المكتب السياسيبحوث ودراسات المكتب السياسي

سورية بعد اغتيال رئيسي!

ثلاث مروحيات تصل منها اثنتان فقط وتسقط الثالثة، وللمصادفة هي الطائرة التي يعتليها رئيس إيران (ابراهيم رئيسي) ووزير خارجيتها (حسين أمير عبد اللهيان) وحاكم مقاطعة أذربيجان الشرقية (مالك رحمتي) و إمام ديني من محافظة تبريز (محمد علي الهاشم)!.
سيكون من المفيد في دولة يحكمها رجال الدين أن يتم التعلل بالقضاء والقدر، فالشيعة الإمامية تؤمن أن القدر خيره وشره من عند الله، وقد اتخذت مدرسة أهل البيت بين المدرسة الأشعرية والمعتزلة، الطريق الوسط وهو عقيدة “أمر بين الأمرين” حيث لم تنحاز الى الجبر ولا إلى التفويض، فهذه النظرية الثالثة، جامعة وحافظة لما يتبناه الطرفان من الأصول مع ذلك لم تستل منها النتائج في حقلي الجبر والتفويض، حصيلة هذه النظرية أنّ القضاء والقدر الإلهي لا يجعلان الإنسان مكتوف اليدين في تصرفاته ورغباته وتحديد مصيره ومن جانب آخر، أنّ قضية الإختيار في ساحة الإنسان لا تقلّص ساحة الكبرياء و الهيمنة الإلهية بل الأمرين (العلم الإلهي بالأفعال وإختيار الإنسان) ينسجمان في هذه النظرية(1).
وبالتالي سيكون من المُقنع أن يكون الخطاب الرسمي إيمانيا دون اتهام لأحد، مع أن الواقعة في حقيقتها عملية اغتيال من الدرجة الأولى، يظهر ذلك في بيان خامنئي حيث يقول: لقد وقع هذا الحادث المرير في أثناء بذل الجهود لتقديم الخدمة، إنّ كلّ مدّة مسؤوليّة هذا الإنسان المضحّي والجليل، سواءٌ المُدّة القصيرة لرئاسة الجمهوريّة أو ما سبقها، قد قضاها في بذل الجهود المتواصلة لخدمة الناس والبلاد والإسلام (2).

رسائل العملية:
ثلاث رسائل في عملية اغتيال رئيسي بحسب ما رشح من معلومات خاصة:
الرسالة الأولى: وصفت مجلة فورين يوليسي الأمريكية في تقرير سابق لها سياسات رئيسي وعبد اللهيان بـ«ديبوماسية الصقور» معتبرا أنهما يشكلان خطرا مباشرا على الولايات المتحدة، وذلك نظرا لتوسعهما اقتصاديا وديبلوماسيا في اتجاهات عدة، وانتهج رئيسي وعبد اللهيان مسارا دبلوماسيًا قويًا خلال العامين الماضيين باتجاههما نحو الشرق من العالم، وتعضيدهما العلاقات مع موسكو وبكين، وذلك في وقت تمسكا خلاله بصيغة توافقية مع السعودية والإمارات عبر مسار مصالحة جاء برعاية روسية، فضلًا عن دعمهما للفواعل من غير الدول فيما يسمى محور المقاومة، الذي يشمل (حزب الله اللبناني، وحركة المقاومة الإسلامية حماس في فلسطين، وجماعة الحوثي في اليمن)(3).
رئيسي يُعتبر المُرشح الأول والمقبول من قبل الحرس الثوري الإيراني، ومن قبل المُرشد خامنئي، إذ تُناقش مقالة نُشرت في مجلة Foreign Affairs في عدد (مايو/يونيو 2017) للكاتِبَيْن “سانام فاكيل” و”حسين راسام” بعنوان “المرشد الأعلى الإيراني القادم.. الجمهورية الإسلامية في أعقاب “خامنئي”، معالم “الدولة العميقة” التي نجح “خامنئي” في إرسائها، وعلاقته بالحرس الثوري، وأبرز المرشَّحين لخلافته، حيث خلصت إلى أن حظوظ ابراهيم رئيسي قوية، إذ في مارس من عام 2016، عُيِّن “إبراهيم رئيسي” رئيسًا للعتبة الرضوية المقدسة، وهي منظَّمة خيرية ضخمة يُسيطر عليها مكتب المرشد الأعلى، وهو العام ذاته الذي بزغ فيه نجم “رئيسي” كأبرز خليفة لـ”خامنئي”.
كما أن “رئيسي” قد تدرَّج في المناصب القضائية، ففي أعقاب رئاسته الفريق الذي يُحاكِم الفساد في الكيانات المملوكة للدولة، عُيّن عام 2004 نائبًا لرئيس السلطة القضائية، وانْتُخِب لمجلس الخبراء الإيراني عام 2006، وشغل منصب أمين اللجنة التي تُشْرف على المرشد الأعلى داخل المجلس، وفي عام 2014 عَيّن “لاريجاني” “رئيسي” في منصب أكبر مدَّعٍ عامٍّ في البلاد.
ويُعْرف “رئيسي” بسياساته المتشدِّدة؛ ففي عام 1988، وبصفته مدعيًا عامًّا، أدار الإعدامات الجماعية للسجناء السياسيين، ومن ضمنهم أعضاء من حركة “مجاهدي خلق” التي تُطالب بالإطاحة بالجمهورية الإيرانية.
وقد اعتبر الكاتبان أن “رئيسي” هو المرشح الأوفر حظًّا لخلافة “خامنئي”؛ فبمقارنته بغيره من المرشَّحين، وجدا أن “رئيسي” يحظى بأوثق علاقة مع الدولة العميقة والحرس الثوري، وقد استطاع طيلة حياته المهنية أن يحافظ على ولائه المطلق لكلٍّ من “الخميني” و”خامنئي”، إلى جانب سياسته المحافظة والمتشدِّدة وخبرته في القضاء، ودهائه السياسي، وهذا يجعله الاختيار الأمثل لحماية مصالح الدولة العميقة التي أرساها “خامنئي”. وقد ترشح رئيسي للانتخابات الرئاسية في مواجهة الرئيس حسن روحاني.
وفي الأخير، يَخْلُصُ الكاتبان إلى كون الآمال التي يعقدها الإصلاحيون على إمكانية تحوُّل إيران إلى دولة أكثر اعتدالا ووسطية في مرحلة ما بعد “خامنئي” إنما هي ضرب من ضروب “اللا عقلانية”، لسببين: أولهما أن الدولة العميقة التي أسَّس “خامنئي” ركائزها ببنياتها الأمنية والاستخباراتية والاقتصادية المعقَّدة، والتي تتألَّف من الموالين له ولسياساته المحافظة والمتشدِّدة ومفهومه حول الدولة الإيرانية وسياساتها الداخلية والخارجية لن تسمح بأن يأتي من يُحدِثُ إصلاحات أو تغييرات جذرية من شأنها الإضرار بمصالحها.
وثانيهما أنه لو افترضنا جدلا تولي شخص يحمل توجُّهات إصلاحية منصبَ المرشد الأعلى بعد “خامنئي” متحدِّيًا إرادة الدولة العميقة، فإنه لن يصمد طويلا أمامها؛ كونها، وبلا ريب، ستقف حجرَ عثرة أمام أية محاولات إصلاحية، الأمر الذي سيقود إلى إفشال تلك المحاولات.
كما ارتأى الكاتبان أيضًا أن المرشَّح الذي سيحظى بتأييد الدولة العميقة يُرجَّح أن يكون ذا ميول دينية متشددة على غرار “خامنئي”، في كلٍّ من السياستين الداخلية والخارجية، وخبرة وإلمامًا جيِّديْن بالنواحي الإدارية، والأهم من كل ذلك أن يحترم مصالح الدولة العميقة ويضمن حمايتها(4).
وولهذا ستكون عملية الاغتيال ذات رسالة قوية بأن كل الرموز الايرانية بما فيها المُرشد تحت اليد!، فمن خلال القوة التدميرية الهائلة للصواريخ الاسرائيلية وبنك الأهداف الذي تمتلكه، وهذا بدا واضحا من خلال مشاهد الدمار في القرى الجنوبية اللبنانية وعدد القتلى من كلا الجانبين، حيث وصل عدد قتلى “حزب الله” الى نحو 300، فيما لم يتجاوز عدد قتلى الجيش الإسرائيليين ال 30 قتيلا. فالخلل في موازين القوى يظهر جليا من خلال رصد وإصطياد المسيرات الاسرائيلية لنخبة قيادات “حزب الله” على كافة الأراضي اللبنانية والسورية، والذي تقدر مصادر ميدانية ل”جنوبية”(5)، أن “50% بالمئة من قادة حزب الله الميدانيين قد استشهدوا منذ الثامن من تشرين الاول”، وبذلك يظهر حقيقة الصراع مع اسرائيل التي تسعى للقضاء على الشخصيات الفاعلة سواء بايران أو لبنان أو سورية.
الرسالة الثانية: تتراجع إدارة بايدن عن دعم التصعيد الاسرائيلي تجاه ايران، لتتقدم إدارة ترامب وتحصد من تحت الطاولة أصوات الاسرائيلين بدعم ستكون باكورته عملية الاغتيال هذه، ولن تقف عند هذا المستوى، وهذا ما ألمح له الدكتور زاهر بعدراني رئيس تيار المستقبل السوري في مقاله الذي كان بعنوان: “الانتخابات الأمريكية ومستقبل الملف السوري”(6).
الرسالة الثالثة: تظهر من تبرؤ اسرائيل عبر اعلامها من عملية الاغتيال رغم أنه لا يوجد اتهام لها، حيث قال مسؤول إسرائيلي يوم الإثنين، إنه لا علاقة لإسرائيل بمقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، في حادث تحطم طائرة هليكوبتر، والذي أسفر أيضاً عن مقتل مرافقيه، أضاف المسؤول الذي طلب عدم الكشف عن هويته “لم نكن نحن”، ولم يصدر أي تعليق رسمي من الحكومة الإسرائيلية حتى الآن(7).
وكانت القناة الـ13 الإسرائيلية نقلت عن مسؤولين قولهم أمس بأنه لا علاقة لتل أبيب بتحطم مروحية إبراهيم رئيسي.
وهذا يبدو من باب “يكاد المريب أن يقول خذوني”، وبحسب معلوماتنا فإن عملية الاغتيال والتبرؤ منها هي رد واضح على تبرؤ ايران من عملية طوفان الأقصى في 7 اكتوبر(8).

دور الأسد:
ذكرت صحيفة نيزافيسيمايا الروسية أن إيران تشتبه في استعداد الحكومة السورية لعقد صفقة محتملة مع الغرب، مبرزة أن هذا التقارب هو سبب اتخاذ دمشق “موقفا معتدلا” نسبيا بشأن الصراع في قطاع غزة(9).
بعد اجتماع بشار الأسد مع ولي العهد السعودي الذي طلب منه تغيير استراتيجيته ليحثل على دعم دولي لمستقبله السياسي، وبعد رفض ايران بأن تنسحب من سورية، كان أمام بشار الأسد تقديم رأس ابراهيم رئيسي تماما كما فعل حافظ الأسد بتسليم أوجلان سنة 1998م حيث تبلور ذلك التسليم توقيعا لاتفاق أضنا، الذي كان اتفاقاً أمنيا سريا بين تركيا وسورية عام 1998، لتبدأ بعده مرحلة جديدة من التقارب التدريجي، حيث وقّع البلدان لاحقاً عشرات الاتفاقيات في مجالات متعددة(10)، وبهذا فإن الأسد يضرب عصفوين بحجر واحد:
الاول: يكون قد قدّم ما يمكن تقديمه واستجاب للطلب السعودي بالتطبيع مع اسرائيل وطرد ايران.
الثاني: ضَمن الأسد رعاية اسرائيل له ضمن شروط الخدمة المتفق عليها.

خاتمة:
يمكن القول أن ابراهيم رئيسي تم اغتياله بعمل مُرَّكز حِرفي، لا يمكن أن تقوم به إلا مخابرات قوية لا تترك أثرا خلفها.
ويمكن القول أن بشار الأسد استطاع أن يجد أوراقا يمكنه اللعب بها، خصوصا والحادثة بعيدة عن بلده، وهذا يعطيه القدرة على المناورة مع الايرانيين.
وأخيرا فإن بشار الأسد نجح في تقديم نفسه حليفا لاسرائيل وأصبح وجع رأس لايران التي باتت تشعر أنه لم يعد حليفها القوي المرغوب، ولكنها مضطرة للتعامل معه لأن وجوده يجعل وجود ايران شرعيا في سورية، ولكن من المُرّجح فإنه لن تلبث أن تتركه لعدوها اللدود (اسرائيل)، وهذا يعطينا انطباعا عن المستقبل السوري الذي سيكون فيه بشار الأسد لبنة ضمن جداره المتوقع.
إن الاستعداد لهذا المستقبل يطرح إعادة قراءة للحالة السورية من قبل المعارضة نفسها، للبحث عن خيوط تنسج نفسها بالحبكة السورية الجديدة التي ستكون مع الادارة الأمريكية القادمة صفارة انطلاقتها، فهل تنجح المعارضة باستغلال هذا الواقع لمصلحتها ومصلحة أهدافها؟

إلياس عبد المسيح
المكتب السياسي
قسم البحوث والدراسات
تيار المستقبل السوري

المراجع:
(1) السبحاني التبريزي، الإلهيات على هدي القرأن والسنة والعقل المجلد2 ص341.
(2) X \ الإمام الخامنئي على X: “لقد وقع هذا الحادث المرير في أثناء بذل الجهود لتقديم الخدمة. إنّ كلّ مدّة مسؤوليّة هذا الإنسان المضحّي والجليل، سواءٌ المُدّة القصيرة لرئاسة الجمهوريّة أو ما سبقها، قد قضاها في بذل الجهود المتواصلة لخدمة الناس والبلاد والإسلام.”
(3) بعد رحيل الرئيس الإيراني ووزير خارجيته.. هل تنتهي «دبلوماسية الصقور» ؟ (msn.com)
(4) مركز المستقبل – من هم المرشحون الأكثر احتمالا لخلافة “خامنئي”؟ (futureuae.com)
(5) 300 شهيد للحزب مقابل 30 قتيل لإسرائيل.. ماذا تبقى من «منظومة الردع»؟! – جنوبية (janoubia.com)
(6) الانتخابات الأمريكية ومستقبل الملف السوري – تيار المستقبل السوري (sfuturem.org)
(7) إسرائيل تنفي علاقتها بمصرع رئيسي – موقع 24
(8) مقتل إبراهيم رئيسي ومرافقيه.. ترقب واستفهام مبطّن في واشنطن (alaraby.co.uk)
(9) صحيفة روسية: هل حقا تشتبه إيران في تواطؤ الأسد مع الغرب؟ | أخبار | الجزيرة نت (aljazeera.net)
(10) العلاقات التركية السورية كيف سلم حافظ الأسد أوجلان. – Baz News

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى