يُعدّ التعليم المهني أحد أهم ركائز التنمية في أي مجتمع وهو البوابة التي تربط بين المعرفة والإنتاج، وبين الشباب وسوق العمل، وفي سورية التي أنهكتها سنوات الحرب والاستبداد وما خلفته من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية، تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة النظر في التعليم المهني بوصفه ضرورة وطنية لبناء المستقبل، لا خيارًا ثانويًا أو مخرجًا اضطراريًا، لاسيما وأن هذا التعليم يمنح الشباب المهارات العملية والمعارف التطبيقية التي تؤهلهم ليكونوا منتجين ومساهمين في إعادة إعمار بلدهم وتحقيق استقرار اقتصادي مستدام.
في البداية لابد من الأعتراف بأن التعليم المهني في سورية رغم هذه أهميته الجوهرية يعاني من مشكلات عميقة ومتراكمة حدّت من فاعليته وضعفت مكانته في الوعي العام، مما انعكس سلبًا على قدرته في دعم التنمية البشرية والاقتصادية، وتبدأ هذه الإشكالات من البنية الثقافية والاجتماعية للمجتمع، وتمتد إلى السياسات الحكومية والمناهج التعليمية وبيئة التعليم نفسها.
تبدأ أزمة التعليم المهني في سورية من النظرة الاجتماعية الراسخة التي ما زالت تحطّ من شأن العمل اليدوي والحرفي، فمنذ السنوات الأولى في المدرسة، يُغرس في وعي الطفل أن النجاح الحقيقي يعني أن يصبح دكتورًا أو مهندسًا، وما إن يجلس التلميذ في الصف الأول حتى يُسأل في البيت : ماذا تريد أن تكون عندما تكبر؟ فيجيب تلقائيًا : أريد أن أكون دكتورًا!، وكأن هذا هو الطريق الوحيد إلى الاحترام والنجاح، بل إن بعض المعلمين أنفسهم -بدافع التحفيز- يكتبون على دفاتر التلاميذ المتفوقين عبارة مألوفة: "ثابر يا دكتور "، لكن السؤال المهم أين ذهبت سائر المهن التي تقوم عليها حياة المجتمع؟
لقد تكرّست هذه الثقافة إلى حدّ باتت فيه المهن اليدوية مرادفة للمرتبة الدنيا، أذكر أن أحد الشباب قبل سنوات التحق بكلية الطب البيطري بعد حصوله على مجموع جيد في الثانوية العامة وهي كلية علمية محترمة، لكن أحد أصدقائه من كلية الهندسة الكهربائية بعث له رسالة ساخرة قال فيها: "عندنا بقرة تحتاج إلى ولادة، جهّز نفسك" ، وهذه الدعابة التي قد تبدو بريئة ظاهريًا تختصر مأساة الوعي الاجتماعي الذي يحتقر العمل المهني ويُقصي كل من يختار طريقًا غير أكاديمي، في حين أن المجتمعات المتقدمة لا تقوم إلا على توازنٍ بين الطبيب والعامل، بين المهندس والحرفي، فلكل منهم دوره في بناء الوطن.
وتزداد الصورة قتامة حين ننتقل إلى المناهج الدراسية التي غالبًا ما تُسهم من حيث لا تدري في تعزيز الصور النمطية السلبية، فبدل أن تُقدَّم المهن اليدوية باعتبارها ركيزة اقتصادية أساسية، يتم تناولها في الدروس من زاوية التعاطف والشفقة، فيُطلب من الطلاب أن يتعاطفوا مع عامل النظافة أو العامل البسيط بوصفه ضحية، لا بوصفه مساهمًا في التنمية، ولعل أغلب السوريين يتذكر درس عامل النظافة في المدرسة الابتدائية، هذا الخطاب العاطفي البارد يغفل عن أهمية العمل المهني كقيمة إنسانية وتنموية، ويكرّس في الوقت نفسه مفهومًا دونيًا تجاه المهن.
أما على صعيد السياسات المؤسسية فغياب العدالة في التوظيف والتمييز في الأجور بين خريجي المعاهد المهنية وخريجي الكليات النظرية يمثلان عاملاً مثبطًا إضافيًا، كثيرًا ما يُكلَّف خريجو المعاهد بمهام مماثلة لتلك التي يؤديها خريجو الكليات الهندسية، مع فروقات كبيرة في الأجور والامتيازات، وهذا التمييز يعكس ضعف التقدير الحكومي للمهن التقنية ويؤدي إلى مزيد من العزوف عن التعليم المهني.
ولا يمكن تجاهل العوامل التاريخية والثقافية التي تحكم بيئة التعلم المهني التقليدية، فالتدريب المهني في الورش غالبًا ما يجري في أجواء قاسية تفتقر إلى المعايير التربوية وربما الإنسانية، حيث يُعامل المتدربون بأساليب مهينة على يد من يُعرفون محليًا بـ "المعلّمين"، حيث يُستخدم العقاب الجسدي أو اللفظي بوصفه وسيلة للتأديب والتعليم عبارات مثل "اخلعه خليه يصير معلّم" أو "ما هيك ولك حيوان" وهذه التعبيرات تعبّر عن موروث ثقافي متجذّر في بيئة المهن، يجرّد المتدرّب من كرامته ويجعل المهنة مصدر إهانة لا فخر، ومثل هذه السلوكيات تُضعف ثقة الشباب بأنفسهم، وتنفّرهم من المهن التي يُفترض أن تكون ركيزة بناء المستقبل.
أما من الناحية الاقتصادية فإن تدني الأجور وظروف العمل غير اللائقة يزيد الطين بلة، فالزي المتّسخ الدائم والمعدات البدائية والمردود المالي الضعيف تجعل العاملين في هذه القطاعات يشعرون بالإقصاء الاجتماعي، وتؤدي إلى تكوين صورة نمطية سلبية تجاه المهن اليدوية باعتبارها رموزًا للفقر والتهميش، لا للإنتاج والعطاء.
إن تجاوز هذه التحديات يتطلب إصلاحًا جذريًا في الوعي والمناهج والسياسات، فالمجتمع لا يمكن أن يغيّر نظرته إلى التعليم المهني ما لم تعكس المناهج الدراسية قيمته الحقيقية ودوره التنموي، لأن المناهج هي المرآة التي تتشكل فيها وعي الأجيال القادمة، ولذلك لا بد من مراجعتها بعمق وتحديثها لتواكب حاجات سوق العمل ومتطلبات مرحلة إعادة الإعمار في سوريا الحديثة.
يجب أن تتضمن المناهج الجديدة دروسًا تُبرز دور المهن الحرفية في بناء المجتمع والنهوض بالاقتصاد، وأن تُقدَّم المهن بوصفها مسارًا مشرّفًا ومهمًا في التنمية الوطنية، لا كخيار اضطراري لمن لم يحالفه الحظ في التعليم الأكاديمي، ويمكن تحقيق ذلك عبر تضمين وحدات تعليمية تحكي قصص نجاح حقيقية لحرفيين ساهموا في إعادة إعمار المدن المدمّرة، وعبر أنشطة ميدانية يتعرف فيها الطلاب على بيئات العمل المهني ويشاركون في تدريب تطبيقي بسيط يمنحهم خبرة واقعية وشعورًا بالإنجاز.
كما يجب أن تُحدّث المناهج لتواكب التحولات التكنولوجية الحديثة، فتشمل مجالات مثل البرمجة، والتصميم، والهندسة، والطاقة المتجددة، وإعادة التدوير، وريادة الأعمال، وهي مجالات يمكن أن تفتح آفاق عمل جديدة أمام الشباب، فالتعليم المهني الحديث لم يعد مقتصرًا على النجارة والحدادة، بل أصبح يشمل الصناعات الذكية والخدمات التقنية، ومن المهم أن يتعلّم الطلاب كيف يوظفون مهاراتهم لابتكار حلول عملية لمشكلات مجتمعهم، لا أن يكونوا مجرد منفذين للمهام.
ولتحقيق التوازن المطلوب بين الجانب النظري والجانب التطبيقي، لا بد من الاستفادة من التجربة الألمانية الرائدة في هذا المجال، ففي ألمانيا يخضع الطالب في التعليم العام خلال مساره الدراسي إلى تدريب مهني منتظم، ويُلزم بقضاء فترة تدريب عملي تتراوح بين أسبوع وأسبوعين في إحدى الورش أو الشركات أو المؤسسات التي يختارها، هذه التجربة تمنحه فهمًا مباشرًا لطبيعة العمل وتكسبه مهارات حقيقية تؤهله للانخراط بسلاسة في سوق العمل بعد التخرج، إن مثل هذا النموذج القائم على الدمج بين المدرسة وسوق العمل يعزز جاهزية الطلاب المهنية ويجعلهم أكثر وعيًا بواقع المهنة ومتطلباتها الفعلية.
في الوقت نفسه يُفترض أن تسهم المناهج الدراسية في ترسيخ القيم الإنسانية والاجتماعية التي يقوم عليها العمل المهني كاحترام الجهد اليدوي، والانضباط، وروح الفريق، وتحمل المسؤولية، والالتزام بالأخلاق المهنية، فهذه المبادئ تُشكّل الإطار الأخلاقي الذي يمنح المهنة معناها الإنساني العميق، وتعيد إلى الأذهان مكانتها بوصفها ركيزة في حياة المجتمع لا مجرد وسيلة للرزق، كما أن تضمين التعليم المهني لمهارات التواصل، وإدارة المشروعات الصغيرة، وحل المشكلات بأساليب مبتكرة، من شأنه أن يهيئ جيلًا من المهنيين القادرين على التفكير والإبداع، لا مجرد التنفيذ، إذ أصبح العامل الماهر اليوم فاعلًا اقتصاديًا وفكريًا في آن واحد.
ولأن الإصلاح الحقيقي لا يتحقق بالتعليم وحده، فالدولة مدعوة إلى إرساء سياسات عادلة تُحسّن بيئة العمل وتضمن أجورًا منصفة وحوافز مجزية للمهن الحيوية، خصوصًا في قطاعات البناء والطاقة والتقنية، فحين تتوافر ظروف عمل كريمة وتجهيزات تدريب حديثة وبيئات تعليمية لائقة، ينعكس ذلك مباشرة على نوعية المخرجات، ويمنح المهن صورة إيجابية تُعيد إليها احترامها، وتشجّع الشباب على خوضها بثقة واعتزاز.
إن إصلاح التعليم المهني في سورية الجديدة لا يُعد ترفًا فكريًا ولا خيارًا ثانويًا، لأنه يمثل ضرورة وطنية لبناء مجتمع منتج ومتوازن قادر على مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية ، ومن هنا تطوير المناهج لتتلاءم مع حاجات السوق، وربط التعليم بالتدريب العملي، وتعزيز مكانة العمل المهني في الوعي الجمعي، خطوات أساسية في طريق طويل نحو إعادة بناء الإنسان السوري، لأن التعليم المهني ليس مجرد مسار دراسي محدود الأفق، بل هو رهان حقيقي على المستقبل، واستثمار في كرامة الإنسان قبل أن يكون في الحجر والبنية التحتية، لأن الأوطان تُبنى بسواعد أبنائها، وبالعقول التي تُتقن كما تُفكر، وتعمل كما تُبدع.
المكتب العلمي
الباحثين المستقلين
مقالات
بقلم: صدام فرحان المصطفى