الحجز الاحتياطي في سورية، تحليل للمرسوم الرئاسي رقم 16 لعام 2025

مقدمة:

يشكّل الحجز الاحتياطي في السياق السوري إحدى الأدوات القانونية ذات الطبيعة القسرية التي استخدمت بشكل واسع من قبل النظام السوري البائد منذ عام 2011، بوصفه وسيلة لعقاب جماعي، وتجميدٍ اقتصادي غير خاضع للمساءلة القضائية. وقد تزايدت حالات الحجز الاحتياطي بشكل كبير ضد معارضين سياسيين، نازحين، عاملين في منظمات المجتمع المدني، ومواطنين من خلفيات اجتماعية متنوعة، دون أي صلة فعلية بنزاعات قضائية أو اتهامات جنائية معلنة.
ومع صدور المرسوم التشريعي رقم 16 لعام 2025، الذي نصّ على رفع الحجز الاحتياطي عن ممتلكات ما يزيد عن 58 ألف مواطن، برزت حاجة ملحّة إلى تحليل هذا القرار ضمن سياق قانوني وأخلاقي، يربطه بالتحول السياسي الجاري ومحاولات ترميم الشرعية الدستورية المنهارة منذ عقود. يهدف هذا المقال إلى تفكيك بنية الحجز الاحتياطي قانونيًا، وتحليل القرار الجديد من زاوية دستورية ومؤسساتية، ووضعه ضمن أفق العدالة الانتقالية، مع اقتراح مسارات تشريعية ومؤسساتية بديلة.

الحجز الاحتياطي في القانون السوري.. بين النص والممارسة:

يُعرّف الحجز الاحتياطي في التشريع المدني السوري بأنه إجراء تحفظي يهدف إلى ضمان حقوق الدائن أو الجهة المدعية، ريثما يُفصل في النزاع القضائي موضوعًا.
ووفقًا لقانون أصول المحاكمات المدنية، لا يُمنح الحجز إلا بناءً على دعوى قضائية محددة، ووجود مبررات قانونية تبرر خشية ضياع الحق.
إلا أن المرسوم التشريعي رقم 63 لعام 2012، والذي صدر في ذروة توسّع السلطة الأمنية بعد اندلاع الثورة السورية، أعاد تعريف الحجز الاحتياطي بشكل منحرف، فقد منح هذا النص وزارة المالية الصلاحية لفرض الحجز بناءً على "كتب أمنية" صادرة عن الأجهزة الاستخباراتية، دون وجود مذكرات قضائية، أو قرارات اتهام، أو حتى تحقيق مفتوح.
لقد ساهم هذا النص في خلق منظومة مزدوجة من الإجراءات: الأولى مدنية – يُشترط فيها وجود دعوى ومبرر قانوني؛ والثانية أمنية – لا تخضع لأي ضمانة دستورية أو رقابة قضائية فعلية.
هذا التداخل منح الأجهزة الأمنية سلطة تنفيذية على الحقوق المالية للمواطنين، عبر آليات خفية وشبه سرية، حوّلت الحجز إلى عقوبة غير معلنة ووسيلة إذلال وتضييق.

الاستعمال السياسي والاقتصادي للحجز الاحتياطي:
في التطبيق العملي، لا يُمكن فصل الحجز الاحتياطي في سورية عن وظيفته السياسية.
لقد تم استخدامه لغايات متعددة تتجاوز المنطق القضائي، منها:

  1. عقوبة جماعية على النشاط السياسي أو الإنساني، إذ الآلاف من النشطاء المدنيين والمساعدين الإغاثيين وموظفي المنظمات المستقلة تعرضوا للحجز على ممتلكاتهم بدون محاكمة، لمجرد ورود أسمائهم في تقارير أمنية أو الارتباط بمناطق خارجة عن سيطرة النظام.
  2. ابتزاز مالي للفئات المعارضة، ففي حالات كثيرة، تم فرض الحجز كأداة تفاوض غير رسمية، يُرفع بموجب مبالغ مالية أو تسويات سياسية، دون وثائق مكتوبة أو إجراءات قانونية واضحة.
  3. استهداف السوريين في الشتات والمنافي، إذ آلاف المواطنين المهجّرين، خاصة من رجال الأعمال والنخب المهنية، وجدوا أنفسهم أمام قرارات حجز على ممتلكاتهم العقارية والتجارية داخل سورية، دون أي تواصل أو إشعار قانوني مسبق، مما يعزز فكرة أن الحجز أحد أدوات تفريغ المجتمع من مكوناته الحيوية.
  4. إعادة توزيع الملكية لمصلحة شبكات النفوذ، حيث عُرضت بعض الممتلكات المحجوزة للبيع في مزادات "قانونية"، وانتهت إلى أطراف مقربة من السلطة، في سلوك يعكس تحوّل الحجز إلى وسيلة لمراكمة السلطة الاقتصادية، وليس لحماية الحقوق المدنية.

القرار الرئاسي رقم 16 لعام 2025.. التحليل القانوني والمؤسساتي:
أصدر الرئيس أحمد الشرع في 12 أيار 2025 المرسوم التشريعي رقم 16، القاضي بمعالجة ملف الحجز الاحتياطي عبر رفعه عن الحالات التي لا تستند إلى قرار قضائي أو ملف جنائي موثق. وتم تنفيذ القرار لاحقًا عبر وزارة المالية بالتعاون مع وزارتي الداخلية والعدل، وشمل أكثر من 58 ألف حالة.
من الناحية القانونية، يُشكل القرار خطوة تصحيحية ذات دلالة، لأنه:

  • يُقر ضمنيًا بانحراف التشريع السابق (مرسوم 63 لعام 2012) عن القواعد الدستورية.
  • يُعيد الاعتبار لمبدأ أن ملكية المواطن لا تُمس إلا بقرار قضائي مسبب.
  • يُكرّس انفصال الجهاز المالي عن سلطة الأجهزة الأمنية، عبر تفعيل إجراءات وزارية مدنية بدلًا من الاستناد إلى كتب أمنية.
  • يُحاول، ولو جزئيًا، ترميم مبدأ المساواة أمام القانون، إذ أُعلن أن بعض مسؤولي الحكومة الجديدة المشمولين بالحجز طلبوا تأجيل رفعه عنهم لحين إنصاف المواطنين أولًا.
    ومع ذلك، يبقى القرار ناقصًا قانونيًا ما لم يُقترن بإجراءات مكملة، مثل:
  • إلغاء صريح للمرسوم 63 لعام 2012 أو تعديله جذريًا.
  • إنشاء هيئة قضائية مستقلة لمراجعة كافة قرارات الحجز السابقة.
  • إتاحة الطعن الفردي والشفاف لكل من تضرر من الحجز، بما في ذلك إمكانية التعويض المالي أو إعادة الاعتبار الإداري.

الحجز الاحتياطي ضمن منظومة العدالة الانتقالية:
في الأدبيات الحقوقية، تُعتبر سياسات الحجز الانتقامي جزءًا من الانتهاكات الاقتصادية المرتكبة في ظل الأنظمة الاستبدادية. وقد صنّفت منظمات حقوقية مثل "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" الحجز القسري ضمن أدوات القمع غير المعلنة، التي تُمارس خارج نطاق القانون، وتُسهم في نفي الوجود المادي والرمزي للمعارضين والناشطين.
في هذا السياق، يُعد قرار رفع الحجز في سورية خطوة ضمن مسار العدالة الانتقالية، لكنه يفتقر حتى الآن إلى الإطار الشامل. فالعدالة الانتقالية لا تقتصر على إلغاء الأضرار بل تشمل:

  • التوثيق العلني للانتهاكات، فيجب نشر قائمة بأسماء المتضررين، وظروف الحجز، والجهات التي قرّرته، لضمان مساءلة رمزية وتاريخية.
  • المساءلة المؤسساتية، حيث ينبغي التحقيق في كيفية تمرير عشرات الآلاف من قرارات الحجز، وتحديد المسؤولين الإداريين والأمنيين عنها، ومساءلتهم أمام لجان تأديبية أو قضائية مستقلة.
  • جبر الضرر، فكثيرون خسروا فرصهم الاقتصادية أو الاجتماعية بسبب الحجز، ولذا لا يكفي رفعه، بل يجب التفكير في آليات التعويض، سواء عبر صناديق دعم أو إجراءات إعادة دمج اقتصادي.
  • إصلاح الأجهزة المعنية، يشمل ذلك وزارة المالية، وشُعب الحجز في الدوائر العقارية والمصرفية، لضمان أن تُدار الملفات ضمن أطر قانونية وليس مراسلات أمنية.

نقد بنيوي للمرسوم التشريعي رقم 63 لعام 2012:
يُعد المرسوم رقم 63 لعام 2012 أحد أخطر مظاهر الانحراف التشريعي في سورية الحديثة، بوصفه أداةً قانونية منحت الأجهزة الأمنية سلطة مباشرة في المساس بحقوق الملكية دون المرور عبر القضاء أو احترام مبادئ الإجراءات العادلة. ويمكن تفكيك بنيته النقدية من النواحي الآتية:

  1. تقويض مبدأ فصل السلطات، فقد منح المرسوم وزارة المالية صلاحية فرض الحجز بناءً على "كتب أمنية" صادرة عن الأجهزة الاستخباراتية، بما يشكل إخضاعًا غير مباشر للسلطة المالية للهيمنة الأمنية، وانحرافًا عن مبدأ الفصل بين السلطات الذي تنص عليه المادة 132 من دستور 2012، ومبدأ استقلال الوظيفة القضائية.
  2. انتهاك القواعد الإجرائية في أصول المحاكمات، حيث يفرض المرسوم الحجز دون إشعار مسبق، أو بيان الأسباب، أو منح المتضرر فرصة الطعن أو الدفاع عن نفسه. وهذا يتعارض مع المادة 51 من الدستور، التي تكفل حق التقاضي، ويخرق أحكام قانون أصول المحاكمات المدنية، خاصة المواد المتعلقة بالإجراءات التحفظية والضمانات القانونية للمدعى عليه.
  3. انتهاك الحق الدستوري في الملكية، إذ تنص المادة 15 من الدستور السوري على أن الملكية الخاصة مصونة، ولا يجوز نزعها إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل. ومع ذلك، يُطبق الحجز بموجب هذا المرسوم دون تحديد منفعة عامة، ولا يمنح صاحب الحق فرصة لطلب تعويض، ما يحوّل الإجراء من إجراء تحفظي إلى عقوبة غير مبررة قانونيًا.
  4. التوسع التعسفي في نطاق المشتبه بهم، فالمرسوم يُمكّن الأجهزة الأمنية من إدراج أسماء على قوائم الحجز دون وجود أدلة جنائية أو حتى تقارير تحقيق، ودون أي رقابة قضائية أو نيابية.
    وقد طال الحجز شرائح واسعة من المدنيين، بما فيهم نازحون وعاملون في منظمات إنسانية، في نمط يُظهِر الطابع السياسي لا القانوني للحجز.
  5. غياب قاعدة بيانات رسمية شفافة، حيث لا تتوافر سجلات علنية أو إلكترونية يمكن للمواطنين أو الباحثين من خلالها مراجعة قرارات الحجز أو الطعن فيها، مما يعزز البُعد السري والتعسفي لهذا الإجراء، وينتهك قاعدة العلنية والمساءلة التي تُعد من ركائز الحكم الرشيد والشفافية الإدارية.
  6. تقويض بيئة الاستثمار والاقتصاد المحلي، فقد أدى توسيع قرارات الحجز إلى إخافة المستثمرين المحليين والدوليين، وتقييد حركة رؤوس الأموال، بل استُخدمت هذه القرارات في بعض الحالات لأغراض الاستيلاء المنظم على ممتلكات رجال أعمال معارضين أو مستقلين، في ممارسات تخرق قواعد القانون التجاري والمدني.
    المرسوم رقم 63 ليس مجرد نص تشريعي منحرف، بل هو تجسيد لمنظومة كاملة تربط بين الأمن، والقانون، والمال، بهدف التحكم بالمجتمع خارج الأطر الدستورية.
    وإلغاؤه ليس مجرد ضرورة قانونية، بل مطلب تأسيسي لإعادة الاعتبار للدولة القانونية، وإنصاف آلاف المتضررين من قرارات غير دستورية وذات طابع انتقامي ممنهج.

الخاتمة:

يشكّل القرار الرئاسي برفع الحجز الاحتياطي عن آلاف السوريين خطوة أولى نحو إعادة الاعتبار للملكية الخاصة، ولحقوق المواطنين الذين تضرروا بفعل تشريعات أمنية خارجة عن السياق الدستوري والمؤسساتي.
إلا أن هذا التحرك، وعلى أهميته الرمزية والسياسية، لا يمكن فصله عن الحاجة إلى مراجعة المنظومة القانونية الأوسع، وضمان أن تكون الإجراءات المستقبلية قائمة على أسس العدالة الإجرائية، والانفصال الفعلي بين الأمن والحقوق الاقتصادية.
والحجز الاحتياطي، كما مُورس منذ العام 2012، كان أداة هيمنة سياسية لا إجراءًا قضائيًا، وهو ما يتطلب تحولًا بنيويًا في فلسفة التشريع وتنفيذ القانون في سورية.
فالإصلاح الحقيقي لا يكون بإلغاء الضرر فحسب، بل بالاعتراف بوقوعه، ومساءلة من تسبّب فيه، وبناء ضمانات عدم تكراره.
وعليه، فإننا في المكتب العلمي لـ تيار المستقبل السوري نوصي بالآتي:

  1. الإلغاء الصريح للمرسوم رقم 63 لعام 2012 م بشكل علني وقانوني، وتجميد العمل بأي صلاحيات أمنية تسمح بالحجز خارج القضاء.
  2. صياغة قانون جديد للحجز الاحتياطي يُنظّم فقط عبر القضاء المدني، ويضمن الحق في الإشعار والطعن، ويخضع لرقابة النيابة العامة وقضاة مستقلين.
  3. إنشاء هيئة مستقلة لمراجعة ملفات الحجز السابقة تضم قضاة ومحامين وحقوقيين، تنظر في كل حالة على حدة، وتصدر توصيات بالمحاسبة أو التعويض حسب مقتضى الحال.
  4. اعتماد نظام تعويض منصف للمتضررين من خلال صندوق وطني للعدالة الانتقالية، يُموّل من موازنة الدولة أو من أصول المصادرات غير الشرعية، ويُدار وفق معايير الشفافية والمساواة.
  5. إعادة هيكلة أقسام الحجز المالي في المؤسسات الحكومية وإخضاعها لتدريب على القانون العام، وقواعد الإجراءات المدنية، وإبعادها عن التأثيرات السياسية والأمنية.
  6. إدراج الحجز التعسفي كأحد ملفات العدالة الانتقالية في سورية ضمن مسار يشمل المحاسبة والتوثيق والاعتراف الرسمي، ويُستند إليه في تصاميم إصلاح القطاع القانوني والمالي.

هذا المسار، رغم تعقيده، هو ما يضمن أن لا يُعاد استخدام أدوات القانون لتكريس الظلم، وأن تكون سورية الجديدة دولة تحترم ملكية مواطنيها، وتصون حقوقهم الإجرائية، وتفصل بين السلطة التنفيذية واستقلال القضاء.

المكتب العلمي
دراسات

المصادر:

  1. الجمهورية العربية السورية. المرسوم التشريعي رقم 63 لعام 2012، بشأن الحجز الاحتياطي. الجريدة الرسمية، العدد 27، 25 تموز 2012.
  2. الجمهورية العربية السورية. المرسوم التشريعي رقم 16 لعام 2025، بشأن معالجة ملف الحجز الاحتياطي. الجريدة الرسمية، العدد 19، 12 أيار 2025.
  3. وزارة المالية السورية. "بيان صحفي حول رفع الحجز الاحتياطي عن 58,082 مواطنًا". منشور رسمي، 23 تموز 2025.
  4. الشبكة السورية لحقوق الإنسان. الحجز الاحتياطي كأداة انتقام اقتصادي في سورية. تقرير خاص، نيسان 2021.
  5. المركز السوري للدراسات القانونية. الحجز الإداري في سورية: قراءة في التداخل بين الأمن والمالية. ورقة سياسات، آب 2022.
  6. OHCHR – United Nations Office of the High Commissioner for Human Rights. Rule of Law Tools for Post-Conflict States: Reparations Programmes. United Nations, 2008.
  7. UN Human Rights Committee. General Comment No. 27: Freedom of Movement. CCPR/C/21/Rev.1/Add.9, 1999.
  8. South African Truth and Reconciliation Commission. Final Report, Volume Six, Reparations and Rehabilitation. Cape Town, 1998.
  9. Equity and Reconciliation Commission of Morocco. Summary Report and Recommendations. Rabat, 2005.
  10. UN International Law Commission. Articles on Responsibility of States for Internationally Wrongful Acts, A/56/10, 2001.
شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع