المقدمة:
شهد المشهد السياسي السوري تحولات جذرية في السنوات الأخيرة مع سقوط النظام البائد وتمهيد الطريق لمرحلة تحوّلية جديدة، تميزت برفع العقوبات الدولية وتخفيف الضغوط الاقتصادية الخارجية، وأحد أبرز المعالم الاقتصادية في هذه المرحلة هو التحول البنكي الذي تجلى في انضمام البنك المركزي السوري إلى نظام SWIFT وتحويل أول حوالة بنكية عبر هذا النظام، مما أسهم في إعادة رصد السيولة وتعزيز الثقة لدى المستثمرين المحليين والدوليين.
يرتكز هذا المقال على تحليل الأزمة المالية التي يتمثّل جوهرها في شح السيولة وما يرتبط به من انعكاسات هيكلية على النظام الاقتصادي السوري، ويستعين القراءة الفلسفية في إطارها بتحليل نقدي يقترن بفهم الرمزية الاجتماعية والسياسية لهذا التحول، حيث تُعدّ الأزمة فرصة لإعادة صياغة معايير العدالة الاقتصادية وتوزيع الثروة بعد مرحلة تمييز سياسي صارم.
كما أن المقال يسعى للإجابة على تساؤلين رئيسيين:
1- كيف أثّرت التحولات السياسية والاقتصادية الناتجة عن سقوط الأسد ورفع العقوبات في إعادة تشكيل العلاقات المالية في سورية؟
2- وما الدور الذي تلعبه المفاهيم الفلسفية في تبيان مسارات الإصلاح الهيكلي لتعزيز السيولة وتحقيق النمو المستدام؟
الإطار النظري:
يرتكز الإطار النظري للمقال على مفاهيم النقد النقدي والهيكلي في مواجهة الأزمات الاقتصادية التي يشهدها العالم، مع تسليط الضوء على تجربة سورية خلال المرحلة الانتقالية بعد سقوط النظام السابق. فقد ارتكزت النظريات الاقتصادية التقليدية، مثل نظرية كينز في التدخل الحكومي وإعادة توزيع السيولة، إلى جانب النظريات البنيوية التي تؤكد على ضرورة إصلاح الآليات السياسية والإدارية لضمان استدامة النمو الاقتصادي.
من ناحية أخرى، تقدم النظريات الفلسفية رؤية نقدية تتناول الأزمة الاقتصادية ليس فقط كمشكلة مالية بحتة، بل كظاهرة اجتماعية وسياسية تنطوي على مفاهيم العدالة والحرية والتوزيع العادل للسلطة.
وقد تناول فلاسفة الاقتصاد مثل كارل ماركس وجون ر. كينز بالإضافة إلى مفكرين معاصرين، فكرة أن الأزمات تتحول، بالرغم من قسوتها، إلى فرص لتجديد العلاقة بين الدولة والمجتمع، حيث تُعيد النظر في المبادئ التي تقوم عليها النظم الاقتصادية التقليدية، ويرى هؤلاء أن تبني إصلاحات هيكلية جذرية يعدّ خطوة ضرورية لإعادة بناء الثقة المجتمعية والمالية.
وهنا، تُعزى أهمية رفع العقوبات إلى فتح المجال أمام السياسات الإصلاحية التي كانت عاجزة عن التنفيذ في ظل قيود خارجية مشددة، حيث أدت هذه القيود إلى تفاقم أزمة السيولة والهياكل الاقتصادية الشاحبة، ومع دخول البنك المركزي السوري في منظومة SWIFT وتحويل أول حوالة بنكية، بدأت تظهر مؤشرات على إمكانية تخطي الأزمة القديمة ودخول مرحلة من النمو الانتقالي، على الرغم من أن هذه الخطوة بحد ذاتها تتطلب إعادة تقييم الأهداف المؤسسية والسياسية.
إن الجمع بين هذه النظريات يساعد في فهم العلاقة الديناميكية بين الأزمة الاقتصادية والتحولات السياسية، مما يتيح قراءة شمولية تستند إلى أدوات نقدية فلسفية لتحليل العلاقات الداخلية في النظام المالي السوري، وتبيان كيف يمكن للعوامل الهيكلية والمعايير الأخلاقية أن تفتح آفاقًا جديدة للإصلاح الاقتصادي.
التحليل العملي للوضع الاقتصادي السوري بعد التحولات السياسية:
أولاً: السياق السياسي والاقتصادي بعد سقوط الأسد:
حقق المشهد السياسي السوري تغييراً جذرياً بعد سقوط النظام الذي كان يقيده شكل من أشكال الاستبداد، مما أدى إلى تحولات هيكلية في كل من النظام السياسي والمؤسسات الاقتصادية.
فقد فتحت هذه المرحلة الباب أمام إصلاحات سياسية واسعة النطاق وشملت رفع العقوبات الدولية التي كانت تعيق الوصول إلى أسواق المال العالمية، وساهم هذا التغيير في خلق مناخ من الأمل بإطلاق آليات إصلاحية جديدة قادرة على إعادة تنشيط النظام المالي وتخفيف آثار السيولة الشحيحة التي انتشرت في ظل القيود السابقة.
بالإضافة إلى ذلك، أدت إزالة العقوبات إلى تحرر العلاقات المالية مع المؤسسات البنكية الدولية، ما ساهم في إعادة تأهيل النظام المالي المحلي واستقطاب استثمارات جديدة كانت قد توقفت لسنوات طويلة.
وقد كان لهذه التغيرات تأثير كبير على معنويات السوق والمواطنين حيث بدأت تظهر بوادر الاستقرار بعد فترة طويلة من الركود والتقلبات غير المتوقعة.
ثانياً: رفع العقوبات وتأثيره على السيولة المالية:
يُعتبر رفع العقوبات نقطة تحول مهمّة حسّنت من قابلية الاقتصاد السوري للوصول إلى الموارد المالية الدولية، مما أدّى إلى زيادة السيولة المتاحة في النظام المصرفي، فقد خلصت الدراسات إلى أن إلغاء القيود الخارجية ساهم في إعادة تدفق الأموال عبر الحدود، ما أتاح للبنوك المحلية الحصول على احتياطيات نقدية جديدة واستحداث وسائل لتخفيف العبء المالي على القطاعات الحيوية في الدولة.
وقد ساهم ارتفاع مستويات السيولة مع الوقت في إعادة تنظيم أسعار السلع الأساسية ومحاولة استقرار أسعار صرف العملة المحلية، رغم أن التحديات البنيوية ما زالت قائمة وتتطلب إصلاحات هيكلية أعمق. ومن هنا برزت أهمية الربط بين السياسات الإصلاحية والاجتماعية لتحقيق توازن بين الأسواق وتأمين احتياجات المواطنين الذين عانوا طويلاً من آثار التشدد الاقتصادي.
ثالثاً: انضمام البنك المركزي السوري إلى SWIFT وتحويل أول حوالة بنكية:
صدر قرار تاريخي بانضمام البنك المركزي السوري إلى نظام SWIFT، الذي يُعدّ النافذة الرئيسية للتواصل المالي الدولي. وقد جاء تحويل أول حوالة بنكية عبر هذا النظام كخطوة إيجابية تشير إلى بداية فصل جديد في النظام المالي السوري، فهذا الإنجاز لم يقتصر فقط على كونه دلالة على اعتراف المجتمع الدولي بالإصلاحات، بل فتّح آفاقاً جديدة للتعامل مع المعاملات المالية الدولية بشفافية وكفاءة أفضل.
من الناحية العملية، ساهم دخول البنك المركزي السوري في منظومة SWIFT في تحسين تبادل المعلومات المالية وتعزيز قدرة الدولة على تتبع المعاملات البنكية الدولية، مما يساعد في منع غسل الأموال وتأمين الاستثمارات.
كما أثبت هذا الإنجاز أنه يمكن للنظام المالي السوري أن يتطور بالتوازي مع التجارب العالمية في مجال الرقمنة والتحول البنكي، مما يشكل نقطة انطلاق لتحسين الخدمات المالية ورفع مستوى الثقة لدى الجهات المستثمرة داخلياً وخارجياً.
وفي ظل هذه التحولات، يظل التحدي الأكبر هو تحويل هذه البضائع الإيجابية – رفع العقوبات وانخراط البنك المركزي في SWIFT – إلى حلول إصلاحية شاملة تعالج الأوجه الهيكلية المتأصلة في الاقتصاد السوري، بما يضمن تحقيق نمو مستدام وشامل يعود بالنفع على جميع فئات المجتمع.
القراءة الفلسفية للتحول الاقتصادي في سورية:
يتجاوز التحليل الفلسفي للأزمة الاقتصادية السورية مجرد التقييم التقني للتدفقات النقدية ليصل إلى جذور القضية، إذ يعتبرها انعكاسًا للصراعات الداخلية والتحولات العميقة في هوية الدولة وعلاقاتها الاجتماعية.
فبعد سقوط النظام السابق ورفع العقوبات الدولية، برزت فرصة لإعادة تأطير المبادئ الاقتصادية على أسس جديدة تتعامل مع مفاهيم الحرية والعدالة الاجتماعية بشكل أكثر شفافية.
يرى المفكرون الفلسفيون أن الأزمات الاقتصادية، مهما كانت حادة، تمثّل فرصة لإعادة النظر في نظم السلطة وتوزيع الموارد، وتُظهر التجربة السورية أن الإصلاح الهيكلي ليس مجرد تغيير في السياسات المالية بل تحول شامل يعيد رسم العلاقات بين الدولة والمواطن. وفي هذا السياق، يمكن قراءة دخول البنك المركزي إلى نظام SWIFT كرمز للانتقال إلى نظام مالي أكثر انفتاحاً واستجابة لمتطلبات العصر الرقمي، ما يتيح فرصة لإعادة بناء الثقة على أسس علمية ونقدية تتراجع فيها مظاهر الاحتكار المالي.
كما تؤكد التحليلات الفلسفية على أن هذه المرحلة الانتقالية يجب أن تُدرس ليس فقط باعتبارها جبهة اقتصادية بل كنقطة تحول ثقافي وسياسي تعد منصة لإعادة توزيع الثروة والقوة بطريقة تحقق المساواة الاجتماعية، إذ يُمكن اعتبار رفع العقوبات وإدماج البنك المركزي في الأنظمة المالية الدولية بمثابة خطوات أولية لخروج الاقتصاد السوري من نموذج مركزي صارم، نحو نموذج يعتمد على الشفافية والمساءلة والمشاركة الشعبية الفاعلة في صنع القرار.
ووفقاً لهذه الرؤية، يُمكن القول إن الأزمة الحالية تُحفّز على إعادة تقييم العديد من الأفكار المرهونة بمفاهيم السيطرة المركزية، لتصبح دعوة مفتوحة لتطبيق إصلاحات بنيوية جذرية تتبنّى نهجاً أكثر شمولاً يدمج بين التحليل النقدي الاقتصادي والرؤية الفلسفية التي تنادي بالعدالة والحرية الاقتصادية.
المناقشة والتفسير:
من كل ماسبق يتضح أن المرحلة الانتقالية التي بدأها سقوط النظام القديم ورفع العقوبات تُشكّل نقطة انطلاق لإصلاحات هيكلية يمكن أن تمهد الطريق لاستقرار اقتصادي جديد. فقد نجحت هذه الخطوات في إعادة تدفق السيولة وتوفير بيئة أكثر جذبًا للاستثمارات الدولية، ما ساهم في تحسين مؤشرات الأداء المالي مؤقتاً، رغم بقاء العديد من التحديات البنيوية التي تتطلب إصلاحًا معمقاً.
يُبرز الربط بين التحليل الاقتصادي والفلسفي ضرورة اعتماد رؤية إصلاحية متكاملة تعالج معضلة السيولة من خلال إعادة توزيع الموارد والسلطة على نحو يضمن تحقيق العدالة الاجتماعية وتقليل الفوارق الطبقية. وبينما توفرت مؤشرات إيجابية مثل دخول البنك المركزي السوري في نظام SWIFT وتحويل أول حوالة بنكية، إلا أن النجاح الحقيقي يكمن في الاستفادة من هذه الإنجازات لفرض تغييرات هيكلية تضمن استدامة السيولة وتحقيق نمو اقتصادي متوازن.
تشير بعض الدراسات المقارنة إلى أن النماذج الإصلاحية التي نجحت في دول أخرى ما إن كانت مصحوبة بتغييرات في الأطر القانونية والمؤسسية، فقد أثبتت جدواها في تعزيز الشفافية واستقطاب الاستثمارات. ومن هذا المنطلق، ينبغي على صانعي السياسات في سورية أن يأخذوا بعين الاعتبار التجارب الدولية المماثلة وأن يسعوا لخلق بيئة تسمح بانتقال النظام المالي من حالة الركود إلى مرحلة ديناميكية قائمة على المشاركة المجتمعية والحوكمة الرشيدة.
وفي ضوء تلك المعطيات، تبرز الحاجة إلى إعادة هيكلة النظام الاقتصادي السوري بحيث لا يُنظر إلى أزمة السيولة كفشل تقني بحت، بل كخلل نظامي يحتاج إلى إصلاحات شاملة تشمل تحديث الآليات المالية وإعادة توزيع السلطة الاقتصادية، الأمر الذي يرتبط ارتباطاً وثيقا بالتغييرات السياسية والاجتماعية التي تلت سقوط الأسد.
إن الترابط بين السياسة والاقتصاد في هذه المرحلة يُعدّ مفتاحاً لفهم ديناميكيات التحول الاقتصادي، حيث تصبح القرارات المتخذة على الصعيد السياسي عاملاً مؤثراً في تدفق السيولة وتحقيق الإصلاح الهيكلي الذي يضمن استقرار النظام.
كما يجب أن يتكاتف القطاع العام والخاص في رسم خارطة طريق إصلاحية تضمن تحويل التجارب الأولية إلى خطوات استراتيجية تُمكّن الاقتصاد السوري من المنافسة على المستوى الدولي وتوفير بيئة مواتية للنمو المستدام.
خاتمة:
إن التحولات السياسية الراهنة في سورية بعد سقوط النظام القديم ورفع العقوبات قد فتحت آفاقاً واسعة لإعادة بناء الاقتصاد على أسس جديدة تقوم على العدالة والشفافية، ولهذا فإن تحقيق الانغلاق في فجوة السيولة، التي طالما أرهقت النظام المالي السوري، أصبح ممكناً من خلال خطوات إصلاحية استراتيجية مثل إدماج البنك المركزي في نظام SWIFT مما يدل على بداية فصل جديد في تاريخ الاقتصاد السوري.
ومع ذلك، فإن هذه الإنجازات لا تمثل نهاية الطريق، بل تشكل مرحلة انتقالية تواجه تحديات بنيوية عميقة تتطلب تحديثاً شاملاً للنظام المالي والسياسي، فمن الضروري أن تُستغل هذه التجارب لتحويل الأزمة إلى فرصة حقيقية للتجديد الاقتصادي والاجتماعي، عبر اعتماد إصلاح هيكلي يجمع بين الكفاءة الاقتصادية والمبادئ الفلسفية للعدالة والحرية، ويظل على صانعي السياسات والباحثين العمل سوياً لرسم سيناريو مستقبلي يعتمد على المشاركة المجتمعية والشفافية في صنع القرار، بما يضمن تحول الاقتصاد السوري من حالة الركود إلى مرحلة نشاط تنموي مستدام.
ختاماً، يظهر أن الأزمة التي شهدها الاقتصاد السوري ليست مجرد تحدٍ مالي فحسب، بل هي دعوة لإعادة التفكير في أسس النظام الاقتصادي والسياسي، معتمدين على رؤية فلسفية نقدية تُعيد توزيع السلطة والثروة بما يضمن استقراراً وأملاً جديداً للمواطنين.
وإن تجاوز تلك التحديات يستدعي مزيداً من البحث المتعمق والدراسات المستقبلية التي تواكب التغيرات السريعة في عالم المال والأعمال، مما يمهد الطريق نحو تحقيق اقتصاد أكثر شمولية وعدالة.