منذ أواخر القرن الماضي، وسورية تتأرجح بين حلم الدولة الوطنية ومخاطر التفكك الإقليمي والدولي، ومنذ 2011، تحوّلت البلاد إلى ساحة صراع مفتوح، تداخل فيه المحلي بالدولي، والوطني بالهوياتي، حتى ضاعت الجغرافيا تحت رايات لا تمثل السوري، ولا تشبه ذاكرته التاريخية.
لكن وسط هذا العصف، تخرج إشارات وإن متقطعة تُبشّر بإمكانية العودة إلى مشروع الدولة، مشروع لا يقوم على إعادة تدوير الماضي، بل على فهم ما حدث، واستخلاص الدروس، والجرأة على فتح أبواب المستقبل دون خوف أو محاصصة.
التحولات الاقتصادية نوافذ غير مرئية نحو التغيير:
أسبوعٌ واحد حمل في طياته مؤشرات تستحق التوقف: إعلان مشروع "برق نت" للإنترنت فائق السرعة، وتحرُّك منصات مالية مثل "بينانس" نحو إتاحة التداول للسوريين، وإعادة فتح معبر "القائم" مع العراق، كلّها إشارات تتجاوز ظاهرها التقني أو التجاري، لتعكس محاولة هادئة لإعادة بناء البنية الرمزية للدولة، فالدولة ليست فقط جيشاً وحدوداً، بل اقتصاداً يوحّد، ومعابر تصل الداخل بالخارج، وتقنية توفّر المعرفة وتحرّر المواطن من عزلة إعلامية ومعلوماتية.
الشمال الشرقي بين غبار الجغرافيا وضجيج الهويات:
منطقة الشمال الشرقي لا تزال الجرح المفتوح في جسد السيادة السورية.
والحديث هنا ليس عن معارك فقط، بل عن صراع هويات متراكبة، وذاكرة محلية تبحث عن اعتراف، وخوف متبادل بين المركز والهامش.
لكن الحل لا يكون بالحسم وحده، بل بالحوار الذي يعترف بالمتنوع دون أن يمزّق، ويضمن التمثيل دون أن يؤسس لانفصال، فالقيادة الوطنية القادرة على مخاطبة أبناء الجزيرة والفرات بلغة الانتماء المشترك هي وحدها القادرة على إنهاء المرحلة الرمادية.
مؤتمر السويداء حين يتكلم العمق الصامت:
عُقد في فندق العامر بمدينة السويداء "مؤتمر السويداء العام"، بحضور شخصيات دينية ومدنية واجتماعية، وقد لا يكون هذا الحدث في واجهة الصحف العالمية، لكنه من النوع الذي يُعيد تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة.
فالسويداء، بما تمثله من ثقل تاريخي وهوية موحدة متماسكة، تُقدّم نموذجاً للتفاوض الأهلي، وتنظيم المطالب من داخل الإطار الوطني، ما خرج عن هذا المؤتمر من دعم للمؤسسات، ورفض للعنف، والسعي لتمثيل محلي شرعي رغم ما حفّه من انسحابات متوقعة يؤسس لمعادلة ينبغي تعميمها (مجتمع قوي داخل دولة عادلة).
حرب إيران وإسرائيل وسورية في الوسط بلا درع:
فبين القصف الجوي في الجولان، والمسيّرات في درعا، والغارات على مواقع قرب دمشق، يتضح أن سورية لا تزال ساحة تصفية حسابات، فالصراع الإيراني الإسرائيلي اتخذ طابعاً أكثر علنية في الأشهر الأخيرة، ومعه ترتفع كلفة الصمت السوري.
لكن الموقف السوري، الوطني المستقل، يجب أن يعلو فوق الاصطفاف، فكما رفضنا أن نكون "محوراً" تابعاً، يجب أن نرفض أن نُستخدم "ساحةً" بديلة، إذ السيادة هنا ليست شعارًا، بل أول شرط للنهوض، وإعادة ضبط علاقة الدولة مع الحلفاء والفاعلين الإقليميين، وذلك لا يكون عبر القطيعة، بل عبر مشروع ذاتي يفرض احترام الجغرافيا والقرار.
من اللحظة الانتقالية إلى خارطة الخلاص:
لا يمكن لسورية أن تبقى في حالة "انتظار مؤسساتي"، فالمرحلة الانتقالية التي بدأها الدم، يجب أن تُختَتم بالعقل، لا عبر مسارات شكلية، بل برؤية عميقة تتضمن:
- دستوراً نابعاً من توافق حقيقي لا محاصصة خارجية.
- حواراً وطنياً جامعاً بلا تخوين ولا استثناء.
- لامركزية إدارية لا تُضعف الدولة بل تعزز حضورها
- توحيد القرار السيادي والعسكري تدريجيًا داخل مؤسسة الجيش.
وأهم من ذلك كله، استعادة الثقة بين المواطن والدولة، وهذه لا تُبنى بالخطب، بل بقرارات تلامس الخبز والعدالة والكرامة.
خاتمة: الجمهورية الممكنة:
سورية التي نؤمن بها لا تشبه الكيانات المؤقتة، ولا "المناطق الآمنة" ذات الوصايات المتعددة، سورية المُمكنة هي تلك التي يعود فيها الساحل إلى قلب الدولة، وتندمج الحسكة في اقتصاد وطني واحد، ويعلو صوت السويداء بالتنمية لا بالرصاص.
إننا في تيار المستقبل السوري قد لا نمتلك واقعاً يسمح لنا بترسيخ رؤيتنا الوطنية في كامل سورية، لكننا نمتلك ما هو أثمن، وهي النية الوطنية والرؤية الواضحة.
ومن هُنا، نرى أن مستقبل سورية يُصنع ببطء، لا بالعجلة، وبشراكة واسعة لا بعقلية المغالبة.
فربما تكون الطريق طويلة، لكن التاريخ لم يسجل يومًا أن السوري انكسر حين قرّر أن يبني.