أزمة المياه في سورية بين تغير المناخ واختلال الإدارة

مدخل:

لم تعد أزمة المياه في سورية مجرد انحراف موسمي عن المعدلات الطبيعية، ولا حتى نتيجة عارضة لتغير المناخ فحسب، بل تحولت إلى مرآة تعكس تصدع البنية المؤسسية للدولة في زمن نظام الأسد، وتراجع التخطيط طويل الأمد.
ومع تجاوز حصة الفرد السنوية للمياه عتبة الخطر، لتصل إلى أقل من 500 متر مكعب في منتصف عام 2025، تتأرجح البلاد اليوم بين شبح العطش، وانهيار الأمن الغذائي، وتزايد الاحتكاكات الاجتماعية.
وهذه الأزمة متعددة الأبعاد تتطلب مقاربة أكثر من مجرد حلول تقنية.
إنها تتطلب فكراً سياسياً وإدارياً قادراً على تحويل إدارة المياه من بند هامشي في الموازنات، إلى محور في هندسة السيادة والاستقرار، فوفقاً لتقارير اللجنة الدولية للصليب الأحمر (2025)، فإن غياب التنسيق بين المؤسسات المحلية والدولية، وغياب استراتيجية وطنية متكاملة، ساهم في تحويل الأزمة إلى تحدٍ وجودي يهدد النسيج الاجتماعي والاقتصادي للبلاد.

السياق الطبيعي والمناخي:

تقع سورية ضمن واحد من أكثر الأقاليم تعرضاً للإجهاد المائي، وهو ما جعلها في قلب تأثيرات التغير المناخي، حيث تراجع معدل الهطول المطري لأقل من 45% من متوسطه السنوي، وتضاءلت تغذية الأحواض الجوفية بنسبة تقترب من 60% مقارنة بالعقد الماضي، فيما فقد نهر الفرات قرابة ثلث تدفقه الطبيعي، نتيجة عوامل طبيعية وضغوط إقليمية، والأخطر من ذلك أن نهر بردى، الذي يُمثل رئة دمشق المائية، انقطع تماماً لأول مرة منذ بدء التسجيلات المناخية الموثقة.

أما الخزانات الجوفية، فقد جرى استنزافها بمعدلات تتجاوز 150% من حجم تغذيتها السنوية، ما أدى إلى انخفاض منسوبها بأكثر من 40% في مناطق مثل ريف دمشق والحسكة. هذه المؤشرات لم تعد تنتمي فقط إلى كتب الجغرافيا البيئية، بل باتت تملي السلوك اليومي لملايين السوريين.
إذ وفقاً لمسح الإسكوا (2025)، فإن 70% من السكان في المناطق الريفية يعتمدون على مصادر مياه غير آمنة، مما زاد من معدلات الأمراض المنقولة عبر المياه.
وفي دمشق مثلاً، يعيش السكان بين صنبور يندر أن يجود بالماء، وصهريج باهظ التكلفة لا يستطيع أغلب الناس تحمّله.

إن الانقطاعات اليومية للماء تصل إلى 20 ساعة في أحياء كاملة، فيما يتجاوز سعر صهريج المياه (5000 لتر) قدرة 80% من الأسر.
أما في المناطق الريفية، فالمشهد أكثر هشاشة وخطراً، فنحو 700,000 شخص في الحسكة يعتمدون على آبار ملوثة بمياه الصرف الصحي، ما أدى إلى موجات متكررة من الكوليرا والتهاب الكبد الفيروسي.
كما خرجت نحو 30% من الأراضي الزراعية في ريف دمشق عن الخدمة بسبب نضوب الآبار، ليتضاعف العبء الغذائي مع كل موسم.

ووفقاً لمنظمة الفاو (مايو 2025)، فإن انخفاض إنتاج القمح المحلي بلغ 60% مقارنة بالسنوات السابقة، مما دفع النظام إلى استيراد 1.2 مليار دولار سنوياً من القمح، في وقت ترزح فيه الموازنة العامة تحت ضغوط التضخم والديون.

أعطال جوهرية في هندسة الإدارة:

منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011م، تعرضت أكثر من نصف منشآت المياه والصرف الصحي لأضرار مباشرة أو غير مباشرة، ما جعل التشغيل الجزئي أو العشوائي للمنظومة هو القاعدة.
وعلى مستوى الشبكات، فإن التقديرات تشير إلى أن ما بين 46% و60% من مياه الشرب تُفقد نتيجة التسرب في الأنابيب القديمة.
بينما القطاع الزراعي، المسؤول عن استهلاك ما يزيد عن 85% من المياه في البلاد، لا يزال يعتمد أساليب ري بالغمر، رغم توفر تقنيات حديثة ترفع كفاءة الاستهلاك إلى ضعف هذا الرقم.
ومع انخفاض إنتاج الكهرباء بنسبة تصل إلى 70%، أصبحت المضخات في محطات المعالجة غير قادرة على العمل بانتظام، ما أدى إلى سلسلة انقطاعات شبه ممنهجة.
ووفقاً لوزارة الموارد المائية السورية (مايو 2025)، فإن إعادة تأهيل الشبكات القائمة تتطلب استثمارات تفوق 5 مليارات دولار، وهو مبلغ لا تستطيع الحكومة تأمينه في ظل الوضع الاقتصادى الراهن.
هذا وتراجعت مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي من 30% عام 2011 إلى 13% في منتصف 2025.
ومع انهيار الإنتاج المحلي للقمح، بلغت فاتورة الاستيراد نحو 1.2 مليار دولار سنوياً، ما يزيد الضغط على قطاع مالي يرزح أصلاً تحت الحصار والتضخم.

كذلك أدّت الأزمة إلى موجة نزوح داخلي جديدة، تجاوزت 2.5 مليون شخص من المناطق الريفية إلى المدن الكبرى، ما أدى إلى تضخم عمراني في بيئات غير مهيأة، وارتفاع مؤشرات الفقر والهشاشة الصحية. كما تزايدت الشكاوى من ظهور اقتصاد ظل قائم على بيع المياه، أشبه باحتكار لسوق البقاء.
هذا و 40% من الأسر في حلب تعتمد على موزعي مياه غير رسميين، مما رفع الأسعار بنسبة 200% خلال عامين .

نحو إدارة ذكية للمياه: التكنولوجيا كشريك، لا كبديل:

رغم ضبابية المشهد، بدأت تظهر بعض المبادرات التقنية كمؤشرات على رغبة في التغيير، فأنظمة الري الذكية باتت منتشرة تدريجياً في المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وجرى تطوير برامج لتعليم المزارعين استخدام هذه الأنظمة من خلال الواقع الافتراضي، كما تشهد بعض المناطق تجارب في إعادة استخدام المياه الرمادية، وابتكارات لاستغلال التكثيف الناتج عن مكيفات الهواء في المباني العامة.
كذلك مشروع تحلية مياه البحر، الذي أُعلن عنه نهاية يونيو 2025 بقيمة 1.2 مليار دولار، يشكّل تجربة مفصلية في هذا السياق، خاصة في ظل التوقعات بتكرار سنوات الجفاف بشكل دوري، كذلك يجري العمل على إنشاء 284 محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي لتغطية احتياجات الري في أكثر من 100,000 هكتار، وهي خطوة تُعد تحولاً نوعياً في التفكير المائي الرسمي.
هذا وإن المشروع يتضمن بناء محطات تحلية على الساحل السوري بتكنولوجيا حديثة مشتركة، بدعم دولي مما يثير تساؤلات حول استقلالية القرار المائي.

إن النجاح في مواجهة الأزمة لا يتوقف فقط على البنى التحتية، بل على البنية المؤسسية والوعي العام، فاعتماد سياسة تسعير متدرج لاستهلاك المياه، وربط حفر الآبار بنظام ترخيص صارم، وتشجيع أنظمة المباني منخفضة التدفق، كلها إجراءات ضرورية لتثبيت دعائم اقتصاد مائي عقلاني.
لكنّ التغيير الأهم قد يأتي من الشارع، حيث بدأت منظمات المجتمع المدني بحملات ضغط حقيقية، مثل مبادرة "قطرة تساوي حياة" التي جمعت أكثر من 500,000 توقيع في دمشق، مطالبة بإصلاح السياسات المائية وتعديل أولويات الإنفاق.

ووفقاً لصحيفة الجمهورية.نت (يونيو 2025)، فإن هذه الحملات دفعت الحكومة إلى تشكيل لجنة لدراسة تعديل قانون المياه، بما يشمل فرض غرامات على الاستهلاك المفرط .

خاتمة:

الأمن المائي مسألة سيادة لا تحتمل التأجيل:
أزمة المياه في سورية لم تعد أزمة قطاع، بل أزمة مشروع وطني. هي قضية تتطلب إعادة هيكلة في الفكر الإداري، واستثماراً سياسياً واجتماعياً في ثقافة الاستهلاك والإنتاج.
وإذا استمرت الاستجابة للأزمة ضمن الأطر التقليدية، فإن العاصفة المقبلة قد لا تكون جفافاً بيئياً فقط، بل عطشاً اجتماعياً وانكشافاً سيادياً.

وعليه فإننا في المكتب الاقتصادي لـ تيار المستقبل السوري نوصي بما نراه يمكن ان يساهم ببناء سياسة مائية مستدامة في سورية:

أولاً: على المستوى السياساتي والمؤسسي:

  • إدماج إدارة المياه في الاستراتيجية الوطنية للأمن القومي، بما يعكس أن الأمن المائي لا يقل أهمية عن السيادة والحدود، خاصة مع اتجاه حصة الفرد إلى مستويات حرجة بحلول 2030.
  • إصلاح الأطر التشريعية المنظمة لاستخدام المياه، من خلال فرض نظام ترخيص شفاف لحفر الآبار، وتشديد العقوبات على الاستخدام الجائر أو غير المشروع للمياه الجوفية.
  • تفعيل تسعير تصاعدي عادل لاستهلاك المياه، يشجع على الترشيد دون المساس بالشرائح الفقيرة، مع دعم شبكات الحماية الاجتماعية لضمان الوصول العادل للمياه.
  • تأسيس هيئة وطنية مستقلة للمياه تتمتع بسلطة تنسيقية بين الجهات المعنية (الزراعة، الطاقة، الإسكان، البيئة)، وتضع سياسات مبنية على الأدلة والمعايير الدولية.

ثانيًا: على المستوى التقني والتخطيطي:

  • توسيع اعتماد نظم الري الذكية في الزراعة، وتحفيز المزارعين على الانتقال من الري بالغمر إلى تقنيات التنقيط والرش الموفر.
  • إطلاق برنامج وطني لإعادة استخدام المياه الرمادية في المنازل والمرافق العامة، وتشجيع الابتكار في التقنيات اللامركزية لمعالجة المياه.
  • تسريع تنفيذ مشاريع تحلية مياه البحر في المناطق الساحلية، مع مراعاة الجوانب البيئية والتكاليف الطاقية من خلال ربطها بمصادر الطاقة المتجددة.
  • تأهيل وتحديث شبكات المياه لخفض الفاقد إلى أقل من 20% عبر تحسين مواد الأنابيب، وأنظمة الكشف المبكر عن التسرب.

ثالثًا: على المستوى المجتمعي والثقافي:

  • إطلاق حملات توعية وطنية شاملة لتغيير سلوكيات الاستهلاك، تبدأ في المدارس وتصل إلى الإعلام، تحت شعار يعيد للمياه قيمتها الوجودية.
  • دعم المبادرات المحلية والبلدية في مراقبة جودة المياه، وصيانة الآبار المجتمعية، وإشراك الأهالي في التخطيط المحلي للمياه.
  • تعزيز دور المرأة في إدارة الموارد المائية، خاصة في المناطق الريفية، باعتبارها فاعلاً أساسياً في الاستهلاك الزراعي والمنزلي.
  • ربط برامج الدعم الزراعي بكفاءة استخدام المياه كشرط أساسي للحصول على المساعدة، لتحفيز الزراعة المستدامة

رابعًا: على المستوى الدولي والإقليمي:

  • إعادة تفعيل الاتفاقيات الإقليمية بشأن الأنهار المشتركة، وخاصة نهر الفرات، عبر مقاربات دبلوماسية متوازنة تستند إلى تقاسم الضرر والمنفعة.
  • طلب دعم تقني ومالي من المؤسسات الدولية لتطوير مشاريع التكيف مع الجفاف، واستقدام خبرات في الاقتصاد الدائري وإعادة الاستخدام.
  • بناء شراكات مع مراكز الأبحاث والخبرات مثل "إيكاردا" و"الفاو" لتطوير سلالات زراعية أقل استهلاكًا للمياه، ونظم إنذار مبكر للتنبؤ بالمواسم الجافة.

المراجع:

  1. اللجنة الدولية للصليب الأحمر (2025): تقارير ميدانية حول الوضع المائي في دمشق والحسكة.
  2. الإسكوا (2025): مسح الأمن المائي وتكاليف المعيشة في سوريا.
  3. منظمة الفاو، مايو 2025: دليل التقنيات الحديثة في إدارة المياه الزراعية.
  4. وزارة الموارد المائية السورية، مايو 2025: استراتيجية تقليص الفاقد المائي.
  5. الجريدة الرسمية السورية – صحيفة الثورة، يونيو 2025: تصريحات مركز الدراسات المناخية.
  6. الجزيرة نت، يونيو 2025: تقارير حول تراجع محاصيل القمح.
  7. الجمهورية.نت، يونيو 2025: مقالات تحليلية حول إعادة الإعمار والأمن المائي.
  8. مقابلة مع المهندس نادر البني، اندبندنت عربية، 20 يونيو 2025.
  9. وكالة آسيا، 24 يونيو 2025: تقارير عن المشاريع الحكومية الخاصة بتحلية المياه.

شاركها على:

اقرأ أيضا

أخبار يوم الأربعاء 2025/07/09م.

تحديثات شاملة عن أخبار يوم الأربعاء 09-07-2025

9 يوليو 2025

إدارة الموقع

سورية والاتحاد من أجل المتوسط: استعادة العضوية أم إعادة تعريف الدور؟

استعادة عضوية الجمهورية السورية تمثل تحولاً سياسياً

9 يوليو 2025

إدارة الموقع