منحة البنك الدولي لقطاع الكهرباء بين تعافي البنية وسيادة الإرادة

مقدمة:

في خطوة تُقرأ بمستويات متعددة سياسياً واقتصادياً، وافق البنك الدولي في حزيران 2025 على تقديم منحة بقيمة 146 مليون دولار أميركي لدعم قطاع الكهرباء في سورية، في إطار ما يُعرف ببرنامج "الاستجابة الطارئة للتعافي المبكر للخدمات الحيوية"، ورغم الطابع الإغاثي الظاهري للمنحة، إلا أنها تُشكّل وفق قراءة تحليلية مؤشراً على دخول البلاد في مرحلة ما بعد الحرب كمجال اقتصادي-سياسي قابل للاستثمار المشروط، لا سيما في ظل صعود سلطة جديدة تُدير مناطق شاسعة من البلاد بروح تأسيسية مختلفة عن نموذج الدولة الاستبدادية التقليدية.

يسعى هذا المقال لتحليل منحة البنك الدولي بقيمة 146 مليون دولار لدعم قطاع الكهرباء السوري، واستثمارها في إعادة بناء البنية التحتية الكهربائية بوصفها ركيزة لاقتصاد منتج ومجتمع مستقر، وذلك ضمن رؤية وطنية جديدة تقوم على الحوكمة، العدالة، والسيادة المجتمعية.

قطاع الكهرباء السوري: خسائر متراكمة ونقاط حرجة:

تُشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 50% من البنية التحتية الكهربائية في سورية تعرّضت لتدمير كلي أو جزئي، فيما تراجع متوسط التزويد اليومي بالطاقة إلى أقل من 4 ساعات في معظم المحافظات، مع غياب شبه كامل في بعض الأرياف.
وتكمن خطورة ذلك في أثره المباشر على مؤشرات الإنتاج المحلي الإجمالي، حيث يُعاني القطاع الصناعي التحويلي، وسلسلة التوريد الزراعي واللوجستي، إضافة إلى المرافق الخدمية الحيوية كالمشافي والمدارس، من ارتفاع الكلفة التشغيلية وضعف الكفاءة، نتيجة الاعتماد المكثف على البدائل المكلفة كالمولدات الخاصة وأنظمة الطاقة الشمسية الفردية غير المنظمة.
وفي جوهرها، لا يمكن فصل أدوات التمويل الدولية عن البيئة السياسية التي تتحرك فيها، لهذا فإن قرار البنك الدولي رغم استمرار وجود عقوبات غربية على فاعلين سياسيين واقتصاديين داخل البلاد يعكس إعادة تموضع تدريجية للمؤسسات التمويلية تجاه سوريا، مع تبني مقاربة "الحياد التمويلي" حيث تُركّز التمويلات على قطاعات خدمية أساسية قابلة للفصل عن بُنى الحكم، من منظور الحوكمة وليس الولاء السياسي.
لكن في السياق السوري الجديد، حيث أصبحت السلطة الوطنية الناشئة تُمارس إدارة رشيدة لمناطق تحررت من قبضة الاستبداد، فإن هذا التمويل يمكن اعتباره بمثابة اعتراف ضمني بشرعية نموذج إداري بديل، تتجلى فيه ملامح السيادة من بوابة الخدمة العامة لا مركزية القرار.

إذا فإن الفرص المتوقعة من هذا الإجراء:

1- تحسين تغذية المناطق الصناعية والزراعية عبر الطاقة المستقرة.
2- تقليص الفجوة التنموية بين الريف والمدن.
3- تعزيز الشفافية والمشاركة المجتمعية في الإنفاق العام.
4- التمهيد لشراكات دولية أوسع بمجرد نجاح تنفيذ هذه المنحة.

الكهرباء كمدخل لإعادة تعريف العقد الاجتماعي:

في الفكر الاقتصادي السياسي، يُمثّل قطاع الكهرباء أكثر من مجرد خدمة تقنية؛ فهو بنية تحتية للثقة السياسية، ويشكّل المؤشر الأوضح على قدرة الدولة على "إنتاج الحياة". وفي التجربة السورية الراهنة، تسعى السلطة الجديدة إلى بلورة تصور عقدي جديد، يُؤسس علاقة ناظمة بين المواطن والسلطة على قاعدة الخدمة العادلة والشفافية، لا على معادلات الأمن والولاء.
ويُمثّل التوظيف الرشيد لمنحة كهذه فرصة لإعادة تشكيل هذا العقد عبر عدالة التوزيع المكاني، وضمان وصول الكهرباء إلى المناطق الريفية والمهمشة التي حُرمت منها طيلة سنوات، مما يساهم في تحفيز النشاط الاقتصادي المحلي، وتقليص الفجوة التنموية بين المركز والهامش.

تحديات التنفيذ: الحوكمة، البنية المؤسساتية، والشفافية:

رغم أهمية التمويل، إلا أنّ فاعلية الأثر الاقتصادي منه تعتمد على عدد من المحددات، أبرزها:
1- كفاءة إدارة المشاريع، ويتطلب ذلك وجود مؤسسات فنية وإدارية في مناطق السلطة الجديدة تتمتع بالقدرة على وضع خطط تنفيذية، وترشيد الإنفاق، ومتابعة مراحل التنفيذ وفقاً لمؤشرات أداء محددة.
2- ضمانات النزاهة والتدقيق، أي تطوير آليات رقابة مدنية، وشفافية العقود، وآليات إشراك المجتمع المحلي في التخطيط والتقييم.
3- تكامل التمويل مع أولويات البنية التنموية، كربط مشاريع الكهرباء مع الحاجات الفعلية للقطاع الإنتاجي، خصوصاً الصناعات الصغيرة والمتوسطة التي تشكّل عصب الاقتصاد المحلي في الشمال السوري.

نحو فلسفة جديدة للتنمية والاعتراف:

منح كهذه لا تكتفي بتحسين مؤشر استهلاك الكهرباء، بل تفتح أفقاً أوسع للحديث عن "اقتصاد ما بعد التحرر" أي اقتصاد تُنتَج فيه الخدمات لا بوصفها مكرمة من الحاكم بل كحق مؤسسي نابع من العقد الوطني.
كما أن القبول الدولي بتوجيه هذه الموارد يكرّس مقاربة مختلفة في المعاملة التنموية، قوامها الاعتراف بالأداء لا الولاء، وبالشرعية المُكتسبة من الأرض لا المعلنة من القصر.

خاتمة:

من خلال ما سبق، نرى أهمية قرار التمويل من قبل البنك الدولي لسورية، وحتى يمكن الاستفادة الإيجابية من هذا القرار، فإننا في المكتب الإقتصادي لـِ تيار المستقبل السوري نوصي بالآتي:

  1. إطار حوكمة مستقل لإدارة التنفيذ، يضم المجتمع المدني والسلطات المحلية.
  2. خريطة احتياج تقنية واجتماعية لتحديد أولويات التوزيع.
  3. نظام متابعة إلكتروني مفتوح للجمهور يعزز الشفافية ويتيح رقابة المواطنين.
  4. نماذج تشغيل مستدامة ما بعد المنحة، تشمل الشراكة مع القطاع الخاص المحلي والمبادرات التعاونية.
    إنّ منحة البنك الدولي ليست مجرد ضخ للتمويل في شبكة متآكلة، بل هي اختبار لعقل الدولة الجديد! فهل سيُعيد بناء خطوط الكهرباء فقط، أم سيعيد تشكيل شبكة الشرعية وعقد الثقة الذي طال انتظاره؟
    في لحظة كهذه، يصبح الضوء القادم من شبكة الكهرباء أكثر من طاقة، إنه برهان على ولادة دولة من رحم الظل.
شاركها على:

اقرأ أيضا

قوات سوريا الديمقراطية ورؤية توافقية للاندماج المؤسسي وضبط التعددية الوطنية

الاندماج المؤسسي خطوة ضرورية لتحقيق العدالة في سورية الجديدة.

14 يوليو 2025

جمعة محمد لهيب

لحقن الدم وترسيخ الدولة وجعل الجنوب بداية الحل

الجنوب السوري يحتاج إلى حل شامل

14 يوليو 2025

إدارة الموقع