سورية، بين خسارة كينونة الدولة أو بَعثِ رجالاتها
أفكر أحياناً في الجيل القادم، وما الذي سيكتبوه عـنّـا! والنون في عنا ليست مُستغرقة للشعب السوري، بل النخب الفكرية والسياسية والثقافية السورية!
فمن جانب النظام السوري نجد ثلاث مُحددات رسمت صورته:
المحدد الأول: فشل قيادة النظام السوري في التعامل مع ثورة شعبية، حيث وقف ضدها وعاداها وحاربها، بل واستخدم كلَّ قوته الأمنية والاستخباراتية لإذلال شعبه وقتله، حتى حصل الانفجار الكبير، انفجارٌ شعبيٌّ في كل اتجاه وزاوية، لم يستطع النظام السوري إخضاع السوريين بالقوة فضلا عن انعدام الحكمة والسياسة، فعاصمة الأمويين التي أرسى معاوية بن أبي سفيان فيها نظرية (الشَّعرة) الحكيمة، فعندما سُئل عن سبب استقرار حكمه رغم القلاقل أربعين سنة، قال: لو بيني وبين الناس شعرةّ ما انقطعت! لأنهم إن مدُّوها خلَّيتُها، وإن خلُّوا مددتُها!!
إلا أننا نجد في نفس ذاك البلد، والذي آل حكمه لآل (الوحش / الأسد) فإنّ النظام السوري قد قطع بالفعل كلَّ شعرةٍ بينه وبين شعبه، حتى مع الموالين له! فهو لا يريد إلا خُداماً على بابه، وعبيداً يسمعون ويطيعون، وشعباً مُتجانساً مهما كان عددهم، ثم ليذهب الباقون للجحيم، ولتذهب الدولة والأرض للتقسيم.
المُحدد الثاني: إغراق سورية بكل مؤامرة إرهابية مُدمّرة من شبيحةٍ أطلق النظام السوري سراح غالب وحوشهم من سجونه بعفوٍ عن جرائمهم السابقة واللاحقة، شريطة أن يفتكوا بالشعب، ويعيثوا الفساد بالأرض، مُتطرفون تغلغلوا في فراغ الفوضى التي خلقها النظام نفسه ليعيثوا فساداً وإرعاباً ليس لدى السوريين فحسب، بل في العالم أجمع.
المُحدد الثالث: التنازل عن السيادة الوطنية لقوى خارجية عند كل شعور باهتزاز العرش والكرسي، فلا شيء أهم من البقاء على كرسي السلطة لدى النظام السوري، فكانت سياسة الأسد تقوم على استغلال كل شيء لمصلحة الاستمرار مهما كان نوعه، عبر تخويف الأقليات من جهة، وشد عصب العلويين من جهة ثانية، واحتواء رجال الدين ورجال الأعمال السُنَّة من جهة ثالثة.. فأي تصرّف مهما كان ممجوجاً، فهو سياسة واجبة لديه، طالما أنه يخدم الحفاظ على العرش، حتى لو أدى ذلك لتفتيت الشعب والدولة والأرض! وتبقى سياسته تلك مغسولةً ألف مرة، عن صكوك بيع سورية للأجنبي! عن استجلاب الدب الروسي، والذئب الإيراني ليملكوا مايشاؤون من امتيازاتٍ ومرافئَ وقواعدَ ومعابر، وغيرها.
وأما جانب المعارضة السورية، والتي لم يكن لها أي ممارسة حقيقية منذ سبعينيات القرن الماضي بسبب سياسة البعث التسلطية، فقد رَسمت صورَتها أيضاً بثلاث محددات:
المُحدد الأول: الفشل في قيادة الحراك الشعبي، إذ منذ بداية انفلات الطوق لم تستطع المعارضة أن تُزاوج بين ظهور الفنادق ورباط الخنادق! لم تستطع قيادةَ الثورة حق القيادة! ولعلنا في المستقبل حين يتم كتابة واقعنا اليوم من منظور تاريخي، فإننا سنرى التحليلات التي تُرجح فشل المعارضة بقيادة الحراك الشعبي، بين عجز ذاتي لها، أو رغبة بذلك لدى الشعب السوري الذي استطاع الهدم، ولكنه لم يستطع البناء!! وقد أشرنا إلى ذلك في دراسة نشرها المكتب العلمي/ قسم البحوث والدراسات، بعنوان: نقد العقلية السورية (فكرة الهدم) انموذجاً.
المُحدد الثاني: مع أن المعارضة لا يُفترض بها أن تكون واحدة (لكن موحَّدة وموحِّدَة)، ولكن تجارب في تاريخنا السوري كـَ “الكتلة الوطنية” وغيرها، تذكرنا أنّ كلمة واحدةً منها كانت كافية لتجعل سورية كلها مُتفاعلة، وما الاضراب الستيني إلا دليل واضح على ذلك! ربما المعارضة السورية ليست واحدة، لكنّ وجود شخصيات دولة (من سياسيين وعسكريين ودبلوماسيون ونحوهم) لو قُدِّر لهم واجتمعوا، لخلقوا بديلاً واقعياً عن سلطة ونظام الأسد!! وهو ما لا يجب الاختلاف حوله!!
المُحدد الثالث: عجز القيادات السورية في المعارضة السورية عن خلق عامل التأثير، وترك قيادِ الدفة للدول الأجنبية، سواءً التركية منها أو الأمريكية أو غيرها، لنجد شخصيات كثيرة لا مكان لها إلا في غرف افتراضية، أو مقالات أو لقاءات إعلامية، بينما الأرض تتقاسمها مجموعات قومية تريد استعداء أكبر دولةٍ جارة لنا! هدفها خلق دويلةٍ غير موجودة في الخرائط، أو حتى الوعي الدولي، وحركات دينية تريد إعادة الخلافة الإسلامية وغاية حلمها وهدفها زاوية من الأرض تفرض فيها وعليها تصوراتها عن لباس المرأة وحدّ قطع الأيدي، ورجم الأحجار، ومجموعات تأتمر بخطوط اتصالات TURKCELL ولا هم لها إلا تعزيز الانتماء العشائري والقبلي.
إن صرختي اليوم عبارة عن قراءة سياسية مبنية على تجارب سابقة، ومعرفة دقيقة قد لا يعلمها كثير من النخب، بعقلية النظام السوري وتركيبته العميقة الحقيقية، بل بعقلية المطابخ الإقليمية ومداوراتها، صرخة ترى الواقع الذي نسير فيه، وتستشرف المستقبل المُخيف، مستقبل هدم نهائي لكيان الدولة السورية، الدولة التي تقوم على شعب واحد، في بلد موحد، يمثلها سلطة واحدة، تبسط سيادتها فقط دون تدخل آخر لدول خارجية.
صرخةً باتت ترى الأرض مُمزقة، والإقليم مُفتت، والشعب مُثقلٌ بحِمل سنوات الحرب واللجوء والضياع، مع فقدانٍ واضحٍ للبوصلة السياسية، ودمارٍ محققٍ للمظومة الأخلاقية! ومع ذلك فإن التاريخ سيكتب ويسجل أن شعباً ثار لأجل حريته، هو شعبٌ يحمل قيماً ومُثُلاً عليا، بينما السُّلُطات جميعها لا تُفكر بغير ديمومة بقاءها، ولو كانت الضريبة دموع ودماء ودمار البلد، وأما السيادة ففي القلب قهر لا يسع الأبحدية كلها التعبير!.
إن معطيات الحاضر تُنبئُ أن المُستقبل السوري مخيف! مخيفٌ لدرجة أننا نحتاج لأن نرفع بطاقة إنذارٍ صفراءَ على أقل تقدير أن كيان الدولة يذبل، وأنا نكاد نفقد الملعب كله! وإن لم نقف وقفة رجال دولة حقيقيين، وإن لم نخلق من هذا الفراغ والفوضى كتلةً وطنيةً حقيقبةّ فاعلةً ووازنةً ومؤثرة، بحيث لو ضربت بيدها على الطاولة لاهتزت لها أنقرة وواشنطن وجنيف، وتردد صداها في أبعد قرية وأصغرها في سورية، فإننا على شفا جُرُفٍ لن يُبقي ولن يذر، ونذير دمارٍ للبشر!!
وإيماني أن مثل ذلك لا يأتي بالرغبة والعاطفة ولا التنظير، فرجال الدولة لا شيء يوجدهم غير طبيعتهم، هم لا يُصنعون صناعةً، لكنهم يُبعثون من روح الشعب المُعنّى في لحظةٍ تاريخيةٍ، ليخلقوا نواةً صلبةً، تكون قادرةً على تجميع الخيوط ونسج حبل النجاة، وصناعة المستحيلات، ضمن فقه الموازنات، وفهم الأولويات، وجمع الشتات، ورسم السياسات.
إن مثل هذه الرغبة لا يحتاج إلى إشارةٍ خارجيةٍ، ولا إلى زلازلَ أمنيةٍ داخلية، ولا يخضع لرغباتٍ ونداءاتٍ شعبوية، ولكن إلى قرارٍ وطنيٍّ سياديٍّ غير عاديّ، ينهض به رجال الدولة الحقيقيون، المخضرمون، وأحسب أن بوارق بعثهِ باتت قريبة أكثر من أي وقت مضى.
وإننا في تيار المستقبل السوري نعمل له وعليه لا كخيار، ولكن كسبيل وحيد لحفظ ما بقي من كيان الدولة السورية، وترميم ما أصابها على مدار العقود الأخيرة الماضية.
د. زاهر إحسان بعدراني
مكتب الرئاسة
مقال
تيار المستقبل السوري