أزمة استملاكات التل إلى العدالة العقارية في سورية

الملخص:

تسلّط هذه الورقة الضوء على قضية استملاك الأراضي في سورية، مستندة إلى الوقفة الاحتجاجية التي نظمها أهالي مدينة التل بريف دمشق في تشرين الأول/أكتوبر 2025، للمطالبة بإلغاء قرارات الاستملاك الصادرة في عهد النظام البائد.

وتنطلق الورقة من هذا الحدث بوصفه نموذجا كاشفا عن أزمة أعمق تتعلق بالملكية والعدالة العقارية في سورية، وتحاول أن تبيّن كيف يمكن لهذه القضية أن تشكّل اختبارا رئيسيا لإرادة الإصلاح في المرحلة الانتقالية.

تعتمد الدراسة منهجاً تحليلياً – نقدياً، وتستند إلى مراجع قانونية واقتصادية وميدانية، لتقترح رؤية عملية لمعالجة هذه الإشكالية ضمن إطار العدالة الانتقالية وإعادة الإعمار.

أولًا، خلفية الحدث ودلالاته:

في 21 تشرين الأول/أكتوبر 2025، أفادت وسائل الإعلام السورية أن أهالي مدينة التل بريف دمشق نظموا وقفة احتجاجية أمام مبنى البلدية مطالبين بـ"إلغاء قرارات الاستملاك التي أصدرها النظام المخلوع وتعويض المتضررين، حيث قدّم الأهالي كتاباً رسمياً إلى محافظ ريف دمشق يطلبون فيه مراجعة قرارات استملاك أراضٍ واسعة في ضاحية الشام والمناطق المحيطة بها، تعود ملكيتها لعائلات محلية قبل عقود.

ومن هنا يبدو أن هذه الحادثة تحمل دلالات عميقة، فهي أول تحرك محلي علني بهذا الحجم بعد سنوات من الركود الاجتماعي والسياسي في ريف دمشق.

وتعبّر عن تحوّل في المزاج العام من الخوف إلى المطالبة القانونية.

كما تكشف عن أزمة ملكية ممتدة تتجاوز التل لتشمل معظم المحافظات السورية، نتيجة عقود من سياسات الاستملاك والمصادرة التي افتقرت إلى العدالة والشفافية.

ثانيًا، الإطار القانوني لقضية الاستملاك في سورية:

  1. القوانين الناظمة:
    تخضع عمليات الاستملاك في سورية للقانون رقم 20 لعام 1983 وتعديلاته، والذي يمنح الدولة سلطة نزع الملكية "للمصلحة العامة" مقابل تعويض "عادل".

لكن التطبيق العملي انحرف عن النص القانوني في عدة جوانب:

  • توسّع مفهوم "المصلحة العامة" ليشمل مشاريع ذات طبيعة تجارية أو استثمارية لصالح جهات أمنية أو شركات مرتبطة بالنظام.
  • تأخر دفع التعويضات أو تقييمها بأسعار زهيدة لا تتناسب مع القيمة السوقية.
  • غياب حق الاعتراض الفعّال، إذ غالبًا ما كانت قرارات الاستملاك تصدر بمرسوم لا يقبل الطعن.
  1. القوانين بعد 2011:
    مع اندلاع الثورة السورية عام 2011م، ظهرت قوانين جديدة زادت من تعقيد المشهد، أبرزها المرسوم 66 لعام 2012 الذي أنشأ منطقتين تنظيميتين في دمشق (بساتين الرازي والمزة)، وتحول لاحقًا إلى نموذج للمصادرة غير العادلة بعد تهجير السكان.
    والقانون رقم 10 لعام 2018 والذي وسّع نطاق المرسوم 66 ليشمل أي منطقة سورية، ومنح السلطات المحلية حق الاستيلاء على الأملاك غير المثبتة خلال مهلة قصيرة.
    هذه القوانين خلقت بيئة قانونية تسهّل مصادرة العقارات تحت غطاء "إعادة الإعمار"، لكنها في الواقع أدت إلى تهجير أصحاب الحقوق التاريخيين، وإعادة توزيع الثروة العقارية لمصلحة النخبة الموالية.

ثالثاً، البعد السياسي والاجتماعي:

  1. الاستملاك كأداة للسيطرة السياسية:
    منذ سبعينيات القرن الماضي، استخدم النظام السوري أدوات الاستملاك والمصادرة لتفكيك البنية الاجتماعية والسيطرة على المدن الكبرى:
    ففي دمشق، نُزعت أراضٍ شاسعة من ملاّكها الأصليين في المزة وكفرسوسة والميدان، وتم تحويلها إلى مشروعات سكنية لصالح النخبة السياسية والعسكرية.
    في حمص وحلب، واستُخدم الاستملاك لتغيير التركيبة السكانية بعد التدمير الواسع، خصوصاً في أحياء بابا عمرو والسكري والصاخور.

وفي ريف دمشق، كانت قرارات الاستملاك مرتبطة بمشروعات "توسيع العاصمة" على حساب الملكيات الريفية، كما حدث في التل وداريا والمعضمية.

  1. الآثار الاجتماعية والاقتصادية:
    تسببت هذه السياسات في:
    إفقار الطبقة الوسطى التي كانت تعتمد على العقار كمصدر للثروة.

فقدان الثقة بالدولة كمؤسسة يفترض أن تحمي الحقوق.

زيادة الهجرة والنزوح نتيجة فقدان المسكن والملكية، ما عمّق الشرخ الاجتماعي.

وعليه، فإن استملاكات التل نموذج مصغّر لأزمة الشرعية في إدارة الموارد والعلاقات بين المواطن والدولة.

رابعًا، البعد الاقتصادي وإعادة الإعمار:

  1. الملكية أساس التنمية:
    الملكية العقارية حق مدني، كما هي عنصر تأسيسي في أي عملية إعادة إعمار، ومن دون تثبيت الحقوق وضمان التعويض العادل، ستبقى مشاريع الإعمار مجرّد أدوات لإعادة إنتاج التهميش، إذ وفق تقرير البنك الدولي (2022)، فإن أكثر من 40% من السوريين فقدوا وثائق ملكيتهم، و16% من الأراضي تغيّرت ملكيتها قسرياً منذ 2011.
  2. أثر غياب العدالة العقارية:
    يبدو أن غياب معالجة قضية الاستملاك يهدد بتدفق الاستثمارات، إذ لن يستثمر أحد في بيئة قانونية غامضة، كما يهدد الاستقرار الاجتماعي، لأن الصراعات حول الملكية تشكّل وقودًا لأي اضطراب مستقبلي، ويهدد أيضاً مبدأ المصالحة الوطنية، حيث ترتبط العدالة العقارية بالعدالة الانتقالية والحق في العودة.

خامسًا، البعد القانوني الدولي:

تخالف كثير من الممارسات السورية زمن العهد البائد معايير القانون الدولي الإنساني، الذي يحظر مصادرة الممتلكات المدنية إلا لضرورة حربية حقيقية، ويشترط التعويض العادل.
كما وأن المادة 17 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تنص على أن "لكل فرد حق التملك، ولا يجوز حرمان أحد من ملكه تعسفا".

وبناءً عليه، فإن إعادة النظر في قرارات الاستملاك القديمة والحديثة استحقاق قانوني وإنساني لا بدّ من تضمينه في أي تسوية انتقالية.

سادساً، مقاربة العدالة الانتقالية:
تعتمد العدالة الانتقالية على أربعة محاور:

  1. كشف الحقيقة.
  2. المحاسبة.
  3. جبر الضرر.
  4. ضمان عدم التكرار.
    وفي الحالة السورية، يمكن تضمين ملف الاستملاكات ضمن "جبر الضرر المادي".
    ويتطلب ذلك تشكيل هيئة وطنية مستقلة للعدالة العقارية تتولى:
  5. جرد جميع قرارات الاستملاك والمصادرة منذ عام 1970.
  6. التحقق من مشروعية القرارات ومدى التزامها بالقانون والدستور.
  7. اقتراح تسويات عادلة، كإلغاء، تعويض، أو إعادة تمليك.
    وهذا النموذج معمول به في تجارب مماثلة مثل جنوب إفريقيا بعد الفصل العنصري (لجنة إعادة الأراضي 1994)، وتشيلي والأرجنتين بعد الديكتاتوريات (برامج التعويض وإعادة الحقوق).

سابعا، نحو سياسة وطنية للملكية في سورية الجديدة:

نعتقد في تيار المستقبل السوري أنه لتحقيق العدالة العقارية، يجب على صناع القرار في المرحلة الانتقالية تبني سياسة وطنية متكاملة للملكية تستند إلى المبادئ الآتية:

  1. الاعتراف بالحق التاريخي في الملكية، فكل مواطن احتُجزت أو استُملكت أرضه دون تعويض عادل، فله الحق في استرجاعها أو التعويض عنها، بغض النظر عن انتمائه أو مكان إقامته.
  2. تجميد جميع قرارات الاستملاك والمصادرة الصادرة منذ 2011 إلى حين مراجعتها من هيئة مستقلة، لضمان عدم ضياع حقوق المهجّرين والنازحين.
  3. إعادة صياغة قانون الاستملاك، بحيث يُعرّف بوضوح "المصلحة العامة" بما لا يسمح باستغلالها سياسياً، ويضمن تعويضاً بقيمة السوق الفعلية، ويتيح حق الاعتراض القضائي الفعّال.
  4. إنشاء سجل وطني موحّد للعقارات بالتعاون مع البلديات والمجتمع المدني، لتوثيق الملكيات القديمة والحديثة إلكترونيا.
  5. اعتماد آلية مصالحة عقارية تشرف عليها هيئة العدالة الانتقالية، وتسمح بالوساطة الطوعية بين الدولة والمواطنين لإعادة الحقوق أو التعويض العادل.

ثامنا، إسقاط القضية على الواقع السوري العام:

إن أزمة استملاكات التل ليست حالة فريدة، بل مرآة لبنية المظلومية العقارية السورية التي تمتد من داريا إلى حلب ومن حمص إلى دير الزور، حيث تشير التقديرات إلى أن نحو 70% من النزاعات المدنية بعد 2011 تتعلق بالأملاك العقارية.
ولذلك فإن معالجة هذه القضية تمثّل اختبارا جوهريا للدولة الجديدة:
هل ستكون دولة تعترف بحقوق الملكية وتعيد الثقة بالمؤسسات؟
أم تعيد إنتاج أدوات السيطرة القديمة بثوب جديد؟

تاسعاً، مقترحات تنفيذية لصنّاع القرار:

  1. تشكيل هيئة وطنية للعدالة العقارية خلال المرحلة الانتقالية تضم قضاة وخبراء قانونيين وممثلين عن المجتمع المدني.
  2. إصدار مرسوم تجميد مؤقت لكل قرارات الاستملاك والمصادرة منذ 2011 لحين مراجعتها.
  3. إعادة تفعيل السجل العقاري المركزي وضمان رقمنته وتحديثه.
  4. إطلاق برنامج وطني للتعويض العادل بتمويل مشترك (محلي ودولي) ضمن إطار إعادة الإعمار.
  5. إشراك منظمات المجتمع المدني والحقوقيين السوريين في رصد الانتهاكات العقارية وجمع الوثائق والأدلة.
  6. تضمين مبدأ العدالة العقارية في الدستور الجديد كأحد ركائز العدالة الاجتماعية.
  7. إدماج ملف الاستملاك ضمن مفاوضات التسوية السياسية الدولية، باعتباره من الملفات المؤجلة ذات البعد الإنساني والاقتصادي.

الخاتمة:

إن ما بدأ كوقفة احتجاجية في مدينة التل قد يتحول إلى نقطة انطلاق لإصلاح وطني شامل في ملف الملكية والعقارات.
فالقضية ليست قانونية فحسب، بل تمسّ جوهر العلاقة بين المواطن والدولة، وتعكس مدى استعداد سورية الجديدة للقطع مع ماضي المصادرة والإكراه.

وهنا، نؤكد في تيار المستقبل السوري أن العدالة العقارية يجب أن تكون ركيزة من ركائز العدالة الانتقالية، وأساسا لإعادة الثقة وبناء السلام الأهلي، وأن أي عملية إعادة إعمار دون حلّ هذه المعضلة ستبقى شكلية، مهددة بالانفجار في أي لحظة.

المراجع:

  1. تلفزيون سوريا، "أهالي التل بريف دمشق يطالبون بإلغاء استملاكات النظام المخلوع وتعويض المتضررين"، 21 تشرين الأول/أكتوبر 2025.
  2. المرسوم التشريعي رقم 20 لعام 1983 (قانون الاستملاك السوري).
  3. المرسوم التشريعي رقم 66 لعام 2012، الجريدة الرسمية السورية.
  4. القانون رقم 10 لعام 2018، الجريدة الرسمية السورية.
  5. البنك الدولي، Syria Damage Assessment Report, 2022.
  6. منظمة العفو الدولية، We Leave or We Die: Forced Displacement and Demolitions in Syria, 2018.
  7. مركز كارنيغي للشرق الأوسط، إعادة الإعمار في سوريا: عدالة مؤجلة، 2021.
  8. تقرير “القدس العربي”، “كيف أخلت قوات النظام أحياء في دمشق لصالح مشاريع استثمارية”، 2024.
  9. United Nations Human Rights Office (OHCHR), Housing, Land and Property Rights in Conflict-Affected Settings, 2023.
  10. لجنة الحقيقة والمصالحة – جنوب إفريقيا، Land Restitution Report, 1999.

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع