أبعاد العلاقة السورية الروسية

مقدمة:

من التحالف إلى إعادة التفاوض – العلاقات السورية الروسية في مرحلة ما بعد الأسد
منذ التدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015، شكّلت موسكو الحليف الأبرز لنظام بشار الأسد، حيث وفّرت له غطاءً عسكرياً ودبلوماسياً مكّنه من الصمود في وجه المعارضة. إلا أن سقوط النظام في كانون الأول/ديسمبر 2024، وفرار الأسد إلى موسكو عبر قاعدة حميميم، شكّل نقطة تحوّل مفصلية في مسار العلاقة بين دمشق وموسكو.
وفي شباط/فبراير 2025، زار وفد روسي رفيع دمشق برئاسة نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، والتقى بالرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، في أول محاولة لإعادة رسم ملامح العلاقة الاستراتيجية بين البلدين، حيث تركزت المباحثات حينها على مستقبل القواعد العسكرية الروسية، والديون المترتبة على سوريا، واستعادة الأموال السورية المجمدة في روسيا.
لاحقاً، وفي آذار/مارس 2025، بدأت مفاوضات رسمية لإعادة ترتيب العلاقة، وسط تباين في الرؤى حول عقود الإيجار طويلة الأمد التي أبرمها النظام السابق، خاصة تلك المتعلقة بقاعدتي طرطوس وحميميم، ورغم أن القيادة السورية الجديدة لم تُبدِ رغبة في إنهاء الوجود الروسي بالكامل، إلا أنها شددت على ضرورة إعادة التفاوض وفق أسس سيادية جديدة.
وفي تطور لافت، أعلنت موسكو في حزيران/يونيو 2025 عن توجيه دعوة رسمية لوزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، لزيارة روسيا، في خطوة تعكس رغبة الكرملين في ترميم العلاقة مع دمشق الجديدة، وتثبيت نفوذها في مرحلة ما بعد الأسد.

في هذا المقال سنُحلل أبعاد العلاقة السورية الروسية من منظور السيادة والمصلحة الوطنية، ويستشرف مستقبلها في ضوء التحولات الجيوسياسية الراهنة.

العلاقات السورية – الروسية بعد سقوط الأسد تحليل لمعادلة السيادة والضرورة الاستراتيجية:

منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، شكّلت العلاقة بين سوريا وروسيا نموذجاً لعلاقة استراتيجية ارتكزت على تداخل المصالح السياسية والعسكرية والاقتصادية، إلا أن هذا التحالف، الذي تأكد بشكل حاسم بعد عام 2015 مع التدخل العسكري الروسي المباشر، بات محور جدل واسع بعد التغيير السياسي في دمشق وسقوط نظام بشار الأسد. فما حقيقة هذه العلاقة؟
وأي أفق لترميمها دون التفريط بالسيادة؟

أولاً: جذور العلاقة وتطورها:

تعود العلاقات السورية – الروسية (السوفييتية سابقاً) إلى خمسينيات القرن الماضي، حيث كانت موسكو داعماً سياسياً وعسكرياً أساسياً للدولة السورية، خاصة خلال مراحل الصراع مع إسرائيل. ومع انهيار الاتحاد السوفييتي، تراجع الحضور الروسي، ليعود تدريجياً مع وصول بوتين إلى الحكم.
ذروتها كانت بتدخل روسيا العسكري المباشر في أيلول 2015، إذ باتت شريكاً حاسماً في الحفاظ على بقاء النظام، مقابل امتيازات استراتيجية تمثلت في قواعد دائمة، وعقود اقتصادية، وتأثير على القرار السيادي.

ثانياً: الأهمية الحيوسياسية والاستراتيجية للعلاقة:
بالنسبة لروسيا:

١- منفذ دائم للمتوسط عبر قاعدتي حميميم وطرطوس.
٢- موطئ قدم في قلب العالم العربي، يُمكّنها من مواجهة النفوذ الأميركي.
٣- سوق سلاح دائم وتجربة ميدانية للأسلحة الروسية.
٤- أداة ضغط جيوسياسي على قضايا مثل أوكرانيا وملف الغاز.

وأما بالنسبة لسورية:

١- دعم عسكري حاسم في مواجهة التهديدات.
٢- غطاء دبلوماسي دولي في المحافل الكبرى كالأمم المتحدة.
٣- شريك اقتصادي وتقني في مشاريع البنية التحتية والطاقة.

ثالثاً: عودة العلاقات بعد سقوط الأسد، خيار واقعي أم تنازل استراتيجي؟

مع سقوط النظام السابق، تجد الحكومة السورية الجديدة نفسها أمام سؤال استراتيجي: هل تُعيد تطبيع العلاقات مع موسكو؟ الجواب لا يمكن أن يكون بسيطاً، بل يجب أن يُقارب بميزان المصالح والكرامة الوطنية.

فالإيجابيات التي نراها تكمن بـ:

١- الاستفادة من الدعم السياسي الروسي في مجلس الأمن لتعزيز الاعتراف الدولي.
٢- الاحتفاظ بالتوازن الإقليمي عبر عدم الاستعداء المباشر لروسيا.
٣- إمكانية إعادة التفاوض على شروط القواعد العسكرية بما يعزز السيادة.

وأما السلبيات فهي:

١- استمرار مظاهر التبعية التي ارتبطت بالنظام السابق.
٢- إثارة الشكوك لدى الشركاء الغربيين والعرب بشأن استقلال القرار السوري.
٣- تقويض مشروع الإصلاح المؤسساتي إن لم تُعالج آثار الاتفاقيات غير المتوازنة السابقة.

رابعاً: خطورة العلاقة إن لم يُعاد تأطيرها:

إن أي علاقة غير متكافئة مع قوة عظمى تُهدد استقلال القرار الوطني، واستمرار القواعد الروسية بصيغتها الحالية قد يعني تحجيم السيادة الدفاعية والسياسية، وتعقيد مسار العدالة الانتقالية نتيجة التداخل الروسي في ملفات أمنية، إضافة لتقييد الشراكات المستقبلية، خاصة مع الاتحاد الأوروبي ودول الخليج.

خامساً، إستراتيجية تجاوز الخطورة وتحقيق المصالح السورية:

إذا ارتأت الدولة السورية أن ثمة مصلحة في الإبقاء على علاقة مع روسيا، فإن ذلك لا يجب أن يتم إلا ضمن إطار سيادي واضح، ويُستحسن أن يتضمن:

  1. إعادة التفاوض حول الوجود العسكري الروسي بموجب اتفاقات زمنية، قابلة للمراجعة، وبإشراف برلماني.
  2. تحويل العلاقة من "حماية" إلى "شراكة استراتيجية"، عبر فتح ملفات اقتصادية جديدة تحقق المنفعة المتبادلة.
  3. الانفتاح على شركاء متعددين، لضمان ألا تكون العلاقة مع موسكو الوحيدة أو المُهيمنة.
  4. الاستفادة من العلاقات الثقافية والتاريخية لبناء شراكة مدنية وتكنولوجية، بعيدة عن منطق الهيمنة الأمنية.
    لاشك أن عودة العلاقات السورية الروسية بعد سقوط الأسد ليست خياراً سهلاً ولا قدراً مفروضاً، بل معادلة دقيقة تحتاج إلى جرأة سياسية وحكمة تاريخية، ففي ظل الحاجة إلى شركاء فاعلين في الإعمار والاستقرار، تبقى السيادة الكلمة الفصل، والقرار السوري المستقل حجر الزاوية لأي علاقة دولية مقبلة.

خاتمة:

سورية ما بعد الأسد ليست ساحة نفوذ لأحد، بل مساحة سيادية تحتاج إلى شراكات مشروطة بالاحترام المتبادل، ولهدف تخليق مفتاح لإعادة رسم خارطة العلاقات الخارجية بما يضمن الكرامة الوطنية ويخدم المصلحة الاستراتيجية السورية، فإننا في المكتب السياسي لـِ تيار المستقبل السوري نوصي بنظرة واقعية، قائمة على مبدأ المصالح المتبادلة، دون التفريط بالسيادة أو تجاهل التعقيدات الإقليمية والدولية، بالآتي

أولاً: توصيات للقيادة السورية:

  1. تثبيت السيادة التفاوضية، عبر صياغة إطار جديد للعلاقات مع روسيا يرتكز على السيادة الوطنية، من خلال اتفاقيات مؤقتة وقابلة للمراجعة، تشمل القواعد العسكرية والمصالح الاقتصادية.
  2. تنويع الشراكات الدولية، والخروج من نمط "الحليف الواحد" نحو سياسة خارجية متعددة الأقطاب، تتضمن تعاوناً مع أوروبا، والولايات المتحدة، ودول الخليج، بما يدعم التنمية والعدالة الانتقالية.
  3. دمج الرأي العام في رسم السياسات عبر تأسيس لجان حوار وطني واستشارات عامة تُعزز شرعية أي تقارب مع روسيا أو غيرها، وتُحول السياسة الخارجية إلى شأن سيادي شعبي وليس نخبوياً فقط.
  4. الاشتراط القيمي للعلاقات الدولية، واعتماد مبدأ أن كل علاقة دولية يجب أن تخدم هدفين: الوحدة الوطنية وإعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية وعادلة، وأي علاقة تُضعف أحدهما يجب إعادة تقييمها.

ثانياً: توصيات لروسيا:

  1. الاعتراف بالتحول السياسي السوري، فعلى موسكو أن تتعامل مع القيادة الجديدة كشريك مستقل لا كامتداد للنظام السابق، وتُظهر مرونة تفاوضية في ملفات السيادة والوجود العسكري.
  2. تحويل النفوذ إلى شراكة تنموية، وإعادة توجيه العلاقة نحو استثمارات في الطاقة والتعليم والبنية التحتية، بعيداً عن النهج الأمني العسكري الذي بات يُقابل برفض شعبي داخل سورية.
  3. دعم مسار العدالة الانتقالية، فإذا أرادت روسيا الحفاظ على موطئ قدم سياسي في سوريا الجديدة، فعليها ألا تعيق مسارات كشف الحقيقة والمحاسبة، بل أن تتعاون معها وفق منطق المصالحة لا الإنكار.

ثالثاً: توصيات للمجتمع الغربي:

  1. فصل المسارات، وعدم ربط دعم الاستقرار في سورية بمواقفها من روسيا أو إيران فقط، بل بالاستعدادات البنيوية للدولة السورية الجديدة: إصلاحات، انتخابات، مساءلة.
  2. دعم الموقف السيادي السوري، وتشجيع الدولة السورية على الموازنة في علاقاتها دون فرض وصايات، عبر دعم تقنيات التفاوض والدبلوماسية الاقتصادية والخيارات السيادية البديلة.
  3. الاستثمار في المجتمع المدني والمصالحة، وعبر تعزيز برامج دعم المجتمع المدني، والعدالة الانتقالية، والتربية على التسامح والانفتاح، كأرضية تحدّ من نفوذ أي طرف خارجي مهيمن.

شاركها على:

اقرأ أيضا

أخبار يوم الأربعاء 2025/07/09م.

تحديثات شاملة عن أخبار يوم الأربعاء 09-07-2025

9 يوليو 2025

إدارة الموقع

سورية والاتحاد من أجل المتوسط: استعادة العضوية أم إعادة تعريف الدور؟

استعادة عضوية الجمهورية السورية تمثل تحولاً سياسياً

9 يوليو 2025

إدارة الموقع