المكتب الاقتصاديالمكتب العلميفريق بحث المكتب الاقتصاديقسم البحوث و الدراساتمقالاتمقالات اقتصادية

سورية بين اقتصادَي الدولة والميليشيات

مقدمة:

اقتصاد الدولة هو النظام الاقتصادي الذي تسيطر فيه الدولة بشكل كامل على جميع جوانب الإنتاج والتوزيع والاستهلاك. ومن أبرز خصائصه التخطيط المركزي، والملكية العامة، والتدخل الحكومي الشامل في تحديد الأسعار وتوزيع الدخل، والأهداف في تحقيق العدالة الاجتماعية والنمو الاقتصادي المتوازن.

أما اقتصاد الميليشيات فهو نظام اقتصادي غير رسمي وغير قانوني يسيطر عليه فصائل مسلحة أو ميليشيات، ومن أبرز خصائصه غياب الدولة والرقابة، كونه يعمل بشكل موازٍ للاقتصاد الرسمي للدولة، ويعتمد على القوة، ويتحرك بأنشطة غير قانونية.
وهنا يكمن الفرق بين اقتصاد الدولة واقتصاد الميليشيات ليكونا نمطين مختلفين تمامًا للإدارة الاقتصادية.

الاقتصاد السوري قبل الثورة:

قبل عام 2011، كان الاقتصاد السوري يُصنف بشكل عام على أنه اقتصاد ذو توجه اشتراكي، مع عناصر من الاقتصاد الموجه، هذا يعني أن الدولة كانت تلعب دورًا كبيرًا في توجيه الاقتصاد وتحديد السياسات الاقتصادية، ولكن مع وجود بعض القطاعات الخاصة.

لهذا لا يمكن أن يُصنف أنه اقتصاد ميليشياتي، لعدة أسباب منها:

  1. غياب الميليشيات المسيطرة: قبل الثورة، لم تكن هناك ميليشيات تسيطر على أجزاء كبيرة من الاقتصاد أو تفرض ضرائبها الخاصة.
  2. سيطرة الدولة: كانت الدولة هي الجهة الوحيدة المخولة بفرض الضرائب وجمع الإيرادات.
  3. وجود مؤسسات اقتصادية: كانت هناك مؤسسات اقتصادية حكومية وخاصة تعمل بشكل نسبي.

لهذا يمكن أن يُقارن أحيانًا بنظام اقتصاد الدول، إذ كان الاقتصاد السوري قائما على:

  1. التخطيط المركزي: حيث كانت الدولة تقوم بتخطيط كبير للاقتصاد وتحديد الأسعار وتوزيع الموارد.
  2. الملكية العامة: كانت العديد من الشركات والمصانع مملوكة للدولة.
  3. التدخل الحكومي الكبير: كانت الحكومة تتدخل بشكل كبير في مختلف القطاعات الاقتصادية.

قبل عام 2011، كان الاقتصاد السوري يميل أكثر إلى نظام اقتصاد الدولة، حيث كانت الدولة تلعب دورًا محوريًا في التخطيط والتوجيه. ومع ذلك، كان هناك بعض الخصائص المختلطة، مثل وجود قطاع خاص محدود.

الاقتصاد السوري بعد الثورة:

مع اندلاع الثورة الشعبية وما جره من حروب معقدة وتصعيد عسكري وتجزئة للخريطة وتدخلات خارجية، تغير الوضع بشكل جذري، وانتشر اقتصاد الميليشيات في مناطق سيطرة الفصائل المختلفة، مما أدى إلى تدهور كبير في الوضع الاقتصادي.

فبعد عام 2011، تحول الاقتصاد السوري بشكل كبير بعيدًا عن نظام اقتصاد الدولة الذي كان سائداً سابقًا، وأصبح يجمع بين عناصر مختلفة من اقتصاد الدولة واقتصاد الميليشيات، بالإضافة إلى اقتصاد السوق غير الرسمي، وذلك لعدة أسباب:

  1. التجزئة الجغرافية: نتيجة للنزاع، تم تقسيم سورية إلى مناطق خاضعة لسيطرة مختلفة (النظام السوري، المعارضة، الإدارة الذاتية، تنظيم الدولة الإسلامية، وغيرها)، ولكل منها نظامها الاقتصادي الخاص.
  2. ضعف الدولة: فقدت الدولة السورية قدرتها على السيطرة على الاقتصاد بشكل كامل، مما سمح لغيرها من الجهات الفاعلة، بما في ذلك الميليشيات، بالتحكم في قطاعات اقتصادية مهمة.
  3. الاقتصاد الموازي: انتشر الاقتصاد الموازي بشكل كبير، حيث تعمل العديد من الشركات والمؤسسات خارج إطار النظام الاقتصادي الرسمي، مما يجعل من الصعب تحديد طبيعة الاقتصاد السوري بدقة.
  4. سيطرة الميليشيات: فرضت الميليشيات المختلفة سيطرتها على مناطق معينة، وجمعت الضرائب وفرضت رسومًا على الأنشطة الاقتصادية، مما خلق نوعًا من الاقتصاد الميليشياتي.

إذاً، العناصر الموجودة في الاقتصاد السوري حاليًا:

  1. عناصر اقتصاد الدولة: فلا تزال حكومة النظام السوري تحاول الحفاظ على بعض عناصر الاقتصاد الدولاتي في المناطق الخاضعة لسيطرتها، مثل تحديد الأسعار وتوزيع بعض السلع.
  2. عناصر اقتصادية ميليشياتية: تسيطر الميليشيات على العديد من القطاعات الاقتصادية، وتفرض ضرائبها الخاصة، وتقوم بالاتجار غير المشروع.
  3. اقتصاد السوق غير الرسمي: يشكل الاقتصاد غير الرسمي جزءًا كبيرًا من الاقتصاد السوري، حيث يعمل الناس في العديد من الأنشطة الاقتصادية خارج الإطار الرسمي.

باختصار، يمكن وصف الاقتصاد السوري الحالي بأنه “اقتصاد هجين” يجمع بين عناصر مختلفة ومتضاربة، وهذا الوضع يجعل من الصعب تقييم أداء الاقتصاد السوري بشكل دقيق، ويؤثر بشكل كبير على حياة المواطنين السوريين، إذ العوامل التي تؤثر على الاقتصاد السوري:

  1. استمرار النزاع: يؤثر النزاع بشكل كبير على الاقتصاد السوري، ويؤدي إلى تدمير البنية التحتية، وتشريد السكان، وارتفاع معدلات البطالة والفقر.
  2. العقوبات الاقتصادية: فرضت عقوبات اقتصادية على سورية، مما ساهم في تدهور الوضع الاقتصادي.
  3. تدفقات رأس المال: تعتمد سورية بشكل كبير على المساعدات الدولية، والتي تتأثر بالتطورات السياسية والإقليمية.

عن رحلة الانتقال:

الانتقال من اقتصاد هجين أو ميليشياوي إلى اقتصاد دولة في سورية عملية معقدة وطويلة الأمد تتطلب مجموعة من الإجراءات الشاملة، والتي تشمل:

  1. إنهاء الصراع:
    • أ. الحل السياسي: إيجاد حل سياسي شامل يضمن انتقالًا سلميًا للسلطة وإجراء انتخابات حرة ونزيهة.
    • ب. وقف إطلاق النار: وقف فوري ودائم لإطلاق النار وتسريح الميليشيات.
    • جـ. مكافحة الإرهاب: القضاء على الجماعات الإرهابية وميليشيات الشبيحة التي تستغل الصراع لتحقيق أهدافها.
  2. إعادة بناء الدولة والمؤسسات:
    • أ. إصلاح القطاع العام: إعادة بناء المؤسسات الحكومية وتقوية قدراتها على تقديم الخدمات العامة.
    • ب. إصلاح القضاء: بناء نظام قضائي مستقل وفعال يضمن سيادة القانون.
    • جـ. مكافحة الفساد: وضع آليات فعالة لمكافحة الفساد وتعزيز الشفافية والمساءلة.
  3. إعادة إعمار البنية التحتية:
    • أ. استعادة الخدمات الأساسية: إعادة تأهيل شبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي والاتصالات.
    • ب. إعادة إعمار المدن والقرى: إعادة بناء المنازل والمباني العامة المدمرة.
    • جـ. تنمية القطاع الخاص: تشجيع الاستثمار الخاص وخلق فرص عمل جديدة.
  4. إصلاح النظام الاقتصادي:
    • أ. توحيد العملة: توحيد العملة الوطنية وإلغاء العملات المتداولة في المناطق المختلفة.
    • ب. إصلاح النظام المصرفي: إعادة بناء النظام المصرفي وتقوية الرقابة عليه.
    • جـ. تدقيق الحسابات: إجراء تدقيق شامل لحسابات الدولة والمؤسسات العامة.
    • د. إصلاح نظام الضرائب: وضع نظام ضريبي عادل وفعال يضمن جمع الإيرادات اللازمة للدولة.
  5. بناء الثقة:
    • أ. الحوار الوطني: عقد حوار وطني شامل يجمع جميع الأطراف المعنية لبناء الثقة وتوحيد الرؤى.
    • ب. المصالحة الوطنية: العمل على المصالحة الوطنية وإعادة بناء النسيج الاجتماعي.
    • جـ. تعزيز حقوق الإنسان: احترام حقوق الإنسان وحريات المواطنين.

التحديات التي تواجه هذا الانتقال:

  1. وجود تنوع عرقي وطائفي كبير في المجتمع السوري يجعل من الصعب تحقيق المصالحة الوطنية.
  2. وجود تدخلات خارجية في الشأن السوري يزيد من تعقيد الأزمة.
  3. انتشار الفساد يضعف الثقة في المؤسسات الحكومية وغير الحكومية ويؤثر سلبًا على عملية الإصلاح.
  4. نقص الموارد: تحتاج عملية إعادة الإعمار إلى موارد مالية كبيرة، وقد تواجه صعوبات في تأمين هذه الموارد.

الانتقال إلى اقتصاد دولاتي في سورية يتطلب إرادة سياسية قوية ودعمًا دوليًا، بالإضافة إلى تضافر جهود جميع الأطراف المعنية.
ومما يجب ملاحظته أن عملية الانتقال هذه تتطلب وقتًا طويلاً وقد تواجه العديد من التحديات والعقبات، كما يحتاج الاقتصاد السوري إلى دعم مالي وفني من المجتمع الدولي، إضافة إلى أن تكون عملية الانتقال مبنية على مشاركة الشعب السوري في صنع القرار.

خاتمة:

لكل الاقتصاديين مشاكله وسلبياته، وبكل تأكيد هناك بدائل عن اقتصاد الدولة واقتصاد الميليشيات! فالنظام الاقتصادي الأمثل هو الذي يجمع بين مزايا النظامين مع تجنب عيوبهما، وعادة ما يشار إليه بـ “الاقتصاد المختلط”.
والاقتصاد المختلط هو نظام اقتصادي يجمع بين الملكية الخاصة والملكية العامة، وبين التخطيط المركزي والتخطيط الحر للسوق، والدولة تتدخل في الاقتصاد لتنظيمه وتوجيهه، ولكنها تسمح أيضًا بوجود قطاع خاص قوي.
ومن مزايا الاقتصاد المختلط الاستفادة من مزايا كلا النظامين، إذ يجمع بين المرونة والابتكار الموجودين في الاقتصاد الحر مع القدرة على تحقيق العدالة الاجتماعية والنمو المستدام التي يتميز بها الاقتصاد الموجه.
إضافة إلى تجنب سلبيات كلا النظامين، حيث يقلل من سلبيات اقتصاد الدولة مثل البيروقراطية وغياب الحوافز، ويقلل من سلبيات الاقتصاد الحر مثل التفاوت الشديد في الدخل والركود الاقتصادي.
أيضا من مميزاته التوازن بين الحرية والمسؤولية، حيث يوفر توازنًا بين الحرية الاقتصادية الفردية ومسؤولية الدولة تجاه المجتمع.

ومن الأمثلة على الاقتصاد المختلط، معظم الدول المتقدمة، حيث تعتمد على نظام اقتصادي مختلط، مثل الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان.

لهذا فإن الانتقال إلى اقتصاد مختلط يتطلب عدة خطوات نوصي بأخذها بالاعتبار في مسار بناء سورية جديدة:

  1. تدرج الإصلاحات: يجب أن تتم الإصلاحات الاقتصادية بشكل تدريجي لتجنب الصدمات الاقتصادية والاجتماعية.
  2. بناء المؤسسات: يجب بناء مؤسسات اقتصادية قوية وشفافة، مثل البنوك المركزية والبورصات.
  3. تطوير القطاع الخاص: يجب تشجيع القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي المباشر.
  4. توفير شبكة أمان اجتماعي: يجب توفير شبكة أمان اجتماعي لحماية الفئات الضعيفة خلال فترة الانتقال.

الاقتصاد المختلط يمثل نموذجًا اقتصاديًا أكثر مرونة واستدامة من اقتصاد الدولة أو الميليشيات، وهو يوفر توازنًا أفضل بين الأهداف الاقتصادية والاجتماعية.
ومع ذلك، فإن نجاح هذا النظام يتطلب تصميم سياسات اقتصادية سليمة تكون على مقاس سورية وواقعها الحالي، وكذلك حكمًا رشيدًا يوجهه ويسوسه ويضبطه.

المكتب الاقتصادي
فريق البحث
قسم البحوث والدراسات
مقالات
تيار المستقبل السوري

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى