من أحفاد القسام إلى أبي عبيدة… أما بعد!
لا أخفيك أنّي استحيي أن أوجه كلمتي لكم أيها المرابطون! فشتان بين المحارب والمنظر! لكنّ لمّا وصل خطابك لمسامعي أدركت أنّ النصح والتقويم أمانة حضارية واجتماعية وسياسية وأسأل الله أن يغفر زلتي وتقصيري! نعم… قيل لا يفتي قاعد لمجاهد وهذا وارد، ولكن ليس كلّ من لا يقاتل هو قاعد أو زاحف وليس كل من يقاتل مجاهد في سبيل الحق! فهناك من يجاهد بالقلم والتوعية وآخرون يجاهدون بكلّ تفاصيلهم ولهؤلاء علينا درجة.
ولكن علينا أن نحذر من توظيف الجهاد القتالي أو الفكري ليصب في مصلحة هذا أوذاك! فأنت وإخواننا في فلسطين على مضارب القتال والدفاع عن الوجود ومن الممكن أن تطرق المنية بابكم في أي لحظة. فحاذر أن تلقى الله آثما! وحاذر أن يقتصر دفاعك الوجودي عن الجغرافيا لا الحضارة والذات الثقافية والجسد العربي والإسلامي! وإيّاك أن يغرك الجهاد فهو ربما يكون عليك حجة! فهو ليس غاية بذاتها بل وسيلة لتحقيق غاية! لذا فانظر ملياً! هل هذا الجهاد يحقق الغاية أم يُجيّر سياسيا دون قصد لتحقيق غايات الآخر اجتماعيا وثقافيا في ظلّ تغييب غايتنا الحضارية المكلفون في تحقيقها!
اعلم أيا المجاهد
أن معركتنا اليوم ليست عسكرية وليست صراعا على الوجود الجغرافي وحسب، بل على الوجود الحضاري والثقافي والاجتماعي! إنّ معركتنا معركة وعي ومفاهيم، فإمّا أن نحافظ على جسد الأمة وإمّا أن نمزّقه بخطاباتنا ومواقفنا واستخفافنا بأهمية الكلمة ودورها في تشويه الوعي وإدارة الرأي العام والعامة بطريقة غير مسؤولة!
تلك الكلمة التي حذرنا منها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “إنّ الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالا يهوي بها سبعين خريفا في النار!” فإياك إياك أن تستهين بالكلمة مقابل السلاح! فصدقني إذا اشتريت السلاح بالكلمة تلك إذا قسمة ضيزى! إننا اليوم نرابط في جبهة قتالية وأخرى ثقافية، وكل عالم ومفكر وصاحب كلمة لا يصدع بالحق وتنصاع فتواه وتصريحاته لتحابي هذا الفاعل السياسي أو ذاك فهو القاعد والزاحف بل لا أبالغ إذا ما قلت إنّه يحارب في صفوف الغير!
ولا أخفيك يا أبا عبيدة أنّ العتب كبير!
إنّك مغيب عن مآلات وخطورة الجبهة الثقافية والتوعوية! فإن تصريحاتك التي يتلقفها الشباب والعامة والنخب والرأي العام بشوق تغتال وعي الأمة بدل أن تكون لها ظهيرا! وتسوّق بطريقة أو بأخرى ثقافة الحزب الإجرامي والفاعل الإيراني الذي أجرم بحضارتنا وإنساننا! فقتّل وهجّر ونكّل بأحفاد عز الدين القسام وهدّم بيوتهم ومدنهم ومزق حاضنتهم واعتدى على عرضهم واغتصب بناتهم في الشام ولبنان واليمن والعراق!
فكيف لك يا أخي أن تمجّد هذا الصائل الحضاري لتعلي شأنه في عقل وعاطفة الأمة! اعلم يا أبا عبيدة أنّ الجبهة القتالية إذا لم تساند جبهة الوعي الاجتماعي ولم تأخذ هذه الجبهة في الحسبان، فإنّها بهذه الطريقة تغذّي مشاريع الآخر الثقافية والاجتماعية بدم أولادنا وبناتنا وأسرنا وحضارتنا! فإياك إياك أن تظن بأنّ المعركة العسكرية التي يقتصر سعيها في الحفاظ على بقعة جغرافية فقط، هي أهم لدى الأمة والحضارة العربية والإسلامية من الحفاظ على الوعي الاجتماعي والديني والحضاري! وهذا ما يدركه الكيان الغاصب ولم ندركه بعد! لذلك نجد هذا الكيان كنزه في العنصر البشري ونقطة ضعفه هو العطب الثقافي والاجتماعي الذي يعانيه وكل ما سوى ذلك متغيرات! ورغم انتصاره دوما لكنه يلطم ويدّعي المظلومية لأنّ أحد أهم أسباب وجوده يستند إلى المظلومية الثقافية وهو غير مستعد أن يخسر أحد عوامل وجوده الثقافي! في حين أنّ ثقافتنا العربية تزهد بتكاتف شعوبها وعوامل قوتها الثقافية والشعبية والبشرية! إنّ أنظمتنا دوما تدّعي الانتصار وتغض النظر عن الاعتراف بالهزيمة، لأن وجودها يستند إلى بيع الوهم والحقيقة أن توهم النصر عين الهزيمة! لأنّه ببساطة يعطل التفكير الاجتماعي ويعطب السلوك الإنساني ويجرده عن دافعه فهو بمخياله منتصر بطبيعة الحال! والمقام لديه هو مقام احتفال لا إعادة تقييم إشكاليات وتشخيص واقع وإعداد خطط وتحويلها لمشاريع باستطاعتها تنظيم الطاقات الحضارية نحو الوجهة الصحيحة بغية تحقيق الانتصار! منّي إليك يا أبا عبيدة وأنا أحد أحفاد عز الدين القسام أقولها بوعي وحب وعتاب: أنت منّا فهل نحن منك!!
في خطابك الأخير أبيت إلا أن تنعت الصائل الإيراني وجواري الحزب والمجرم حسن بالقادة وحملة لواء الأمة! ولقد ناشدت علماء الأمة وانتقدت تهلهل موقفهم وتعجبت من تخاذلهم! متسائلا في خطابك “هل ينتظرون هدم الأقصى!” وإنك دعوتهم إلى ضرورة أن يكون هناك “استنفار علمائي لتبيان حقيقة الصراع وخطورة ما تتعرض له المقدسات والشعب الفلسطيني!” وطالبتهم بضرورة “إعلان الجهاد لنصرة الأرض والأقصى وضرورة تغييب الخطاب الطائفي الذي يمزّق الأمة!” ناصحا بذلك إخوانك الذين ناديتهم بـ”أحفاد ابن تيمية وابن حنبل والعز بن عبد السلام!”
لا أخفيك يا أبا عبيدة أنك لم تتكلم بنفس الأمة!
بل يستند خطابك إلى البراغماتية السياسية، وهذا لا شك خطير ولا ينعكس إيجابيا على مصلحة الأمة ولا المقاومة ولا القضية الفلسطينية بل العكس! لأنه يفرّغ الحاضنة الشعبية العربية والإسلامية من حول القضية الفلسطينية ويقطعها عن الجسد الحضاري! وهذا ما تريده إيران بل ما يسعى لتحقيقه الاحتلال الإسرائيلي! نعم… هي إيران تلك التي هجرت كل العواصم العربية وعاثت في أرضنا العربية والإسلامية فسادا وأي فساد! كل ذلك تمهيدا لتمكين الاحتلال الإسرائيلي اليوم! فلماذا تزهد بإخوانك! أبا عبيدة أنت منّا فهل نحن منك!!
عليك أن تدرك يا أبا عبيدة أن إيران لن تنظر لغزة وفلسطين بشكل يناقض سياستها في كل العواصم العربية والجسد الحضاري لهذه الأمة! أنت مخطئ إذا قايضت إخوانك وأبناء أمتك بسلاح وعتاد! أنت بذلك تبيعنا بثمن بخس! وأيضا أنت مخطىء إذا ظننت لوهلة في هذه الحقبة الزمنية أنكم الثور الأبيض الذي ينهشه الاحتلال وتتكالب على قصعته الأمم! ألم تر كيف فعلت إيران بدمشق وبغداد وبيروت وصنعاء! بكل بساطة إن الاحتلال الإسرائيلي هدفه هو الدفاع عن الأنظمة الاستبدادية وتفكيك الحضارة الإسلامية والعربية وهذا ما أشرفت على تحقيقه إيران والحزب والحوثيون وباقي الأذرع الوظيفية في جسدنا الإسلامي والعربي!
أبا عبيدة ألم تر!؟
لم يكن للاحتلال الإسرائيلي أن يتجرأ على قضم مناطقنا والولوج في أراضينا قبل الحراك العربي لأنه كان يخشى قوتنا الاجتماعية والثقافية! فكان يستبعد التطبيع أصلا لخوفه من الذوبان الثقافي! أي أن عدم السلام مع بلادنا كان إرادة صهيونية لا عربية! ولكن الآن لا أبالغ إذا ما قلت إنّ إيران وأذرعها الوظيفية أدخلته لبلادنا بشكل آمن بعد تهجيرنا وقتلنا وتفكيك منظومتنا الثقافية والاجتماعية! لتحولنا لقوة ثقافية هزيلة أمام هذا الصائل الصهيوني! هذا الصائل الذي يفتقر للعنصر الثقافي ورأى أن الحل هو في إضعاف الثقافات المحيطة واستخدم لذلك أذرع إيران والحزب ليحوّل حواضن الشام والعرب إلى دواجن ثقافية هزيلة لا تشكل خطرا على وجوده الحضاري والإنساني والثقافي! والمضحك أنّ البعض يحمل مسؤولية هذا التوغل وما يجري اليوم للمشاهد والضحية التي أكلت الحلوى من باب الفكاهة الاجتماعية وفرحت بنفوق المجرم على يد المجرم! وكأن الفرح الشعبي العفوي بات يحتاج لموافقة أمنية أو فتوى شرعية من السلطات! كل شيء بات مسيسا حتى الشعور! هذا واقع حضارة مغيبة يحكمها الإجرام ويحرسها الكهنة ويشرّع قتلها وإبادتها دول كبرى تقتل باسم القانون المقدس! ذاك القانون الذي نحته القوي لاستعباد الضعيف وقتله والتنكيل به وبحضارته ومعتقداته!
هل حقا يا أبا عبيدة مازلت تعتقد أنّ عدم مساندة أهل الشام وباقي الجسد المنكوب للحزب شعوريا هو طائفية! وهل حقا تعتقد أن منشورا لأحدهم على مواقع التواصل يعبر فيه عن فرحته بنفوق المجرم هو طائفية! لماذا لا تتفهمون دوافع فرحة وخطاب هؤلاء المنكوبين وتطالبونهم أن يتفهموا دوافع خطابكم الإيجابي بحق الصائل الإيراني وميليشياته الإجرامية! مع العلم أن سلوك الرأي العام لا يمكن استيعابه منطقيا وعلميا، في حين أن سلوك وخطاب قيادة المقاومة من السهل جدا إدارته واستيعابه! وهل حقا إنّ ما وصفته بالخطاب الطائفي لأهل الشام هو من شرذم الأمة! إذا ماذا تطلق على الفعل والسلوك الطائفي لإيران والحزب الذي تترضون عنه في خطابكم! هل سلوكهم يجمع الأمة! هل هو تقرّب إلى الله! هذا السلوك الأرعن الصفوي الصهيوني الذي ينكل ويقتل ويهجر إخوانك في الشام ألا يعنيك! نحن أبناء دين بوصلته الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء! نحن أبناء دين يقول لأقدس مكان في العالم: لهدم الكعبة حجر حجر أهون عند الله من أن يُراق دم امرئ مسلم! بوصلتنا هي الإنسان المسلم لا القبور والمقامات ولا المساجد ولا آبار الغاز والنفط ومصادر التمويل والتسليح! كنت مخطئا عندما وصفته بالخطاب الطائفي! نحن لسنا طائفيين! نحن لا نستحضر التاريخ بعدائنا مع إيران والحزب وأذرعتهم الإرهابية! نحن نستحضر الحاضر … بل اليوم …. بل الساعة! نحن ضد الحزب وإيران لأنّها هي من مكنت لكل ما يفعله الاحتلال الإسرائيلي اليوم! بالله عليكم أنّى تحكمون! يا أبا عبيدة نحن منك فهل أنت منّا!
لقد ناديتنا بأحفاد ابن تيمية الدمشقي!
لكن أريد أن أذكرك نحن أيضا أبناء القسام السوري الذي تقاتلون تحت رايته! نعم نحن الذي نكل بنا هذا الصائل الحضاري الحزب وإيران! القسام الذي هدم وثن المكان والحدود! فكان المسلم هو بوصلته وهذا ما يفسر مجيئه لكي يدافع عن فلسطين! ولكن بخطابكم هذا! تصنعون وثنا هدّمه القسام وهو المكان والجغرافيا والمقدسات التي تجعل من الأحجار أولوية وتحول الإنسان لعنصر ثانوي! اعلم أن تحرير الأقصى قبل تحرير الإنسان يحول الأقصى لوثن يتعبده البشر! إما إذا حررنا الإنسان قبل الأقصى فعندها يصبح للتحرير معنى وفاعلية حضارية! يا أبا عبيدة البوصلة البوصلة والحضارة لا تبنى بالبراغماتية بل بالتضحية والموقف وتصحيح البوصلة فقليلا من التوازن!
لقد دعوت في خطابك العلماء من أجل النهوض وإعلان الجهاد لإنقاذ ما وصفتهم بـ”شعبنا”! والحقيقة يا أبا عبيدة إن هذا لخطأ فادح وغير مسؤول فلا يوجد شعبنا وشعبكم! نحن شعب واحد ودم واحد ومصير واحد ولا يوجد دم مقدس ودم غير مقدس! إلا إذا كنت تدعو لصناعة جسد آخر غير الجسد الذي دعا إليه النبي الكريم! أصلاً أنت تطالب علماء الإسلام أن يعلنوا الجهاد! السؤال الذي يطرح نفسه: أليس نحن من تدعو العلماء لدعوتهم!
أسألك بالله العظيم كيف لهؤلاء الناس أن يجاهدوا معكم ويلتحقوا بكم وأنت تتعاطى مع قتلهم وتمزيقهم وكأنه أمر ثانوي لا يستحق أن يذكر! ليس هذا فقط بل تمجد قاتلهم وتصفونه بشهيد القدس وبكل إصرار! أي تناقض وأي استخفاف بإخوانك وحضارتك وجسد الأمة ذلك الذي تدلي به! فهل تعلم يا أبا عبيدة أنّ موقفك وسلوكك يؤدي إلى تعطيل الرأي العام العاطفي عن الانتفاضة من أجل الأقصى ومن أجل المسلم في فلسطين! هل تعلم أنك تتحمل مسؤولية تعطيل هذا الحراك الاجتماعي! لأنك تعبث بفطرة وعاطفة المسلمين من حيث لا تدري!
كيف تدعو العلماء لأن ينادوا بأهلك في الوطن العربي والإسلامي إلى الجهاد من أجل تحرير غزة في فلسطين وتصف قاتلهم بشهيد القدس! صدقني إنّ هذه الدعوات لا تصب في صالح القضية ولا الدين ولا الوحدة الإسلامية والعربية! ما يجري هو تقزيم للقضية وتسليع! مثل هذه الدعوات والتصريحات تدفع العامة والرأي العام العربي والإسلامي إلى الانقلاب على القدس وفلسطين! بل لا يقف الأمر عند ذلك فقط! فإن دعوة العلماء وتجنيد خطابهم الديني لصالح الفاعل السياسي بوقاحة غير مسبوقة من شأنه أن يدفع الناس للانقلاب على ذاتية الدين وهذا ماتريده إيران ويسعى إليه الاحتلال!
المستبد السياسي الدولي المحلي اليوم يسعى لتقليم أظافر المشروع الإيراني العسكري لصالح الفواعل السياسية والأنظمة المحلية بعد أن توغلت واستحكمت! إن هذا المستبد يريد تفكيك الثقافة العربية والإسلامية العامة من خلال دس واستنبات ثقافات غير موجودة أصلا! هذا المستبد يسعى لتحويل ميليشيات إيران والحزب لمراكز ثقافية تهدف لتعويم الثقافة الشيعية لتكون الثقافة السائدة لوحدة مرجعيتها وسهولة إدارتها وتوظيفها سياسيا!
خاصة وأنّ مثل هذه النماذج الوظيفية أثبت نجاحا فائقا في المرحلة التاريخية الحالية! هذه الثقافة التي تسوقونها من خلال خطاباتكم دون أن تشعروا يراد لها سياسيا أن تكون اجتماعيا لتحويل ثقافتنا لثقافة وظيفية وطاقاتنا لخلايا نائمة قابلة للتفعيل السياسي بأي لحظة يريدها الآخر! مثل هذه الثقافة المراد تسويقها قوتها وأهميتها بالنسبة للفاعل السياسي المحلي والدولي أنها قابلة للتوظيف والهدم وليست قادرة على البناء الحضاري في حالة الاستقرار! فحاذر وقف إنّكم مسؤولون!
ولكل من يقول أن لا نقد أثناء الحرب أقول بل النقد لا يكون إلا أثناء هذه المناسبات وفي وقتها، فالآن ترفع الأعمال إلى صفحات التاريخ والآن يسطّر التاريخ السرديات الوطنية والثقافية والفكرية، ويوثق الخائن والشهيد والمجاهد، وينحت الوعي والمفاهيم والمصطلحات، ويقر السرديات التاريخية والثقافية، وهيهات أن نسمح لكائن من كان أن يعبث بالمفاهيم ويشوه الحقيقة ويصنع من الخائن مجاهدا ومن المجاهد خائناً ولتعلم يا أبا عبيد أنني أتكلم باسم أحفاد القسام في الشام وصنعاء وبغداد ولبنان لأقول لك بكل حب وصدق: أنت منّا ولكن هل نحن منك!!!
المكتب العلمي
قسم البحوث والدراسات
باحثون مستقلون
د. علاء رجب تباب
تيار المستقبل السوري