاح اقتصادي متكامل، بل فرصة جزئية استغلتها أطراف نافذة لإعادة تموضعها اقتصاديًا، في ظل غياب واضح لدور المجتمع المدني وللرقابة الدستورية على الاتفاقيات الخارجية.
والنتيجة كانت رسم مشهد اقتصادي جديد، تحكمه شراكات غير شفافة، دون أن يكون للمواطن دور أو تمثيل بها.
المحور الثاني:
تغييب القوى المحلية في مرحلة التحول السياسي، "قسد" والسويداء نموذجًا:
فبعد صدور القرار الأميركي برفع العقوبات تصاعدت الآمال بأن تدخل سورية مرحلة سياسية جديدة، تُنهي منطق الإقصاء وتفتح الباب أمام تسويات عادلة وشاملة، لكن ما حدث على الأرض كشف أن العملية السياسية ما تزال تُدار بمنطق المركزية، وبوسائل رمزية لا تعكس التنوع الحقيقي للجغرافيا السورية.
أولًا: الإدارة الذاتية (قسد): فرغم أنها تُسيطر فعليًا على نحو 27% من الأراضي السورية، لم تُشارك "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية" في مؤتمر الحوار الوطني السوري بدمشق في 25 شباط 2025، والذي وصفته الحكومة بأنه تأسيسي للمرحلة الانتقالية.
وقبله، كانت الإدارة الذاتية قد رفضت الدعوات المتكررة للمشاركة في اللجنة الدستورية التي تأسست برعاية أممية في 30 تشرين الأول 2019 زمن النظام البائد.
إذاً فالإدارة الذاتية تبنّت مشروعًا فدراليًا خاصًا بها منذ عام 2016، ووسّعت سلطتها عبر انتخابات محلية في سبتمبر 2020 وسبتمبر 2022، لكنها فضّلت الاحتفاظ بعلاقات أمنية واقتصادية موازية مع أطراف دولية كواشنطن والتحالف الدولي، دون الدخول في أي مفاوضات داخلية مع المركز في دمشق أو القوى المعارضة الأخرى.
هذا الانعزال التفاوضي لا يُفسَّر على أنه خلاف سياسي فقط، بل يُشير إلى شرخ بنيوي في تصور الدولة نفسها، حيث باتت هناك سلطة قائمة تُدير اقتصادًا مستقلًا (عبر مرفأ رميلان وشركات النفط المحلية)، دون أن تُلزم نفسها بأي إطار دستوري وطني، ودون أن تكون طرفًا في مفاوضات ما بعد رفع العقوبات.
ثانيًا: السويداء… حراك شعبي خارج التمثيل الرسمي
منذ حزيران 2023، شكّلت محافظة السويداء نموذجًا لحراك مدني سلمي ناضج، ابتدأ بمظاهرات واسعة للمطالبة بإصلاح إداري، مرّ عبر تشكيل “لجنة تنسيق في تموز 2023، وانتهى بمحاولة إرسال وفد تفاوضي إلى دمشق في 2 شباط 2025، بعد التحرير، بهدف طرح مبادرة للحكم المحلي.
رغم ذلك، لم يُمنح هذا الوفد أي تمثيل في مؤتمر دمشق 2025، ولم تُدرج مطالبه ضمن مخرجات "ملتقى القاهرة للمعارضة السورية" الذي انعقد في 12 كانون الأول 2024، وأعلن فيه معارضون من الخارج انخراطهم في صياغة الدستور السوري، دون أي تنسيق مع القوى الاحتجاجية الفاعلة داخل المحافظات المهمشة.
والأكثر خطورة هنا هو أن الحكومة السورية وبرغم تصريحات الرئيس أحمد الشرع برفض التقسيم، رفضت الاعتراف بأي هيكل سياسي ناتج عن الحراك السويدائي، رغم دعمه الشعبي والرمزي، وأبقت العلاقة معه في إطار أمني رقابي.
وبذلك يتّضح أن العملية السياسية الجارية، بعد رفع العقوبات، ما زالت تُدار بأدوات تمثيلية شكلية تُقصي الأطراف الفاعلة فعليًا على الأرض. فـ“قسد” سواء برغبتها أو برغبة دمشق غائبة رسميًا رغم التفاؤل باتفاق آذار بين الرئيس والجنرال، والسويداء مغيّبة سياسيًا سواء بسبب سياسة الشيخ الهجري الاستفزازية أو بسبب تغاضي الحكومة الحالية بقيادة محافظ السويداء مصطفى بكور عن المطالب اللامركزية للهجري رغم زيارته لدارة الشيخ بعد الهجوم على المحافظ وتقديمه استقالته التي تم رفضها، كل هذا بينما تُعاد صياغة الدستور وبناء مسارات الحكم عبر مؤتمرات لا تشهد مشاركة القوى المجتمعية أو الإدارية التي تُدير الأرض وتتحمّل أعباء الواقع.
ونقولها، إن هناك إذا تخوف كبير من عملية سياسية فوق وطنية، بلا ضمانات دستورية جامعة، تُعيد إنتاج فجوات جغرافية وسياسية، لا تبني دولة المواطنة بل تُكرّس تقاسم النفوذ.
المحور الثالث: الاقتصاد السوري بعد فك العزلة – بين فرص الانفتاح وتكرار أنماط الهيمنة الإقليمية:
يبدو اليوم المشهد الاقتصادي وكأنه يتّجه نحو انفتاح غير مسبوق، إذ بعد إعلان الولايات المتحدة رفع العقوبات عن سورية وما تبعه من خطوة مماثلة من الاتحاد الأوروبي في 20 أيار 2025، عادت سورية إلى منظومة SWIFT الدولية، وأُعيد السماح للمصارف السورية بإجراء تحويلات خارجية، وتم توقيع عدد من الاتفاقيات الكبرى مع شركات من تركيا وقطر وفرنسا والولايات المتحدة. لكن هذه التحولات، على الرغم من قيمتها، تُعيد طرح السؤال الحاسم: هل نُعيد بناء اقتصاد وطني شفاف؟ أم نُعيد تدوير نماذج إقليمية سبق أن كرّست التفاوت والاحتكار؟.
وتشير إحصاءات وزارة التجارة الداخلية إلى تسجيل ما يزيد عن 450 شركة جديدة بين نيسان وتموز 2025، تشمل قطاعات العقارات، الطاقة، النقل، والخدمات المالية. ومن هذه الشركات:
- شركة الشرق للاستشارات المالية التي تأسست في 3 تموز ونالت ترخيصها خلال 48 ساعة فقط.
- شركات جديدة للسيارات والاتصالات بدأت بالعمل رغم أن هذه القطاعات كانت شبه متوقفة منذ عام 2020.
لكن ورغم هذا النمو الكمي، لا توجد خطة تشريعية واضحة لتعديل قوانين الاستثمار، أو لتفعيل الهيئة العليا للرقابة على الشركات التي أُنشئت بصيغة مرسوم منذ 2018 ولم تُفعّل حتى الآن.
بينما نرى مثلا بعد توقيع الأردن لاتفاقيات غاز ومياه إقليمية في 2021، قد أُقرّت تعديلات على قانون الشركات، وأُنشئت هيئة مستقلة لمراقبة الاستثمار.
أما في سورية، فيبدو أن الانفتاح تم، لكن دون آليات رقابة مؤسسية متكاملة.
هذا، ومن أبرز الاتفاقيات بعد رفع العقوبات:
1- توقيع اتفاقية في 2 حزيران 2025 بقيمة 7 مليارات دولار بين وزارة الطاقة السورية وتحالف شركات:
- Kalyon GES Enerji، Cengiz Enerji التركيتان.
- Power International USA الأميركية.
- UCC Concession Investments القطرية.
تشمل هذه الاتفاقية بناء خمس محطات كهرباء في دير الزور، محردة، زيزون، تريفاوي، ووديّان الربيع.
2- اتفاقية تطوير وتشغيل ميناء اللاذقية مع شركة CMA CGM الفرنسية في 1 أيار 2025، لمدة 30 عامًا، باستثمار يبلغ 230 مليون يورو.
ورغم قيمة هذه العقود، فإن عدم عرضها على مجلس الشعب القادم، أو إصدار قرارات تشريعية خاصة بها، يُعيد إلى الأذهان أسلوب إدارة الصفقات الكبرى دون مساءلة.
فمثلا، بعد اتفاق تونس مع مجموعة Eni الإيطالية لتوسعة موانئ الطاقة في 2023، تم تشكيل لجنة برلمانية مختصة بمراجعة عقود الطاقة، مع نشر البنود في الجريدة الرسمية. بالمقابل، في الحالة السورية، تغيب الآليات الشفافة وتُدار العقود عبر قنوات تنفيذية مغلقة.
وأيضا، الرخصة العامة رقم 25 الصادرة عن وزارة الخزانة الأميركية فتحت الباب أمام التعاملات المالية الدولية.
كما بدأت وزارة المالية بالتحضير لعودة سورية إلى شبكة SWIFT وتسهيل التحويلات الخارجية. لكن: - لم تصدر حتى الآن خطة لإصلاح القطاع المصرفي العام.
- لم تُعلن بنود محدثة لقانون مكافحة غسل الأموال.
- لم تُفعّل دائرة “النزاهة المصرفية” التي أُعلن عنها في 14 أيار 2025.
وهذا يُذكرنا بتجربة العراق، فرغم رفع العقوبات عنه، إلا تأخير إصلاح القطاع المصرفي أدى إلى استفحال شبكات غسل الأموال.
وهذا درس لسورية اليوم، فلا يمكن فصل الانفتاح التقني عن الإصلاح التشريعي البنيوي.
والسؤال اليوم ليس فقط عن رفع العقوبات، رغم أهميته الكبيرة وبل الاستراتيجية، بل عن شكل الاقتصاد الذي يُعاد تشكيله:
- هل تُوزّع العقود الاستراتيجية على أساس تنافسي؟
- هل تُراعى المناطق المنكوبة والمتضررة؟
- هل تُمنح فرص الاستثمار لمشاريع إنتاجية أم لمضاربات عقارية؟.
نرى في لبنان، ورغم انتهاء الحرب وتدفق الاستثمارات، تحوّل الاقتصاد اللبناني إلى نموذج ريعي مركّز على القطاع المالي والعقاري، ما فاقم التفاوت الاجتماعي والبطالة.
ما لم يُدرَك في سورية اليوم، هو أن غياب التشريع والرقابة قد يُفضي إلى ذات النتيجة: اقتصاد فوق وطني، يُكرّس تفاوتًا بين مراكز النفوذ والمجتمع المحلّي.
نحن أمام فرصة نادرة: رفع العقوبات فتح الأبواب أمام الشراكة الدولية، لكنه لم يفتحها أمام المواطن السوري ما لم تُبنَ مؤسسات رقابية، ويُفعّل القانون، وتُصان الحقوق الاقتصادية.
والمطلوب، ليس فقط عودة رأس المال، بل عودة الثقة السياسية بالاقتصاد، عبر بناء نموذج يُشارك فيه المجتمع المدني، تُراقبه المؤسسات، ويُوجَّه لخدمة الناس لا لإعادة إنتاج منظومات النفوذ.
المحور الرابع: الدولة والمكونات المحلية بعد رفع العقوبات – نحو صياغة عقد وطني لا مركزي تعاوني؟
إذا كانت العقوبات تمثّل عزلة خارجية، فإن غياب التفاهم الداخلي بين المركز والمكونات المحلية يشكّل عزلة داخلية أكثر قسوةً وتحديًا. فرفع العقوبات عن سورية في 30 حزيران 2025 فتح الباب أمام انخراط خارجي كثيف في مشاريع اقتصادية وتنموية، لكنه لم يُقرن حتى الآن بمراجعة حقيقية لطبيعة العلاقة بين الدولة المركزية والفاعلين المحليين، سواء كانوا إدارات سياسية (كما في شمال شرق سورية)، أو كيانات اجتماعية وبلدية (كما في الجنوب والساحل).
الفرصة هنا ليست فقط في استثمار المال، بل في إعادة تعريف الدولة بوصفها مؤسسة راعية لا متحكمة، تجمع ولا تُملي، وتُوزع السلطة لا تحتكرها.
وعلى مدى السنوات الماضية، أثبتت "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية" رغم التحفظ على مسارها بالعموم، أنها قادرة على إدارة المؤسسات الخدمية والتعليمية والأمنية ضمن نموذج شبه فدرالي. فالانتخابات المحلية في سبتمبر 2020 وسبتمبر 2022 أفرزت مجالس محلية منتخبة، والمناطق بدأت تعتمد نظامًا قانونيًا خاصًا بها، قائمًا على عقود اجتماعية وبلاغات تنظيمية.
لكن ورغم هذه القدرات، بقيت هذه المكونات خارج أي مسار تفاوضي رسمي مع دمشق، لم تُدعَ الإدارة الذاتية إلى مؤتمر الحوار الوطني السوري في 25 شباط 2025 كما تقدم، رغم أن اتفاقيات الطاقة التي وُقّعت في حزيران شملت أراضي خاضعة لسيطرتها.
في التجربة الكردستانية، وبعد رفع العقوبات الدولية عن بغداد عام 2003، جرى تأسيس علاقة تعاقدية بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان، تمخّض عنها توزيع في عائدات النفط، وتخصيص حصص مالية للإقليم وفق قوانين الموازنة.
وفي الحالة السورية، لا تزال العلاقة بين المركز والإدارة الذاتية غامضة، بلا أطر قانونية أو توزيع مسؤوليات مالية.
وأيضاً منذ خروج مظاهرات السويداء في حزيران 2023، طالب الحراك بإنشاء "مجلس محافظة منتخب" بصلاحيات تشريعية، واقترحت لجنة تنسيق السويداء التي تشكّلت في تموز، تأسيس نموذج إداري لا مركزي يستند إلى التمثيل المجتمعي والرقابة المحلية.
لكن هذا المشروع، رغم نضجه، لم يُدرج ضمن أي خارطة سياسية رسمية لا قبل التحرير ولا بعده، إذ لم يُمثّل في مؤتمر دمشق عام 2025، حتى أن الوفد الذي أرسلته اللجنة إلى العاصمة في 2 شباط 2025 لم يُقابل بأي استجابة حكومية واضحة، بل قوبل بتأجيل اللقاءات بذريعة "الظرف الأمني".
وهنا يمكن الإفادة من تجربة ولاية مدنين التونسية، بعد ثورة 2011، حيث نشأت مجالس جهوية تتمتع بميزانيات مستقلة وصلاحيات تخطيط محلي، ضمن إطار القانون الأساسي للبلديات. التجربة أظهرت أن التمكين المحلي لا يُضعف الدولة، بل يمنحها شرعية مجتمعية، أما في سورية، فما زالت البلديات تُدار من المركز، وغالبًا دون صلاحيات حقيقية أو ميزانيات مستقلة، ولم تستطع هذه المجالس أن تتأقلم مع التغير الجديد للسلطة.
ما تكشفه هذه المقاربات هو أن الأزمة ليست في وجود سلطات محلية، بل في غياب العقد الوطني الناظم للعلاقة بين المركز والأطراف، رفع العقوبات يجب أن يكون مناسبة لإعادة بناء هذه العلاقة على أسس قانونية واقتصادية واضحة، أهمها:
1- أن تُقرّ الدولة بهياكل محلية منتخبة وتُشرّعها ضمن الدستور.
1- أن توزّع العائدات الاقتصادية بشكل عادل بين المحافظات.
2- أن تضمن الشراكة في التخطيط لا مجرد التبعية في التنفيذ.
في قانون الجهوية المتقدمة في المغرب، الذي أُقر عام 2015، أتاح للمجالس الجهوية صلاحيات واسعة في التنمية والتخطيط، مع الحفاظ على سلطة الدولة في القضايا السيادية. النموذج هنا يربط بين المركزية الإدارية والوحدة السياسية بطريقة مرنة، ويُظهر أن الدولة القوية لا تخاف من تعددية الجهات، بل تُراهن على مشاركة الجميع في البناء.
إن المرحلة الجديدة التي تعيشها سورية لا تتطلب فقط جذب الاستثمار والمال، بل إعادة تعريف من هو الفاعل السياسي والاقتصادي في الداخل، الدولة ليست فقط حكومة في دمشق، بل أيضًا بلديات في السويداء، ومجالس مدنية في الحسكة، ونقابات مهنية في حلب.
إن بناء دولة جامعة في مرحلة ما بعد العقوبات يقتضي اتفاقًا وطنياً يُعيد ترتيب العلاقة بين المركز والأطراف، ويُعلي قيمة المواطنة على ما دونها.
فالوحدة الوطنية لا تُبنى بالإنكار أو الإقصاء، بل بالشراكة، بالقانون، وبالاعتراف المتبادل بين مؤسسات الدولة والمجتمع.
المحور الخامس: رفع العقوبات كفرصة للعدالة والإصلاح… أم لحظة تضيع في إعادة تدوير النفوذ؟
تشكل لحظة رفع العقوبات الدولية عن سورية في مايو ويونيو 2025 تحولًا قانونيًا وتجاريًا لا جدال فيه.
لكنها من زاوية بناء الدولة، لا تحمل قيمتها الحقيقية إلا إذا تم تحويلها إلى منصة لتدشين مشروع العدالة والإصلاح المؤسسي، لا مجرد إعادة تموضع لقوى سابقة أو صعود نخب جديدة دون شرعية شعبية.
هنا يتعيّن علينا، كقوى مدنية ديمقراطية، أن لا نكتفي برصد حجم التدفقات المالية أو طبيعة العقود، بل أن نحاكم هذه اللحظة وفق سؤالين جوهريين: من يستفيد؟ ومن يشارك؟
فإذا كانت حقبة النظام السابق قد أغلقت بقرار سياسي، فإن فتح صفحة جديدة لا يجب أن يتم قبل جبر الضرر، وكشف الحقيقة، وتقديم ضمانات بعدم التكرار، العدالة الانتقالية ليست انتقامًا، بل عملية مجتمعية تُعيد للمواطن كرامته، وللمؤسسات شرعيتها، وللتاريخ توازنه، حيث إنه إلى الآن، لم يُعلن عن هيئة مستقلة لتوثيق الانتهاكات أو إدارة التعويضات، ولم يُقر قانون للعدالة الانتقالية، رغم دعوات ناشطين منذ مؤتمر الحوار الوطني في شباط 2025، كما لا يوجد مسار قانوني لإدماج الضحايا وممثليهم في صياغة الدستور أو التنمية الاقتصادية.
في الحالة المغربية، وبعد "سنوات الرصاص"، أُنشئت هيئة الإنصاف والمصالحة في 2004، وأدت إلى جبر ضرر أكثر من 9000 ضحية، وتغيير في منهجية التعامل مع الذاكرة الوطنية. النموذج المغربي أثبت أن الاقتصاد بدون عدالة لا يُوحّد الشعور الوطني بل يُعمّق الجراح.
كما أن الاقتصاد الناجح لا يُبنى فقط عبر توقيع الاتفاقيات، بل عبر مؤسسات تُراقب وتُحاسب وتُشرعن.
إن رفع العقوبات، رغم كونه لحظة تمكين مالي، ما زال حتى الآن يفتقر إلى أدوات إصلاح فعلي وهي:
1- لا توجد هيئة مستقلة لمراقبة العقود الدولية.
2- لم يُفعّل قانون مكافحة الاحتكار، رغم عودة شركات شبه احتكارية للعمل.
3- لم تُعاد هيكلة القطاع المصرفي وفق المعايير الدولية.
في رواندا بعد الإبادة، وبعد كارثة 1994، أسست "هيئة مكافحة الفساد"، وربطت كل مشروع إنمائي ببرنامج إصلاح مؤسسي، ما جعلها نموذجًا في استعادة الثقة الدولية خلال أقل من عقد.
وفي سورية، ما لم يُقرن الانفتاح بترميم أجهزة الرقابة، فإن الثقة الشعبية لن تُستعاد.
وأيضا، رفع العقوبات يجب ألا يُبنى فقط كفرصة تجارية بل كمدخل لتجديد التعاقد بين السوريين والدولة. حيث هناك ملفات سياسية ومجتمعية ينبغي أن تُدرج ضمن مشاريع الاقتصاد والتنمية:
1- مشاركة البلديات والمكونات المحلية في تخطيط المشاريع.
2- تخصيص جزء من العائدات لإعادة إعمار المناطق المنكوبة.
3- ربط الاستثمارات بالضوابط البيئية والاجتماعية في المحافظات المهملة.
لقد ربط دستور جنوب أفريقيا بعد 1996 بين العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية، وتخصيص موارد الدولة لدمج المجتمعات التي عانت التمييز تاريخيًا. إذاً الاقتصاد كان وسيلة للمصالحة، لا مجرد توسّع في الناتج القومي.
ما نحتاجه اليوم هو ألا نُعامل لحظة رفع العقوبات كفرصة لإنعاش أرقام الموازنة، بل كنافذة لبناء سورية جديدة تُعيد الاعتبار للمواطن، للمؤسسات، وللإنصاف. العدالة الانتقالية هي قلب الإصلاح، والإصلاح هو شرط الثقة، والثقة هي مدخل الشراكة. وكل اقتصاد لا ينبني على هذه المعادلة، سيبقى هشًا مهما بدت أرقامه مغرية.
خاتمة: سورية بعد رفع العقوبات… بين مسؤولية الداخل وتحديات الخارج:
في زمن الانفتاح الدولي، لا يعود السؤال الأهم عن حجم العقود أو قوة الحلفاء، بل عن طبيعة المشروع الوطني الذي نريده! فهل نكتفي بإزالة القيود المالية؟ أم نبني دولة تحكمها العدالة، وتُدار بمؤسسات، وتُعبّر عن جميع أبنائها، لا بعضهم؟
لقد كشف رفع العقوبات عن هشاشة العلاقة بين السلطة والمجتمع، بين المركز والأطراف، وبين الاقتصاد والسياسة، وهو ما يتطلب اليوم لحظة تأمل ومسؤولية جماعية، لا اصطفاف ولا تسليم.
فإعادة الاعتبار للمواطن، وللمؤسسات، وللعدالة، ليست مجرد مطالب فكرية، بل شروط أساسية لضمان استقرار سياسي واقتصادي مستدام. فسورية تحتاج إلى نموذج وطني متجدّد لا يُعاد تصنيعه في أروقة الصفقة، بل يُكتب في وجدان الناس، وينهض بهم لا عليهم.
وعليه، فإن هذا المقال يقدم رؤية مختصرة وخريطة طريق عملية:
- إرساء العدالة الانتقالية عبر:
- تشكيل هيئة مستقلة لتوثيق الانتهاكات وتعويض المتضررين.
- تضمين قيم العدالة والإنصاف في صياغة الدستور الجديد، بعد تأسيس البرلمان.
- فتح المجال أمام المجتمعات المتضررة للمشاركة الفعلية في بناء الدولة.
2.إطلاق إصلاح مؤسسي شامل من خلال:
- إعادة هيكلة القطاع المصرفي والضريبي وفق المعايير الدولية.
- تفعيل أدوات الرقابة والمساءلة داخل الوزارات والهيئات المستقلة.
- إصدار قانون خاص ولو كان مرسوماً رئاسيا بهذه المرحلة خاصاً بالشفافية الاقتصادية والمناقصات.
3.تأسيس عقد اجتماعي جامع يهتم بـ:
- الاعتراف بتعدد الهياكل المحلية، وإشراكها في صياغة القرار المركزي.
- إطلاق حوار وطني لا مركزي يشمل الأطراف غير المنخرطة سياسيًا.
- تبني نموذج تنمية متوازن بين المدن والأرياف، وبين الساحل والداخل.
4.ربط الاستثمار بالتنمية المجتمعية:
- تخصيص جزء من العائدات للاستثمار في التعليم، والصحة، والبنية التحتية المحلية.
- وضع معايير بيئية واجتماعية إلزامية لكل مشروع استثماري جديد.
- إنشاء صندوق إعادة إعمار مستقل تُديره جهات رقابية متعددة.
بذلك، لا يكون رفع العقوبات نهاية أزمة، بل نرى أنها بداية طريق جديد تُبنى فيه سورية من كل مكوناتها، وبكل كفاءاتها، نحو مستقبل يليق بذاكرة شعبها وتطلعات أجيالها، وهذا ما نعمل عليه في تيار المستقبل السوري وندعو إليه.