مقدمة:
في لحظة تعيش فيها الأمة الإسلامية والمنطقة العربية مخاضًا سياسيًا واقتصاديًا عسيرًا، يعود الحديث عن مشروع تاريخي لطالما مثّل رمزًا للوحدة والنهوض، ألا وهو خط سكة حديد الحجاز الذي ربط قلوب الحجاج ومدن العالم الإسلامي من إسطنبول مرورًا بدمشق وعمّان وتبوك حتى المدينة المنورة.
إن تيار المستقبل السوري، إذ يعيد طرح هذا المشروع برؤية جديدة، فإنه يستحضر عمقه التاريخي، وأبعاده التنموية، ويضعه ضمن أولويات التفكير في سورية ما بعد الحرب، باعتباره أداة ربط استراتيجي بين الحواضر الإسلامية الكبرى، ومشروعًا حضاريًا يعكس روح الوحدة والسلام والتنمية.
أولًا: تصحيح تاريخي وتمهيد حضاري:
عرف في السجلات العثمانية بـ"خط شمندفر الحجاز" أو "الخط الحميدي"، وقد طرحت فكرته لأول مرة سنة 1864م في عهد السلطان عبد العزيز، ثم تجدد الطرح في 1881م، لكنه اصطدم بعقبات مالية وفنية.
وفي سنة 1900م، وباقتراح من رجل الدولة السوري أحمد عزت باشا العابد، فقد أمر السلطان عبد الحميد الثاني ببناء الخط رسميًا.
وقد كُلّف أحمد عزت باشا بمتابعة المشروع، الذي هدف إلى:
- تعزيز وحدة الولايات العثمانية.
- تسهيل الاتصال بين الشام والحجاز عبر شبكة تلغرافية موازية للخط.
- تمكين الحجاج من أداء الفريضة في أمان، وتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية للدولة العثمانية.
كان من المخطط أن يمتد الخط من دمشق إلى المدينة المنورة، ويُستكمل حتى مكة وجدة، إلا أن العوائق السياسية والعسكرية حالت دون إتمام الامتداد الأخير.
ثانيًا: الأهداف القديمة المتجددة للمشروع:
إن تفعيل هذا الخط من جديد لا يعني إحياء تراث فقط، بل هو مشروع ذو أبعاد متعددة ما زالت تلبي حاجات العصر:
- البعد الديني: تأمين وسيلة سفر آمنة وسريعة وميسّرة للحجاج من بلاد الشام وتركيا باتجاه الحرمين الشريفين، بما يُعزز الروابط الروحية ويُخفف الأعباء الاقتصادية على الحجاج.
- البعد السياسي والوحدوي: يمثل المشروع ركيزة ناعمة لإعادة ربط دول وشعوب المنطقة على أسس تعاون إقليمي جامع لا خاضع، وهو ما يتماشى مع التوجه الجديد في سورية نحو بناء شراكات استراتيجية مستقلة ومتكافئة.
- البعد الاقتصادي: سيساهم الخط في فتح الأسواق الداخلية والخارجية، وتسهيل نقل السلع بين تركيا وسورية والسعودية، ما يشجع الاستثمار والتبادل التجاري، ويعزز اقتصاد المدن الواقعة على امتداده.
- البعد الأمني والعسكري: يُشكّل الخط بُعدًا لوجستيًا ذا أهمية قصوى في حالات الطوارئ والكوارث، وكذلك في تعزيز استقرار المناطق الحدودية النائية.
- البعد الحضاري والتنموي: إنجاز الخط مجددًا يعكس قدرة العالم الإسلامي على تحقيق مشاريع عابرة للحدود دون الاعتماد على الوصاية الدولية، كما أنه يُعيد الاعتبار لثقافة الوقف والتكافل والربط بين المراكز الإسلامية الكبرى.
ثالثًا: كيف يمكن لسورية أن تستفيد استراتيجيًا من تفعيل الخط؟
في ظل انفتاح الدولة السورية الجديدة على سياسة النقل المستدام والاقتصاد العابر للحدود، يُعد مشروع ربط دمشق بخط حديدي مباشر إلى المدينة المنورة فرصة ذهبية لتحقيق:
- تعزيز السياحة الدينية والتنموية.
- تحفيز الاستثمار في قطاع النقل واللوجستيات.
- ربط الموانئ الداخلية (كسواحل اللاذقية وطرطوس) بمنافذ بحرية في السعودية عبر النقل البري السككي.
- توفير عشرات آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة.
- تحقيق اندماج أقاليمي حقيقي في المنطقة.
رابعًا: تحديات التنفيذ ومسؤوليات الحاضر:
ندرك أن المشروع يواجه تحديات لوجستية وسياسية وأمنية، لكن الإرادة السياسية والرؤية التكاملية كفيلتان بتحقيقه، خاصة إذا جرى:
- تفعيله ضمن منظومة التعاون التركي – السوري – السعودي.
- اعتماد صيغ تمويل تشاركية (وقفية، استثمارية، شعبية).
- الاستفادة من التجارب الدولية في تمويل مشاريع النقل العابر للقارات.
خامسًا: توصيات المكتب الاقتصادي لـِ تيار المستقبل السوري:
- الدعوة إلى عقد قمة ثلاثية (تركية – سورية – سعودية) لبحث سبل إعادة تفعيل الخط، وإدارته ضمن هيئة إقليمية مستقلة.
- اقتراح إنشاء "وقف الحجاز الحديدي" كمشروع وقفي تنموي يضمن ديمومة التشغيل والصيانة والربط.
- دعوة الدول الإسلامية ومجلس التعاون الإسلامي لدعم المشروع ضمن مسار اقتصادي تنموي غير مؤدلج.
- إدراج المشروع ضمن خطة إعمار سورية الجديدة كأولوية في قطاع النقل العابر للحدود.
- تحويل محطات القطار على امتداد الخط إلى مراكز حضارية وثقافية وسياحية تعزز من وعي الأجيال بتاريخ الأمة ومشاريع وحدتها.
خاتمة:
ليس تفعيل خط الحجاز الحديدي حلمًا رومانسيًا من زمن مضى، بل هو حاجة تنموية، سياسية، واستراتيجية تمس وجدان الأمة، وتخدم حاضرها ومستقبلها.
لقد بدأ ذات مرة من فكرة في دمشق وقرار من إسطنبول ليصل إلى المدينة المنورة، واليوم يمكن أن يُبعث من جديد على يد المخلصين، في زمنٍ تبحث فيه الشعوب عن قطارات توصلها لمستقبلها الذي تتمناه لنفسها وللأجيال القادمة.
المكتب الاقتصادي
فريق البحث
قسم البحوث والدراسات
مقال
تيار المستقبل السوري