التركيبة السورية صانعة الانقلابات
يرى كورزيو مالابارتي في كتابه «تقنيات الانقلاب» أن مفهوم الانقلاب لا ينطبق فقط على العسكريين والسياسيين، بل يشمل القوى المدنية أيضا، إن الانقلاب عبارة عن سعي سريع للاستيلاء على السلطة، سواء بدفع خارجي، أو بفراغ داخلي، أو كليهما.
في سورية نجد أن الانقلابات بدأت بانقلاب حسني الزعيم في 29 مارس 1949م، ولم يكن يعرف أحد ما هو الانقلاب العسكري بحسب “نذير فنصة” في كتابه “أيام حسني الزعيم”، وقد تولت بموجبه القيادة العسكرية بقيادة حسني الزعيم كلا السلطتين التشريعية والتنفيذية، ثم تولاها هو شخصيًا فيما بعد، كما تولى رئاسة الحكومة التي شكلها وفق مرسوم رئاسي، واحتفظ بحقيبتي الداخلية والدفاع، ثم أجرى في 26 يونيو 1949م، استفتاءً شعبيًا كان الأول من نوعه في الشرق الأوسط، وفاز به بنسبة 99.9%، وعهد برئاسة الحكومة إلى محسن البرازي.
من ثم حدث انقلاب سامي الحناوي في 14 أغسطس 1949م، تولى فيه الزعيم سامي الحناوي السلطة بعد أن نفذ حكم الاعدام بالرئيس حسني الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي.
ثم عهد سامي الحناوي، إلى هاشم الأتاسي بتشكيل الحكومة الجديدة وسلمه الصلاحيات التشريعية والتنفيذية في نفس يوم الانقلاب، وذلك وفق مرسوم أصدره سامي الحناوي، ومن ثم عهد إليه برئاسة الجمهورية بشكل مؤقت ريثما تجرى انتخابات رئاسية وتشريعية حرة.
لم يدم انقلاب سامي الحناوي طويلًا، حتى قام أديب الشيشكلي يوم 19 ديسمبر 1949م بانقلاب جديد، وظل الرئيس هاشم الأتاسي في رئاسة البلاد فيما يعرف بالحكم المزدوج حتى 28 نوفمبر 1951م، حيث نفذ الانقلاب الرابع ليستلم الشيشكلي الحكم مباشرة بعد أن اتهم هاشم الأتاسي وحزبه (حزب الشعب) بالخيانة ومحاولة عودة الملكية للبلاد.
هنا يمكن أن يُقال الكثير عن أسباب الانقلابات العسكرية، حيث يمكن الاستدلال بتفاقم أزمة انعدام الثقة وتبادل الاتهامات بين العسكريين والسياسيين مطلع العام 1949م، إثر إقدام بعض النواب والزعماء السياسيين على انتقاد قيادة الجيش تحت قبة البرلمان، وفي صفحات الجرائد!.
كما يُستدل على ذلك دائماً بما كتبه “هاشم عثمان” في كتابه “تاريخ سورية الحديث” أن تدقيق النظر في الحوادث التي حفَّزت الانقلاب إنما يكشف المُسبِّبَ بوضوح، لأنه ما كان ليقع لولا سوء تصرفات رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع ورئيس الجمهورية نفسه!
إذ استغل هؤلاء مؤامرة فساد الجيش وضخَّموا من حادثة بعض العقود الفاسدة، لا سيما قضية توريد السمن المغشوش إلى الجنود، حيث تفقَّد الرئيس شكري القوَّتلي آنذاك أحد مستودعات الجيش في مارس/آذار 1949م، ووجد سمناً فاسداً مورَّدا إلى الجيش، ولذا اتهم رئيس أركان الجيش “حسني الزعيم” بالفساد والخيانة والتآمر مع ملك الأردن عبد الله الأول.
لكن سورية التي شهدت بين عامي 1949م و1970م، عشرين انقلاباً ما بين ناجح وفاشل، كان فيها من مقومات الانقلاب ما يتجاوز الأسباب المذكورة، وهنا لابد من توضيح أن قراءتنا لواقع الانقلابات السابقة يُظهر لنا أن جميعها قبل تولي حافظ الأسد لم تكن انقلاباتٍ عسكريةً كاملةَ الأركان، فالإنقلابيون لم يعملوا على توحيد الدولة بمؤسساتها ضمن سلطة واحدة كما فعل الأسد!
ففي 8 مارس 1963م، قام ضباط من حزب البعث بقيادة اللجنة العسكرية، بتنفيذ انقلاب أطاح بحكومة الانفصال التي تشكلت بعد انفصال الوحدة مع مصر عام 1961م، حيث بدأ حزب البعث في السيطرة على السلطة في سورية منذ ذلك الحين، ولكن بنفس التمركز السلطوي الغير مكتمل للانقلابات السابقة، ليأتي في 23 فبراير 1966م ويُنفذ الجناح اليساري من حزب البعث انقلابًا أطاح بالقيادة البعثية التقليدية بقيادة أمين الحافظ، حيث تولى صلاح جديد وزملاؤه من اليساريين السيطرة على البلاد، ثم في 13 نوفمبر 1970م، يقود وزير الدفاع حينها حافظ الأسد انقلابًا ضد صلاح جديد القائد الحقيقي للانقلاب حينها وليتم الإطاحة به، وحينها فقط يمكن القول أن حافظ الأسد خلق أول انقلاب عسكري حقيقي أمسك من خلاله بزمام جميع مؤسسات الدولة ضمن سلطة واحدة كان هو رأسها، وقد أحسن محمد أمير ناشر النعم في كتابه الجديد “جورة الهم” وصف طريقة الأسد الأب ببناء انقلابه بالقصر الذي بناه سنمار للقائد البيزنطي، ذاك البناء المتين القائم على حجر واحد إن أُزيل أزيل القصر كله! وكان ذاك الحجر في “سورية الأسد” هو الأسد نفسه، ما سمح له أن يستمر بالحكم حتى بعد وفاته في عام 2000م، فخلفه ابنه بشار الأسد وحسب!
يذكر محمد جمال باروت في دراسته: “الإخفاق في بناء الدولة ونهاية الجمهورية البرلمانية الأولى والأخيرة في سورية” المنشورة في كتاب “الدولة العربية المعاصرة: بحوث نظرية ودراسات حالة” الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عن تلك المرحلة بين 1943م والانقلاب الأول أن الانقلاب أطلق ” ‘رصاصة الرحمة’ على الجمهورية البرلمانية الأولى والأخيرة في تاريخ سورية، ليبدأ تاريخ الدولة التسلُّطية، وقد نجح ليس لكونه انقلاب الجيش كله! بل لأن الجمهورية البرلمانية كانت هشّة بالفعل، واشتملت مسبقًا على عوامل الجنوح كلها إلى التسلطية التي كشفها شعار “الزعيم الرئيس” وابتداع عيد جلوس، وإخفاق الوطنيين السوريين في عملية بناء الدولة، وهشاشة إيمانهم بالجمهورية، واستغلال نخبهم الحاكمة بمقدرات الدولة لمصالحهم الخاصة، وحماية من أثرى على حساب المال العام وتمكينه من الإفلات من العقاب، وإطاحتهم بالحريات العامة، واستخدامهم الجيش في التدخل في النزاعات المدنية والسياسية، وتعظيم المظالم المناطقية، وخرق الدستور أو الدفع إلى تعديله تلبية لشهوة الحكم، وأخيرًا التزوير الفاضح للانتخابات”.
كما أن فتح الباب للجيش أن يلج السياسة والأيدلوجية السياسية لينتقل من كونه جيشاً وطنياً مهمته حفظ الحدود إلى جيش انكشاري ليس له من الحداثة إلا الرسم، ولا من الحماية إلا الاسم!!
ومن هنا يُرجِع عزمي بشارة جذور التسييس وتبني الأيديولوجيات في أوساط الجيش السوري إلى الدورة الأولى من خريجي المدرسة العسكرية في حمص عام 1945م، حيث انتشرت الأفكار اليسارية والقومية في معظم أوساط الجيش لتأخذ في التوسع مع نتائج الهزيمة في حرب 1948م، ومع ولادة أولى حركة الانقلابات العسكرية في البلاد، فقد لعبت الأيديولوجيات والأحزاب الصاعدة كحزب البعث العربي، الذي أسسه ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار عام 1947م، والحزب العربي الاشتراكي الذي أسسه أكرم الحوراني عام 1951م، دوراً مركزيًا في تسييس الجيش عبر خطابات القومية والدفاع عن حقوق العمال والفلاحين والطبقات الكادحة، إذ لقيت هذه الخطابات رواجًا في صفوف العسكريين المتحدرين من أصول فلاحية ولأبناء الطبقات الوسطى في المدينة والريف، في مواجهة الطبقات الحاكمة، التي هي طبقة كبار الملّاك، لتطبيق برنامج الإصلاح الزراعي بالقوة.
ومن الجيد هنا ذكر ما يزعمه عدد غير قليل من كلاسيكيات الدراسات عن سورية، ومنها مؤلفات باتريك سيل وفيليب الخوري، أن السنّة السوريين تمنّعوا عن الانضمام إلى نواة الجيش السوري تلك، وأن القوّة المنتدبة ما أرادتهم هناك أصلاً. ولكنّ عدداً من الدراسات المعاصرة، بحسب ما وجده الباحث اللبناني هشام بوناصيف ومنها أطروحة دكتوراه غير منشورة أنجزها أمين بو نخلة عام 1989م في جامعة يوتاه، شكّكت في ما ذهب إليه سيل وخوري وسواهما، حول مسألة الحضور السنّي في الجيش السوري الناشئ.
بل على العكس فالفرنسيون سعوا فعلاً إلى إدخال العرب السنّة إلى القوّات الخاصّة لأسباب عدّة، منها ما هو متعلّق بالديموغرافيا السنّية الوازنة في سوريا ولبنان، ورغبة بالاستفادة من طاقاتهم، ومنها ما هو سياسي – جيوبوليتيكي مرتبط بخوف الفرنسيين من انعكاس تدهور علاقاتهم مع السنّة في سورية ولبنان سلباً على مناطق نفوذهم في الجزائر وتونس والمغرب.
إذاً إن التركيبة السورية بحد ذاتها هي ما سمح بتمرير الانقلابات العسكرية، ومن غير معالجة تلك التركيبة فسنظل -حتى لو انتهت الأزمة السورية الحالية بتسوية ما أي تسوية- مترددين بين انقلابات متنوعة منقوصة حتى تتوقف عند انقلاب يمتص تكرارها.
من هنا فإننا في المكتب السياسي لتيار المستقبل السوري نُحذر من مغبّةِ إغفال علاج التركيبة السورية بحدّ ذاتها، والتي تعد مغناطيساً قوياً للانقلابات العسكرية وما في حكمها، ونقدم تصورنا الناشئ عن الاستفادة من تجارب الدول التي تخلصت من لعنة الانقلابات العسكرية بعدما ذاقت مرارة طعمه، ولعلنا نرى في تركيا المثال الأكبر بالمنطقة التي كانت تركيبتها مشابهة لحد ما للتركيبة السورية، لكنها استطاعت رويداً رويداً الانتقال نحو تغيير تركيبتها، ما تمثل في فشل الانقلاب الأخير، والذي ما كان له أن يفشل لولا تغيير تلك التركيبة، والتي يمكن تأطيرها بأربعة أطر، ونوصي بتطبيقها في سورية:
1- الانقسام الكبير في صفوف المؤسسة العسكرية التركية، وعدم السماح لطرف واحد بالاستيلاء عليها، ولهذا رأينا من يقف مع الرئيس أردوغان، ومن قام بالانقلاب ضده، وهو ما اتسم به انقلاب فجر يوم السادس عشر من يوليو، فالذين قادوا الانقلاب هم قادة من الدرجة الثانية في صفوف القوات الجوية والبرية، في حين الذين واجهوا الانقلاب كانوا بالدرجة الأولى من القوات التابعة لرئاسة الأركان وقوات الأمن الداخلي والشرطة، وبالتالي فعدم السماح لأي طرف ما بالإمساك بالقوة العسكرية مانع من إنجاح أي انقلاب مستقبلي.
2– قوننة مجال واستطالة المؤسسة العسكرية خلال السنوات الأخيرة كان سبباً في إفشال الانقلاب، حيث تم إبعاد الجيش من داخل المدن، وتسليم مهمة الأمن فيها إلى قوات الشرطة والأمن بعد أن أتبعت قوات الشرطة والأمن إلى وزارة الداخلية خلافاً للمراحل السابقة عندما كانت تلك القوات تابعة لرئاسة الأركان أو وزارة الدفاع، وهذا الإطار بالتحديد هو ما نُشدد على تطبيقه في سورية عند أي تسوية قادمة.
3- لم نرى أو نسمع قوى سياسية أو أحزاب نزلت إلى الشارع لتعلن تأييدها للانقلاب، بل حتى الانقلابيين أنفسهم لم يفصحوا عن برنامجهم السياسي رغم مُضي ساعات على بدء الانقلاب، خلافاً لأردوغان الذي استغل تلك النقطة في دعوة الجماهير للخروج إلى الشارع باسم الحفاظ على الديمقراطية، وهو ما أظهر الانقلابيين وكأنهم مجموعة من المغامرين دون غطاء سياسي أو شعبي، وسرعان ما تمت محاصرتهم كما حدث في جسر البوسفور بإسطنبول، وهذا يُظهر أهمية أن يكون هناك غطاء سياسي قوي بعيد عن التبرير الأيدلوجي للانقلاب العسكري، ووجود اتفاق قاهر لكل القوى السياسية السورية أن ترفض في برامجها وأيدلوجياتها أي اعتراف مباشر أو غير مباشر بأي عملية انقلابية عسكرية، مايضمن سحب الغطاء السياسي من أي تهديد انقلابي مستقبلي.
4- إلى جانب تحرك حكومة حزب العدالة والتنمية ضد الانقلاب، وقفت الأحزاب التركية المعارضة سريعاً ضد ذاك الانقلاب وأعلنت رفضها له، وهو ما ساهم في وحدة الموقف الدولي الرافض للانقلاب، لذا وجدنا سريعاً تحول المواقف الروسية والأمريكية والأوروبية المتحفظة إلى رفض مُطلق للانقلاب وتأييداً للحكومة التركية. وقد انطلقت تلك المواقف من الحرص على الحفاظ على الديمقراطية، وعدم انجرار تركيا إلى حالة من الفوضى والانقسام والدم، خاصةً وأن تركيا دولة أطلسية ومهمة لجميع تلك الأطراف، وبالتالي من الضروري أن يكون هناك توافق سياسي مُنطلقه الإطار الثالث، وهدفه المُجمع عليه مبني على رفض الانقلابات العسكرية وعدم إعطاءها أي مبرر، كما فعل أكرم الحوراني مع أول انقلاب سوري!
وعليه، فإننا في تيار المستقبل السوري نُحذر ونحن على أعتاب تسوية سياسية ما تلمح بأفق منطقتنا، من إعادة إنتاج نفس السردية التاريخية لتكون كما الحاضنة لمرحلة جديدة من الانقلابات العسكرية المتتالية والتي خضنا كسوريين تجربتها المريرة فلفحتنا بنارها واكتوينا بأوارها وبشكل مؤلم.
كما ونوصي تطبيقَ الأطر الاربعة التي استفدنا منها عبر التجربة التركية، وندعو مراكز الدراسات لمزيد دراسة لحالة التركيبة السورية، وقابليتها للانقلابات مهما كان حاملها عسكريا أو مدنياً، وتقديم تصورات تُعالج مواطن الخلل بالتركيبة السورية.
كما ونقدم تصورنا لمن يهمه الأمر أن يكونوا حذرين من أي باب خلفي تعود من خلاله لعنة الانقلابات على سورية، خاصة في هذه المرحلة الدقيقة، والتي قد تمرر مسرحية كذلك للقول بأن سورية تجاوزت حقبة الأسد، بينما تكون استمراراً له مع تبديل بعض الواجهات والأسماء المرتبطة بمنظومته التي أحكم بسط سيطرته عليها في كلّ من سورية ولبنان كذلك.
جمعة محمد لهيب
المكتب السياسي
قسم البحوث والدراسات
مقالات
تيار المستقبل السوري