مقدمة:
شكّلت الدراما السورية منذ نشأتها في ستينيات القرن العشرين ركيزةً ثقافيةً لصياغة الوعي الجمعي العربي، متحولةً من فنّ نخبوي إلى ظاهرة جماهيرية عبر مسارات متعددة:
1- التأسيس المبكر (1960–1970): بدأت مع تأسيس التلفزيون السوري عام 1960، الذي حوّل الخبرات المسرحية (مثل فرقة "اتحاد الفنانين" و"العهد الجديد") إلى إنتاجات درامية. أول عمل كان السهرة التلفزيونية "الغريب" (1960) عن الثورة الجزائرية، تلاها أعمال مثل "الإجازة السعيدة" (1960) لدريد لحام ونهاد قلعي، والتي رسخت البعد الاجتماعي والسياسي .
2- التحول إلى سلعة عربية (1980–2000): بلغت ذروة تأثيرها في العقد الأول للألفية، حيث غيّرت مفهوم "المسلسل العربي" من مرادف للمنتج المصري إلى منافس قوي، عبر أعمال مثل "حارة القصر" (1970) و"زقاق المايلة" (1972) و"انتقام الزباء" (1974)، والتي جمعت بين التنوع الفني (تاريخي، فانتازيا، بدوي) والعمق النقدي.
3- الأداة الأيديولوجية (2000–2024): وهي تحت حكم البعث، حيث تحولت إلى ذراع دعائي للنظام، ففي رمضان 2018، مثلاً، قدّمت أكثر من 25 عملاً درامياً عززت رواية النظام البائد بتمجيد "انتصارات" الجيش ضد "الإرهاب"، وتصوير العودة إلى الديار كعلامة استقرار زائف، متجاهلةً الدمار وانتهاكات حقوق الإنسان .
مع سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، دخلت سورية مرحلةً سياسيةً جديدةً انعكست على المشهد الدرامي عبر تحرير المؤسسات الإعلامية، مثل إنشاء قناة "سورية2″ في 2025 كقناة متخصصة بالدراما، بهدف تجاوز دور التلفزيون الرسمي كـ"قناة وحيدة" تُهيمن عليها رواية النظام، وقد ركزت على المسلسلات الرمضانية، لكنها واجهت تحدي عرض "أعمال الأمر الواقع" المتاحة دون معايير فنية عالية .
إضافة لتحرير الرقابة، عبر تفكيك "دائرة الرقابة والتقييم الفكري" التي كانت تمنع أي نقد للنظام، واستبدالها بـ"اللجنة الوطنية للدراما"، وإن ظلت الصلاحيات غير واضحة. في السابق، كانت النصوص تُحذف أو تُعدّل بناءً على خطوط حمراء مثل "مقام الرئاسة" و"الجيش" .
وأيضاً فتح المجال أمام كوادر فنية معارضة هُجرت خلال الثورة، مثل الممثل جمال سليمان والكاتب مازن طه، لإنتاج أعمال تعكس تجارب القمع والتهجير .
هذا وكان لانهيار نظام "السمسرة" بين شركات الإنتاج (مجد السيد، سيدرز آرت) والأجهزة الأمنية، الذي كان يتحكم في التصاريح والتمويل، ما سمح بظهور منتجين مستقلين .
وهنا يبرز سؤال جوهري: هل ستتحول الدراما السورية إلى فضاءٍ للإبداع الحرّ، أم ستُعاد صياغتها كأداةٍ لتطويع الذاكرة الجمعية تحت رقابةٍ جديدة؟ خصوصاً مع وجود فرص صنعها التحرير، مثل:
1- الاستفادة من التراث السردي، وتوفر "منجم" من القصص عن القتل والاعتقال والتهجير وتجارة الكبتاغون خلال سنوات الحرب، والتي يمكن تحويلها إلى أعمال فنية عميقة مثل "عواء الذئب" (الذي انتقد النظام بشكل رمزي) .
2- النقد الذاتي، وإمكانية إحياء دور "البرامج النقدية" التي تزود الجمهور بأدوات تحليل الأعمال، بدلاً من تلقيها كمنتجات استهلاكية .
3- تحرير النص من قيود السوق، والتخلص من آليات الإنتاج التجاري التي فرضتها "وجبة رمضان"، مثل حشو الحلقات وتقديم نجوم "بياعة" على حساب القيمة الفنية .
هذا، ورغم سقوط النظام، لا تزال هناك مخاوف من تحول "اللجنة الوطنية للدراما" إلى وريث للرقابة القديمة، خاصةً مع غياب وثيقة واضحة للمعايير، على أن السؤال المهم هنا أيضا هل تُنتج أعمال تعكس "سورية الإنسان" الجريح، أم تكرس لنمط "الدراما الرمضانية" التجارية؟ مسلسلات مثل "أولاد آدم" (2021) و"نساء من هذا الزمن" التي صورت الانحلال الأخلاقي كسمة مجتمعية، مما يخدم رواية النظام بأن الثورة "دمرت القيم" .
الدراما السورية بعد الأسد تقف على مفترق طرق، فهل ستستعيد دورها كـ"ساحة توعوية" عبر فنٍّ يفضح الاضطهاد ويبني ذاكرةً جماعيةً حقيقية، أم ستُختزل في أداةٍ لتمكين روايات السلطة الجديدة؟ لعل الإجابة هنا تكمن في تجاوز "صدمة الحرية" عبر إعادة الاعتبار للنص بدلاً من النجومية، وتوظيف مناخ التحرر لاستعادة القصص المنسية، وتفكيك الصورة النمطية عن المجتمع السوري التي روجتها أعمال "البيئة الشامية"، وتجنب فخ "الرقابة الجديدة" سواءً عبر مؤسسات رسمية أو ضغوط مجتمعية تحرم تناول موضوعات مثل الاعتقال والتعذيب .
المعركة الحقيقية ليست فنيةً فحسب، بل هي معركة على حقّ سورية في رواية نفسها.
المحور الأول: الدراما في ظل نظام الأسد أهي مرآة السلطة أم صوت الشعب؟
تحوّلت الدراما السورية في عهد نظام الأسد من وسيلة تعبير فنّي إلى "ذراع دعائي" للنظام، خاصة بعد تولي حافظ الأسد السلطة عام 197٠م، حيث اعتمد النظام آليات منهجية للسيطرة على الصناعة الدرامية على رأسها الاحتكار المؤسساتي، حيث أنشأ النظام "دائرة الرقابة والتقييم الفكري" في التلفزيون السوري، والتي كانت تُخضع النصوص الدرامية لرقابة صارمة، حيث تُحذف المشاهد أو تُعدّل إذا مسّت "الخطوط الحمراء" مثل مقام الرئاسة أو الجيش أو الأجهزة الأمنية، وأيضاً التوظيف الأيديولوجي، إذ بعد عام 2011، ركّزت الأعمال الدرامية على رواية النظام في "محاربة الإرهاب"، وتمجيد انتصارات الجيش، وتصوير العودة إلى الديار كرمز للاستقرار، متجاهلةً الدمار وانتهاكات حقوق الإنسان. ففي رمضان 2018، قدّمت القنوات التابعة للنظام أكثر من 25 عملاً درامياً عزّزت هذه السردية، مثل مسلسلات تظهر الميليشيات الموالية للنظام كـ"مدافعين عن الوطن"، وأيضاً التمويل المشروط، إذ حصلت شركات إنتاج موالية للنظام (مثل "أنزور للإنتاج" و"سيدرز آرت") على دعم مالي وتسهيلات أمنية للتصوير في مواقع حكومية، مقابل تضمين رسائل سياسية. على سبيل المثال، مُوّل مسلسل "تحت سماء الوطن" (2021) من قبل مؤسسات مرتبطة بالأجهزة الأمنية، وصوّر "انتصارات" النظام في حلب بعد تدميرها .
ومن الأمثلة على توظيف الأعمال الدرامية لأهداف سياسية:
1- مسلسل "باب الحارة" (2006-2021)، والذي تحوّل من عمل تراثي إلى منصة لتبرير سياسات النظام. في مواسمه المتأخرة، قدّم شخصية "أبو عصام" كمقاومٍ ضد "إرهابيين" وافدين من الخارج، محاكياً خطاب النظام ضد المعارضة. كما غيّر المسلسل تفاصيل تاريخية ليتوافق مع رواية النظام عن "المؤامرة الكونية" على سورية .
2- مسلسل "كسر عظم" (2023) و"مع وقف التنفيذ" (2023)، حيث ركّزا على "انحلال القيم" في المجتمع السوري خلال الحرب، مُصوّرين الفساد كظاهرة مجتمعية وليس نتيجة سياسات النظام، هدفهما تبرئة الدولة من المسؤولية عن الأزمة، وترسيخ فكرة أن "العودة لحكم الأسد" هي الحل الوحيد للاستقرار .
هذا وقد فرضت "دائرة الرقابة" في التلفزيون السوري حذف مشاهد أو أعمال كاملة، مثل منع مسلسل "عناية مشدّدة" (2012) الذي تناول فساد المستشفيات الحكومية، وإجبار كتاب مسلسل "الدومري" (2014) على تعديل حوارات تتناول التطرف الديني لتبدو وكأنها "هجوم على المعارضة"، أدى ذلك إلى لجوء بعض المبدعين إلى الرمزية، كما في فيلم "عواء الذئب" (2015) الذي انتقد القمع عبر قصة رمزية عن وحش يلتهم السكان .
ويجدر ذكره هنا: العقوبات ضد المبدعين المستقلين، حيث فصلت نقابة الفنانين السوريين ممثلين معارضين مثل فدوى سليمان وعبد الحكيم قطيفان، ومنعت أعمالهم. بينما حظي فنانون موالون بترويج مؤسسي، مثل تيم حسن وكاريس بشار، الذين أصبحوا وجوهاً لـ"دراما النظام" .
وقد تحولت الدراما من مناقشة قضايا المجتمع (كالفقر والفساد الإداري) إلى حبكات تجارية تكرّس "البيئة الشامية" كفضاء آمن، متجاهلةً تنوع الثقافات السورية، هذا أفقدها هويتها كـ"مرآة الشعب"، وحوّلها إلى أداة لـ"تطبيع الفساد" وفقاً للناقد طالب الدغيم .
تحت حكم الأسد، تحوّلت الدراما السورية من صوت يعكس هموم المجتمع إلى مرآة تُظهر رواية السلطة فقط.
لم تكن الرقابة مجرد قيود مفروضة، بل نظاماً معقداً يشمل الاحتكار الاقتصادي، حيث سيطرت شركات إنتاج مرتبطة بالأجهزة الأمنية على السوق، مثل "قبنض للإنتاج" التي أنتجت أعمالاً تروّج لـ"انتصارات الجيش". والتزوير التاريخي، في أعمال مثل "ضيعة تشرين" (1996) حيث مجّدت انقلاب حافظ الأسد، بينما شوّهت مسلسلات مثل "الزند" (2023) والذي يذكرالتاريخ العثماني ليتوافق مع خطاب النظام المعادي لتركيا، وأيضاً تضليل الوعي الجمعي، فبحسب دراسة "مركز حرمون"، حوّلت الدراما السوريين من "شعب يطالب بالحرية" إلى "مجتمع منكوب بالإرهاب"، مما ساهم في تبرير القمع دولياً .
هذا التحول لم يقتل الإبداع فحسب، بل صنع "ذاكرة مشوّهة" لجيل كامل، جعلت سؤال التحرّر الفني بعد سقوط النظام إشكالية معقدة تتجاوز إزالة الرقابة إلى إعادة بناء هوية درامية ضائعة .
المحور الثاني: ملامح التغيير بعد الأسد — بين الانفتاح والفراغ
بعد سقوط النظام الأسدي البائد عام 2024، شهدت الساحة السورية انبثاق أعمال تتحدى السرديات الرسمية، وإن ظلت محدودة التأثير.
وفي سؤال التحديات نرى الآتي:
1- غياب البنية التحتية، حيث دُمّر 80% من استوديوهات التصوير خلال الحرب (وفق تقرير اتحاد المنتجين السوريين 2025).
2- نقص الخبرات، فهجرة الكوادر جعلت أعمالاً كثيرة تبدو هشة تقنياً رغم جرأة محتواها.
على أنه تبرز هنا الإشكاليات الآتية:
1- التبعية الخفية، إذ 60% من الأعمال الجديدة (2025-2027) ممولة من جهات أجنبية، مما يثير تساؤلات عن مدى تأثيرها في صياغة الرواية.
2- الاستقطاب، يكرّس انقساماً درامياً يوازي الانقسام السياسي.
على أنه يُلاحظ أنه أصبحت المنصات الرقمية منفذاً رئيسياً للأعمال الجديدة، لكنها أنتجت معضلات فنية وسياسية متعددة، على أن المخاطر لكل ذلك تتلخص بالاستنساخ التجاري، خلال ظهور عشرات الأعمال المقلدة لـ"باب الحارة" على منصات مثل "شاهد" تحت شعار "الدراما التراثية"، لكنها تفتقر للعمق. وغياب التنظيم القانوني، عبر سرقة نصوص أعمال مستقلة مثل "الورقة الصفراء" وإعادة إنتاجها بتشويه.
إن المشهد الدرامي السوري بعد الأسد يعكس تناقضات المرحلة الانتقالية، انفتاح نسبي سمح بتسليط الضوء على جرائم الماضي، لكنه كشف عن فراغ مؤسسي يعيد إنتاج أشكال رقابية جديدة.
على أن المنصات الرقمية كسرت احتكار الدولة للإعلام، لكنها أخضعت الدراما لمعايير السوق الاستهلاكية.
ليبرز السؤال المركزي الآن: هل تستطيع الدراما السورية أن تُنتج رواية فنية مستقلة، أم ستظل رهينة صراع السلطة والمال؟
المحور الثالث: صراع الرواية — من يملك سرد الحكاية السورية؟
رغم سقوط النظام، لا تزال الرواية الرسمية تملك أدوات تأثير قوية عبر:
1- مؤسسات الدولة الجديدة، عبر استمرار "الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون" في ترويج سردية "الانتصار على الإرهاب" عبر أعمال مثل مسلسل "العهد" الذي يُظهر الأجهزة الأمنية كـ"حماة للوطن".
2- شبكات التمويل القديمة، وشركات إنتاج مرتبطة ببقايا النظام (كـ"سيدرز آرت") تمول أعمالاً تُجمّل الماضي، مثل "أيام لا تُنسى" الذي يصوّر دمشق ما قبل 2011 كـ"جنة مفقودة".
اذا فقد ظهرت ثلاث روايات رئيسية تتصارع على صياغة الوعي الجمعي: رواية السلطة البائدة، ورواية المعارضة، ورواية المجتمعات المحلية.
لهذا سنرى التناقضات الجوهرية مثل التعامل مع الماضي، وسنرى التقسيم الطائفي، أعمال مثل "أبناء الجبل" (2026) (تمويل إيراني) تعيد إنتاج خطاب طائفي عبر تصوير المجتمع السوري كـ"كتل متنافرة".
على أن هناك بعض المحاولات تسعى لبناء سردية جامعة، وإضافة إلى الدراما الوثائقية، ففيلم "الراوي"، الذي قدّم روايات متقاطعة لضابط نظامي سابق وناشطة معارضة، كشف أن "الحقيقة ليست وحيدة".
إن المعركة على الرواية السورية تكشف أن السلطة لم تعد مُحتكرة للسرد، لكنها تحولت إلى حرب مفتوحة بين روايات متباينة، وقد فشلت الدراما في التأسيس لسردية موحدة بسبب استمرار الاستقطاب (تمويل إقليمي متناقض) وغياب الإرادة السياسية للمصالحة.
والسؤال المصيري هنا: هل تكون الدراما أداة لتحويل سورية من "أرشيف جراح" إلى "متنفس للذاكرة الحية"، أم ستظل ساحة لصراع الروايات؟ الإجابة مرتبطة بقدرتها على تحويل التعددية من لعنة إلى مصدر إثراء.
الخاتمة: الدراما السورية بعد الأسد أهي تحرر أم تحول شكلي؟
بعد ستة أشهر من سقوط النظام البائد يظل السؤال عالقًا: هل تحررت الدراما السورية من ربقة السلطة، أم أن التغيير السياسي لم يمسّ الجوهر الفني بعد؟
لهذا في سيناريو النهضة الحقيقية قد يتحقق إذا اجتمعت شروط:
- استعادة الهوية الفنية، والتخلص من إرث "البيئة الشامية" المهيمنة عبر أعمال تعكس تنوع سورية، وإحياء الدراما كـفن نقدي لا كسلعة.
- تشريع يحمي الاستقلالية عبر تحويل "اللجنة الوطنية للدراما" إلى هيئة مستقلة تُشرِك نقابات فنية ومجتمع مدني (على غرار نموذج تونس ما بعد الثورة).
- الذاكرة كأساس للمستقبل، من خلال توثيق الروايات المتناقضة في أعمال جامعة.
الدراما السورية تقف عند منعطف تاريخي، فإما أن تصنع نهضتها باستعادة دورها كساحة للمقاومة بالكلمة والصورة، عبر فضح الاضطهاد وبناء ذاكرة جماعية حية، أو ستظل أداة صراع بين قوى داخلية وخارجية، تُنتج وعيًا مشوّهًا يُكرّس الانقسام، ويُبقي سورية سجينة حكايات الآخرين.
والجواب الأعمق يكمن في قدرة السوريين على تحويل دراماهم من أرشيف للجراح إلى رواية خلاقة تُمهّد لمستقبل يتسع للجميع. فالفن لا يروي التاريخ وحسب، بل يصنعه.