“سلطة تأبى التغيير وثورة لا تموت”
- مقال رأي | بقلم رئيس تيار المستقبل السوري
الدكتور زاهر بعدراني
مقدّمة:
ما أن انتهت حفلةُ النِّظام السوريِّ وأبواقهِ المختلفةِ من سياسييّنَ ومحلّلينَ رفعوا شاراتِ النَّصر بعودةِ جُلمودهم الفحل “بشّار الأسد” لحضن حظيرة جامعة الدُّول العربية، معلنين هزيمة المؤامرة أمام صخرةِ النظام العاتي! إلا وعَلت صيحاتُ الشّارع – الذي لطالما صُنِّف على المؤيِّدين المحسوبينَ عليهِ – لتُنهيَ مراسمَ حفلتهِ المصطنعةِ، ولتُسدِلَ السّتارُ عن الفصل الأخير لمسرحيّتهِ ذات الفصول الـ 12 معلنةً بذلكَ عن موسمٍ إضافيٍّ جديدٍ وصاخبٍ، أبطالهُ هم أبناء الوطن من الجبلِ إلى السّهلِ وصولاً للسّاحل، ممّن اكتوَو بنارِ الفسادِ وأوار الفقر، فلم يعد مجرّدُ الصَّمت خياراً عندهم، بعدما استوت الحياةُ والموتُ لديهم في زمنِ الأسد الابن.
فها هي اليوم قِبلَةُ الثّورة السوريّة في الجنوب، “سهل درعا” يُحيي من جديدٍ صرخات أطفاله ممّن كتبوا على جدرانِ مدارسهم منذ 12 ربيعاً (ارحل)، ولِتجدَ لدى الجبلِ الأشمِّ وشيوخ عقلِ “سويدائِنا” آذاناً صاغياتٍ، فتنطلقُ لها حناجرُ العلوييّن في “السّاحلِ” مُزمجرَةً، مُهدِّدَةً ومتوعِّدَةً!
نعم، يمكننا اليومَ القولُ بملءِ الفم، سوريّةُ كلُّها ثورة، سُنَّةٌ وعربُ، ودروزٌ وعلويّون، وكُردٌ وتركمانٌ وشركسُ، ومسيحيونَ ويهودُ، كلُّهم متَّحدونَ نحو تحقيقِ الهدفِ، ويبحثون عن سُبُلِ الخلاصِ من النّظام الفاسد! ولعلَّ شدَّةَ ضغطِ المكبسِ على نفَسِ المواطنِ تسبَّبَ في رَفعِ منسوبِ الوعيِ الجماهريِّ على كلِّ التّرابِ السوريّ، فحدّدَ الشّعبُ بدقّةٍ غريمهُ، وصوّبَ نحوَ الهدفِ كنانتهُ ـ بعدما اختارَ سهمهُ مِن أرضِ مولدِ الأسدِ الابن وموطنِ الأسدِ الأب – فأصابهُ اليومَ بمقتَل.
صحيحٌ أنّ سوريّةَ باتت تشتكي من فاسديها، من “النّظام والمعارضة” على حدٍّ سواء! ولكن يمكننا الجزمُ بأنَّ الخلاصَ من الأسدِ ونظامِهِ الجاثم على قلوب السوريينَ منذ عقود، سيعبِّدُ الطريقَ للتّخلُّصِ من معارضةِ الوجاهةِ (دراكولّا الثورة) أولئكم الذين بتنا نَعُدُّهم امتداداً لفساد النّظام عينِه! ولعلّ الأقدار تتّجهُ اليوم لأن يكونَ التّغيير شاملاً بعدما هُيِّئ فكّا الكمّاشةِ من الشّمال والجنوبِ معاً، لقضمِ الفاسدينَ والمُفسدينَ والمُستنفعينَ من الطرفين في آن واحد.
إمكانية نجاح الحراك في مناطق النظام:
لسنا ممّن يغرقُ في الأحلام والأوهامِ، ومعدَّلُ التفاؤل عندنا مضبوطٌ على مقياس الشّعب، لكنّنا نجزمُ أنّ جسد النّظام المتهالكِ لم يعد يملكُ المناعةَ الكافيةَ لمحاربةِ من أسماهم إعلامهُ وأعلامُهُ يومها بـ “جراثيم”! ولا أدلَّ على ذلكَ ضعفُ بصرهِ وبصيرتهِ حين رأى منذُ أيامٍ على قناة “سكاي نيوز” أنّ معارضيهِ (ممّن خرجوا بمئات الآلافِ أوّل الثّورة) لم يتجاوزوا الـ 100 ألف!!
إنَّ ثورةً خرجت ضدَّ حُكم الأسد في 2011 يومَ كانَ مُمسِكاً بكلِّ مقدّراتِ البلدِ ضمنَ سيادةٍ شِبهِ مُعتبرة، فاستطاعَ التّحايلَ عليها وألبسها عباءاتٍ متعدِّدَةً حيكت لها في غُرفِ النّظام وسراديبه على مقاساتٍ تضمنُ تشويهها، لا ولن تحميه مِن ثورة 2023 وهو لا يملكُ زِمامَ إدارةَ قصر “المهاجرين”! حتّى جيشُهُ ومخابراتُه وإنْ كانت تنامُ آخر الليل في فراشهِ، لكنّها باتت تمارسُ المتعةَ أو البغاء جهاراً طول النّهارِ هنا وهناك!
ربّما لم يعد قرار تنحّي الأسد عن السُّلطةِ أمراً يحدِّدهُ بنفسه، لكنّ قاعة مجلس الشّعبِ التي وافقت على تعديل الدّستور في الـ 2000 ليصبحَ رئيساً لـِ “الجمهورية العربية السوريّة”، هي نفسهُا المعوَّلُ عليها وعلى فُرسانها اليوم لاتّخاذ هذه الخطوةَ الوطنيّةَ بامتياز! ولا نقول ذلك تألِّياً! لكنه واقع الحال الذي هلّت بشائرهُ من الشارع المُحتقن.
ما هو مطلبنا اليوم من السوريين في مناطق سيطرة النظام؟
نحن في الحقيقة لا نطالبُ بشيء، ولا يمكن لأحدٍ منّا (ممّن يعيشُ في الخارج) أن يُطالبهم بشيء! ولكننّا نعلمُ عِلمَ اليقينِ أنّ الشّعبَ السوريَّ (في الدّاخل) سواءٌ في 2011 أو في 2023 لم يتحرك بطلبٍ مِن أحد (وإن سوَّقَ النِّظامُ وروَّجَ غير ذلك)، بل كان عبارةً عن انفجارٍ جماهيريٍّ لم يستطع أحدٌ كبحهُ وتحجيمه ولا التَّحكم بردّاتهِ الاهتزازيّة، فباتتَ ثورةً شهدت مدّاً وجزراً وما زالت حتّى تُحقّقَ المأمول منها.
ولكنّنا في تيار المستقبل السوري ندعو العقلاء في الدّاخلِ لقراءة المشهد من جديدٍ بـِ “مجهرٍ سوريٍّ” دقيق، والاستفادةِ من الأخطاءِ والكبواتِ التي حدثت في ثورة 2011 لتلافي الوقوع ببراثن النّظام وأفخاخه اللامتناهية، ممّا يضمنُ استمرار حِراكِ الشّارع المكلومِ من الفساد والظلم اللَّذَينِ ضربا أطنابهما في العمق السوريّ فلم يدَعا لذي عقلٍ ولبٍّ إلاّ إعلان مواقفهِم الوطنيّةِ المُشرِّفة صراحةً دون أيّما مواربة.
إنّنا في تيار المستقبل السوري نرفضُ إطلاقَ البعضِ أسماءَ تُخلُّ بالثّورة وتأذي جوهرها وكُنهَها! فهي ليست ثورةُ جياعٍ كما يريدُ البعضُ تسويقها، ولا ثورةَ المُكتَويْنَ بنار العقوبات الاقتصاديّةِ الدّوليّة، ولا ثورةً ثانيةً، أو فورةً أو أو! إنّما هي “ثورة شعب” مستمرٍّ بمطالبه منذ 2011 وحسب، شعبٍ يعيشُ في داخلِ قفصٍ أو سجنٍ اسمه (وطن) لم يُقدّر لهم أسبابُ الرّحيلُ عنهُ كما قُدِّرَ لملايينَ أُخَرَ من أبنائه وبناته، فآثَرَ العيشَ فيهِ بصّمتٍ مريرٍ على أن يقطع “شعرةَ معاوية” معهُ، شعبٍ وصل إلى مفترقِ طريق، فاختار الوطن على النّظام، واختار الشّعب على سُلطة الفرد الأوحد.
ما هو مطلبنا اليوم من السوريين خارج مناطق سيطرة النظام؟
تيار المستقبل السوري يدعو أهلنا السورييّن في المناطق المحرّرة لأن يُعيدوا جذوةَ الثّورةِ الأولى من خلال تفعيل الخزّانِ الشعبيّ، سواءٌ بخطاباتٍ توعويّةٍ ومهرجاناتٍ وطنيَّةٍ مُوَجِّهَةٍ وموجَّهة، تجمع الكلَّ على أهداف الثّورةِ، وتوحِّدُ رؤيتهم من جديد، وتتجاوزُ الخلافاتِ الجانبيّة لصالحِ القضيّة السوريّة العادِلةِ والمُحقّة.
كما يدعو تيار المستقبل السوري لإعادةِ التّفكير بصناعةِ جبهةٍ وطنيّةٍ شعبيّةٍ ثوريّة داخليّة، قِوامُها الأحزابُ والتّياراتُ والقوى الوطنيّة المتواجدةُ في الدّاخل حقاً، وأن يصدر عنها بيانٌ موحَّدٌ تدعم من خلاله كلّ الجهودِ الشعبيّة الفرديّة والجماعيّة (في مناطق سيطرة النّظام) والتي تصبُّ في خانةِ توحيد الوطن من جديد، وحِفظ حقوق المواطن على أساس المواطنة، بعيداً عن التّصنيفات الطائفيّة والمذهبيّة والقبليّة التي غرقنا بها وأغرقنا بها الوطن، في حين أنها كانت نفسُها طوقَ نجاة النّظام في خضمّ موج الثّورة المتلاطم.
ما هو مطلبنا من السوريين خارج سورية؟
تيار المستقبل السوري يدعو أهلنا من السوريين (أبناء الوطن) في الخارج، متابعةَ دعمِ أهلهم وذويهم في الدّاخل المنكوبِ (في مناطق النظام وخارجها) بما يُتاحُ لهم من جُهدٍ وفضلِ زادٍ، وهو واجبٌ أخلاقيٌّ واجتماعيٌّ وإنسانيٌّ ودينيّ، كما أنَّ للكلمةِ الطيّبةِ والدَّعمِ النّفسيّ دورهما الهامّين في استقرار أحوالهم، واستنهاضِ هممهم، وبلورة أفكارهم بما يضمن مشاركتهم الفاعلة بحالةِ (الوعي والرُّشدِ المتقدِّم) والذي وصلنا إليهِ (معاً) بعد 12 ربيعاً وخريفاً عشناهُ جميعُنا، فما من بيتٍ سوريٍّ في الدّاخل أو في الخارج وقد سَلِمَ مِن عواملِ الحتِّ والتّعريةِ، والتي كانت سبباً في توحيد إعادةِ ضبط عقارب السّاعة نحو بدء مرحلةٍ صِفريَّةٍ يستوي فيها المُعارضُ مع الموالي والمهادن مع المداهن وتتغلّبُ فيه مصلحة سورية العليا على أيّ اعتباراتٍ شعبويّةٍ ثانويّةٍ أخرى).