الإدارة السورية الجديدة، بين التطمينات الخارجية وإهمال الخطاب الداخلي

شهدت سورية تحولًا جذريًا بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024م، حيث تولت الإدارة الجديدة قيادة البلاد في مرحلة انتقالية مليئة بالتحديات.
ومع بداية عهد جديد، برزت أولويات الإدارة الجديدة في تعزيز العلاقات الخارجية وكسب الاعتراف الدولي، بينما بدا الخطاب الداخلي للشعب السوري أقل حظًا من الاهتمام.
التركيز على التطمينات الخارجية:
منذ اليوم الأول لتوليها السلطة، سارعت الإدارة السورية الجديدة إلى تعزيز علاقاتها مع الدول الإقليمية والدولية، فاستقبلت دمشق وفودًا دبلوماسية من دول شتى، مثل أمريكا والسعودية وتركيا وفرنسا وألمانيا، بالإضافة إلى ممثلي الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.
هذه الزيارات هدفت إلى سحب تطمينات من دمشق للمجتمع الدولي بشأن نوايا الإدارة الجديدة في تحقيق الاستقرار وبناء سورية جديدة بعيدة عن سياسات النظام السابق، وكذلك قضايا الثأر ونحوه.
كما أجرى الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، اتصالات مكثفة مع قادة الدول العربية والعالمية، حيث زار السعودية وتركيا في فبراير 2025م، وناقش معهم سبل دعم سورية في مرحلة إعادة الإعمار والاستقرار.
ولاشك أن هذه الخطوات تعكس سعي الإدارة الجديدة لكسب الشرعية الدولية ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد.
إهمال الخطاب الداخلي:
في المقابل، يلاحظ تراجع واضح في اهتمام الإدارة الجديدة بالخطاب الداخلي الموجه للشعب السوري!
فبعد أكثر من عقد من الحرب والمعاناة، يتطلع السوريون إلى إصلاحات ملموسة في مجالات الأمن والاقتصاد والخدمات الأساسية.
ومع ذلك، لم تقدم الإدارة الجديدة (رؤية واضحة)، أو خططًا تفصيلية أو إجمالية لمعالجة هذه القضايا، مما أثار استياءً واسعًا بين المواطنين.
فعلى سبيل المثال، رغم الإعلان عن تشكيل لجنة تحضيرية لعقد مؤتمر وطني جامع، إلا أن المواعيد المحددة لهذا المؤتمر تأجلت مرارًا، مما أثار تساؤلات حول جدية الإدارة في إشراك جميع مكونات الشعب السوري في صنع مستقبل البلاد.
على أنه عندما تم الاعلان عن قيام اللجنة التحضيرية، كان لها لقاء صحفيا، يمكن اعتبارها خطوة ايجابية، ولو أنها لم تحدد إطارا زمنيا لعملها.
كما أن الإدارة لم تقدم حلولًا سريعة لأزمة الكهرباء والمياه، (بل تفاقمت)، مما زاد من معاناة السوريين، رغم وعودهم بتحسين الخدمات خلال أشهر قليلة.
ومن تمظهرات التباين بين الخطابين الخارجي والداخلي:
- الزيارات الدبلوماسية المكثفة: في غضون شهرين فقط، فقد استقبلت دمشق وفودًا من أكثر من 17 دولة، بما في ذلك دول مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي، بينما لم تُعقد أي اجتماعات جماهيرية أو حوارات مفتوحة مع المواطنين السوريين.
- تأجيل المؤتمر الوطني: أعلنت الإدارة عن تأجيل المؤتمر الوطني، الذي كان من المفترض أن يكون منصة للحوار بين جميع الأطياف السورية، وقامت بتعيين اللجنة التحضيرية بشكل موجس لبعض المكونات السورية، مما يعكس أولوية العلاقات الخارجية على الحوار الداخلي.
- غياب الإصلاحات الاقتصادية: رغم الدعوات الدولية لرفع العقوبات، لم تقدم الإدارة الجديدة خططًا اقتصادية واضحة لمعالجة الفقر والبطالة، التي يعاني منها أكثر من 90% من السوريين.
الأسباب الجوهرية:
أسباب كثيرة يتم التكهن بها عن دافع القيادة السورية الجديدة، خصوصاً بعد تعيين السيد أحمد الشرع رئيساً لسورية بالمرحلة الانتقالية، منها:
- الاستثمارات الخارجية، فرغم رفع جزء من العقوبات، لم تتمكن القيادة السورية الجديدة من جذب استثمارات كافية لتعزيز الاقتصاد الداخلي، مما أدى إلى تركيز أكبر على الاستثمارات الخارجية.
- التحديات الأمنية، حيث تعرضت القيادة الجديدة لتحديات كبيرة في التعامل مع الفلول والمجموعات المسلحة الأخرى، مما أدى إلى تركيز كبير على الأمن الداخلي مع الخارجي، باعتبار أن ما يجري بالداخل له عمق خارجي.
ولكن السبب الجوهري الأكبر كما يبدو يعود إلى رؤية استراتيجية للقيادة السورية باتت واضحة، وهي أن الفواعل الداخلية سواء كانت فواعل إيجابية أو سلبية، لا تمثل خطراً على الدولة الجديدة.
فالفواعل الايجابية تساند القيادة الجديدة بمسارها، وأما الفواعل السلبية فالقيادة تراها مرتبطة بمُشغل خارجي، وبالتالي سيكون الاشتباك معها مضيعة للوقت وإشغالاً غير مفيد.
إذاً، فالقيادة السورية تنظر إلى جميع المشاكل الداخلية بأن حلها الصحيح بتغيير القناعات للدول الإقليمية والدولية. فالاقتصاد مثلا يعتمد على عاملين:
- رفع العقوبات بشكل كامل، وهذا لا يتم إلا من قبل المجتمع الدولي (امريكا+ أوروبا+ مجلس الأمن).
- الاستثمارات الخارجية، تمتنع عن دخول القطاعات السورية لدعمه بسبب تخوفات من المجتمع الدولي، وليس بسبب المشاكل الداخلية الأمنية، التي يتم معها بسط الأمن بشكل ثابت ومتين.
وأما بخصوص إفشال الفواعل الداخلية لمسار ومشروع القيادة السورية، فهو ينتهي في حال تم تجفيف الدعم الخارجي عنها.
فمثلاً، قوات سورية الديمقراطية، في حال إيقاف الدعم الأمريكي عنها، إضافة لتجميد المظلة الروسية، فستكون أمام مجابهة القوات التركية وحلفاءها، أو من جانب آخر ستكون أمام خيار الانضمام لمشروع القيادة السورية بالانضمام للدولة السورية التي تقدم تسهيلات كبيرة وتطمينات للمكون الكوردي.
وأما قوات الجنوب السوري، فكانت زيارة معالي وزير الخارجية السيد أسعد الشيباني إلى الإمارات العربية المتحدة، ولقاء نظيره الإماراتي، معالي الوزير عبد الله بن زايد آل نهيان، وذلك يوم أمس، على هامش أعمال “القمة العالمية للحكومات” في دبي، لسبب سحب الدعم الإماراتي لأي تحركات مضادة للقيادة السورية، حيث كانت الأخبار مبشرة بإقناع الجانب الإمارتي أن مصلحتهم مع مشروع الدولة في سورية، مما سيساهم حتى في إقناع الجانب الإسرائيلي بأن حالة التفلت ستكون مكلفة لكلا الجانبين السوري والإسرائيلي.
إذا، يمكن فهم عقلية القيادة الجديدة، والتي نرى أنها عقلية صحية في وضع التأسيس للجمهورية السورية الثالثة.
على أنه في ظل التحديات الكبيرة التي تواجهها سورية، تحتاج الإدارة الجديدة إلى تحقيق توازن بين تعزيز العلاقات الخارجية وبناء الثقة مع الشعب السوري.
فبينما تعتبر التطمينات الدولية خطوة ضرورية لرفع العقوبات وجذب الاستثمارات، فإن إهمال الخطاب الداخلي قد يؤدي إلى تفاقم الاستياء الشعبي وتهديد الاستقرار الداخلي.
لذا، يتعين على الإدارة الجديدة أن تعطي الأولوية لمعالجة احتياجات المواطنين وتقديم رؤية واضحة لمستقبل البلاد، إلى جانب تعزيز علاقاتها الدولية.
وعليه فإننا في المكتب السياسي لـ تيار المستقبل السوري نوصي بالتالي:
- يجب التركيز على المكاشفة بين الدولة والشعب، خصوصا على مستوى الوزارات، وتوضيح أسبوعي لعمل هذه الوزارات عبر بيانات رسمية، أو لقاءات صحفية، توضح التحديات، وتقدم التصورات، وتُحدد الخطوات.
- التركيز على طلب المساعدة من السوريين، سواء بالداخل أو الخارج، للمساعدة الاستشارية والدعم، فعندما يكون هناك إيمان من الدولة الناشئة بشعبها، وعندما يكون الشعب متغلغل بكل المفاصل الدولية كالشعب السوري، عندها، يجب استنهاض الدولة لشعبها وفتح المجال لتقديم المساعدة، حتى تقف الدولة على قدميها، وبذلك لايتم تجاهل الداخل على حساب الخارج ولا العكس.
- عمل لكل مؤسسة خطة وملفا رسميا، وطريقة تواصل شعبية للمساهمة بتقديم حلول نظرية وواقعية لها، عبر ايميل خاص أو لجنة للتواصل.
لاشك أن الواقع مربك، والتفاؤل كبير، والتحديات الخارجية ضخمة، ولكن كذلك التحديات الداخلية، لايجوز إهمالها، بل يجب معالجتها بنفس السوية.
المكتب السياسي
فريق البحث
قسم البحوث والدراسات
مقالات
تيار المستقبل السوري