9- الحديث، وفقه الحديث: د. إحسان بعدراني
الفقه: لفظ قرآني ونبوي في آن واحد، له معنيان، معنى اصطلاحي يُراد به أصول العبادات والمعاملات، ومعنى لغوي يُراد به الشقّ والفتح للمصرور والمغلق من الألفاظ، ليُتوصّل إلى معانيها ومدلولاتها المطلوبة، وإلى فهمها على ما هي عليه في الواقع، لتدفع إلى العمل المبدع من أجل سعادة ونفع الإنسان.
والفقه الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم – كما نراه – هو الفهم والمعرفة التي ترشد العقل، وتقوده إلى السلوك الإنساني السويّ في مجاله التطبيقي على أرض الواقع.
قال صلى الله عليه وسلم: (( رُبَّ حامِلِ فِقهٍ لا فِقْهَ لَهُ، وَرُبَّ حَاملِ فِقْهٍ إلى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ )). [عن جبير بن مطعم وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود].
أي: رُبَّ حامل علمٍ لا فهم له لمراد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكُنْهِ كلامه، ولا تَـمَثُّــلَ له في حياته وواقعه، لِعِلَّةٍ في نفسه تمنعه من الاستفادة من مستودعه ومخزونه، أو لِضعفٍ في عقله ومداركه، أو لجفافٍ في روحه وانطفاءٍ لنور فؤاده، أو لِسيطرةِ التقليد والآبائية عليه، فلا تُرى وُجْهَةُ نَظَرٍ له فيما يحمل من العلم.
وربَّ حامل علمٍ إلى من هو أقدر منه على الفهم، ومعرفة جوهر وكُنْهِ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى نقله للآخرين، بِحُـسْنِ تدّبره وصدق تطبيقه، ووضُوحِ تَمثُّلهِ في سلوكه الواقعي.
وقال صلى الله عليه وسلم: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الفِقْهُ بِالتَّفَقُّهِ، وَمَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرَاً يُفَقِّهْهُ فِيْ الدِّيْنِ، وَإِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ )) [أخرجه العسكري عن أنسٍ مرفوعاً].
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى أن العلم لا يكون إلا بطلبه، والطلبُ لا يكون إلا بمعاناة التحصيل، وهذا العلم لا ينفك عن الفقه، فهو مادته التي منها يجيء الفهم، ولا يعني تحصيل العلم مجرّد التحصيل والاختزان، فتحصيله يحتاج إلى فقه وفهم، ولا يكون العلمُ علماً إلا إذا كان فقهاً وفهماً، ولا يكون الفقه فقهاً إلا إذا كان تمثّلاً وتطبيقاً، ولا يكون التَّمَثُّلُ والتطبيقُ مقبــولاً إلا إذا كــان خالصــاً لله متجــرداً عن الأهواء والشهــوات المحرَّمة، قــال تعـــالى: {مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَاةَ ثُمَّ لَمۡ يَحۡمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ بِئۡسَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ} [الجمعة : 5].
الفقه والفهم قبل تحصيل العلم ومعه وبعده، ثم العمل به موصولاً بغاياته وأهدافه ومراميه، وهي بناء الإنسان فكراً وروحاً، وعملاً وسلوكاً، قال صلى الله عليه وسلم: (( اسْتَوُوْا وَلَا تَخْتَلِفُوا، فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، وَلِيَلِيَنِي مِنْكُم أُولُو الأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)) [أبو مسعود].
ويقول أبو مسعود البدري رضي الله عنه- راوي الحديث – : (( كَانَ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ – أي يسوّي الصفوف بيده – ثم يقول : ( اسْتَوُوْا…) )) ([1]).
ونفهم من الحديث النبوي الشريف أن الصدارة في الصفوف خلف الإمام لا تكون إلا لمن هم من أهل العقل والعلم والفقه والفهم، لأن هؤلاء هم الأقدر على استيعاب ما يُتلى من القرآن الكريم، وأدعى إلى التمثّل والتطبيق، وأولى بأخذ دَور الإمام إذا تخلَّف عن الإمامة أو حَدَثَ له طارئ، في الوقت الذي يتسابق اليوم للصلاة خلف الإمام – على الغالب – وإلى الصف الأول مَنْ هم على خلاف ذلك!
ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: (( لَأَنْ أَجْلِسَ سَاعَةً فَأَفْقَهَ فِي دِيْنِي أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ أُحْيِيَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ )). أي: فأفهم ديني.
ويقول الزهري رضي الله عنه: (( ما عُبِدَ اللهُ بِمِثْلِ الفِقْهِ )) أي: الفهم.
ويقول ابن وهب: (( كُنْتُ عِنْدَ مَالِكٍ قاعداً أَسْأَلُهُ، فَجَمَعْتُ كُتُبِي لِأَقُومَ، فقالَ: أيْنَ تُريدُ؟ قُلتُ: أُبَادِرُ إِلى الصَّلاةِ. قَالَ: لَيْسَ هَذا الَّذي أَنْتَ فِيهِ ( أي العلم ) دُونَ مَا تَذْهَبُ إِلَيْهِ ( أي العبادة ) إِذَا صَحَّ فِيهِ النِّــيَّةُ )).
وقول ابن وهب رضي الله عنه يـذكّرنا بقوله صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيـّاتِ … )) الذي يُعتبر الميزان للأعمال عند الله سبحانه،، من حيث القبول أو الرّفض ومن حيث الثواب أو العقاب ومن حيث الرفع والخفض.
ونقف عند إشارة الإمام مالك رضي الله عنه إلى العلم في قوله لابن وهب: ( ليس هذا الذي أنت فيه – أي العلم – دون ما تذهب إليه – أي العبادة – ) فنقول:
العلم حقيقة محايدة، والزيادة فيه زيادة بالمعارف، وتنويرٌ للمجاهيل والمغيبات، وحُسْنُ إصابةٍ بالظنون، ومعرفةٌ بما كان ويكون لتقدير ما سيكون، والعلمُ صفةٌ من صفات الله سبحانه، تكرر لفظه في أكثر من 800 موضعاً من القرآن الكريم، لكنه حقيقة محايدة بذاتها، هدفُهُ إنتاجُ المعارف. وتسخيره من أجل الإنسان نَفْعاً وسعادةً، وثمرته الازدهار والاستقرار، لكن العلم بحدِّ ذاته لا ينتج خيراً ولا شراً، والإنسان نفسه هو الذي – إن واكبه الإيمان ورافقه العقل وجَانَبَهُ الهوى – يتجه به إلى الخير، وهو الذي – إن افتقر للإيمان وخَالَطَهُ الهوى – يتجه به إلى الشر، هذا العقل للإنسان القائم على ركيزتي العلم والإيمان، هو محور المقصود في الحوار بين الله سبحانه والملائكة، حين توهموا أن الإنسان كخليفة لله في الأرض سوف يفسد فيها ويسفك الدماء، فجاء قوله تعالى: {وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} [البقرة : 30]، موضحاً أن ذلك لن يحصل إن استنار الإنسان بنور العقل والعلم والإيمان وجَانَبَهُ الهوى.
ونكتفي بقولنا: العلوم والمعارف ثلاثة أنواع في ثلاث دوائر:
أولها: دائرة صغرى هي دائرة الأحاسيس ( علم بالمحسوس )، وأدواته الحواس من سمع وبصر وذوق وشم ولمس.
ثانيها: دائرة وسطى هي دائرة العقل والإدراك ( علم بالمعقول )، وأدواته اللب أو القلب أو الفؤاد حسب التعبير القرآني.
ثالثها: دائرة كبرى هي دائرة النبوَّة والرسالة ( علم بالوحي )، وأدواته الكتب السماوية.
يقول عالم الكيمياء جون كليفلاند، على ( ص 166 من كتاب العلم والإيمان ): إن ملاحظة هذا الكون ملاحظة تقوم على الخبرة والذكاء، والتأمل فيما نعرفه عنه من جميع النواحي، سوف يقودنا إلى التسليم بوجود ثلاثة عوالم من الحقائق العلمية، هي: العالم المادي والعالم الفكري والعالم الروحي.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: ( مَنْ أَرادَ الدُّنيا فَعَلَيْهِ بالعلمِ، ومَنْ أرادَ الآخرةَ فَعَليهِ بِالعلمِ، ومَنْ أَرَادَهُما مَعاً فَعَلَيْهِ بالعلمِ ).
وقال صلى الله عليه وسلم: (( لَا تَعَلَّمُوا العِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ العُلَماءَ، وَلا لِتُمَارُوا – أي لِتُجادِلوا – بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلا لِتَحْتَازُوا بِهِ المَجَالِسَ ،فَمَنْ أَرَادَ ذَلِك، فَالنَّارُ النَّارُ )) [ عن جابر بن عبد الله وحذيفة ].
وقال: (( تَنَاصَحُوا فِي العِلْمِ، فَإِنَّ خِيَانَةَ أَحَدِكُمْ في عِلْمِهِ أَشَدُّ مِنْ خِيَانَتِهِ فِي مَالِه )).
وقال: (( إِنَّ نَاسَاً مِنْ أُمَّتِي سَيَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ، يَقْرَؤُون القرآنَ يَقُولونَ نَأْتِي الأمراءَ فَنُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَنَحْتَفِظُ بِدِيْنِنَا .. وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ، فَكَمَا لا يُجْتَنَى مِنَ القَتَادِ إلا الشَّوكُ، كَذَلِكَ لا يُجْتَنَى مِنْ قُرْبِهِم إِلَّا الخَطَايَا )) [ذكره خالد محمد خالد في كتابه (كما تحدّث الرسول) طبعة بيروت – لبنان – 1984].
وفي الحديث الأخير يُجِلُّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم العلمَ والفقه بكتاب الله عن أن يكون طلباً لدنيا يُصيبُها أو زُلْفى لأي سلطان، ويُحَذّر من أن يكون سبباً لارتكاب الخطايا والآثام.