المكتب الإعلاميرموز وأعلام الدّولة في سورية
رموز وأعلام الدّولة في سورية (8) فخري البارودي
- ولِد فخري البارودي (30 آذار 1887م – 2 أيار 1966م) في حي القنوات بدمشق، والده محمود البارودي من الأعيان، ووالدته من عائلة العَلمي الفلسطينية، وكان والدها مستشاراً في بلاط السلطان عبد العزيز في إسطنبول.
- تزوج من السيدة صفيّة الدالاتي، إحدى قريبات السيدة الأولى بهيرة الدالاتي، حرم الرئيس شكري القوتلي، ولم يُرزق بأولاد.
- كان فخري البارودي الوحيد لأبيه، ولهذا عامله بدلال مُفرط، وقام بتوظيف مربيين ومساعدين وطهاة للسهر على خدمته وراحته.
- دَرس البارودي في المدرسة العازارية في منطقة باب توما ثم في مكتب عنبر، وطَلب من أبيه السفر إلى فرنسا للتخصص بعِلم الزراعة، ولكن محمود البارودي رفض ذلك فهرب البارودي من بيت أبيه في شباط 1911م، والتحق بجامعة مونبلييه الفرنسية.
- أُجبر على العودة إلى دمشق بعد عام واحد فقط بعدما قطع والده المصروف عنه ومنع والدته من تقديم أي مساعدة مادية له.
- بعد العودة من فرنسا عَمل محرراً في جريدة المقتبس قبل أن يؤسس جريدة أسبوعية ساخرة تدعى «حط بالخرج» قام بتحريرها بنفسه باللغة الدمشقية العامية، حيث كان يوقع كل افتتاحياته باسم «عزرائيل» المستعار.
- عند معرفة أبيه بالأمر، أجبره على التخلي عن مشروعه الصحفي، فعمل كاتباً بعدلية دمشق، ثم التحق بالجيش العثماني بصفة متطوع مع أنه كان معفى من خدمة العلم الإلزامية لكونه وحيداً لأمه.
- فرزته القيادة العثمانية العسكرية إلى مدينة بئر السبع الفلسطينية في صحراء النقب، وحارب مع العثمانيين في الحرب العالمية الأولى حيث وقع أسيراً بيد الجيش البريطاني عام 1917.
- سيق مكبلاً إلى مصر وبقي في قبضة الإنكليز حتى نهاية الحرب وسقوط الدولة العثمانية في سورية سنة 1918م.
- عاد البارودي بعدها إلى دمشق وبايع الأمير فيصل بن الحسين، نجل قائد الثورة العربية الكبرى الشريف حسين بن علي، حاكماً عربياً على سورية. خلال زياراته إلى دمشق
- قبل الحرب كان الأمير فيصل يحلّ ضيفاً في دار محمود البارودي في منطقة القنوات، حيث تعرف على فخري البارودي وأحبه، فقام بتعيينه مرافقاً خاصاً له طوال فترة حكمه بدمشق الممتدة من 3 تشرين الأول 1918م، وحتى معركة ميسلون في 24 تموز عام 1920م.
- انتُخب محمود البارودي نائباً عن دمشق في المؤتمر السوري الأول وشارك مع ابنه بمراسيم تتويج الأمير فيصل ملكاً على سورية يوم 8 آذار 1920م.
- بعد الاطاحة بحكم فيصل من قبل الجيش الفرنسي، تطبيقاً لاتفاقية سايكس بيكو الموقعة بين فرنسا وبريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى غادر الملك فيصل إلى مدينة حيفا الفلسطينية ومن ثمّ إلى أوروبا، بحثاً عن عرش جديد له ولأُسرته، وحُكم على فخري البارودي بالإعدام من قبل حكومة الانتداب الفرنسي.
- هرب إلى إمارة شرق الأردن قبل صدور مذكرة اعتقال بحقه وبقي مقيماً في عمّان حتى سنة 1923م.
- بعد سنتين عاد فخري البارودي إلى سورية وانتسب إلى حزب الشعب، أول حزب سياسي سوري ظهر في زمن الاحتلال وكان بقيادة الدكتور عبد الرحمن الشهبندر الذي عرفه البارودي جيداً من خلال عملهما المشترك في بلاط الملك فيصل، عندما كان الشهبندر وزيراً للخارجية.
- شارك البارودي في الثورة السورية الكبرى مع قائدها العام سلطان باشا الأطرش، فحُكم عليه بالإعدام مجدداً، وهرب مرة ثانية إلى عمّان ومكث فيها قرابة العامين.
- ضاق عيش البارودي في منفاه الأردني، وقلّت موارده المالية المرسلة شهرياً من أهله في دمشق، فقام بفتح مطعم للمثقفين في العاصمة الأردنية، سماه «الندوة» يُقدم فيه السندويش والمرطبات، مع ذلك بقيت الهموم المادية تحاصر البارودي من كل حدب وصوب، فلجأ إلى عمل جديد واتفق مع صديقه الشاعر الفلسطيني ابراهيم طوقان، مدير قسم اللغة العربية في الإذاعة البريطانية، على تقديم سلسلة حلقات توعية للأطفال العرب لتشجيعهم على المواطنة الصالحة ومكافحة الاستعمار عبر الثقافة والقلم بدلاً من البندقية.
- قطعت سلطة الانتداب الفرنسي التيار الكهربائي عن مدينة دمشق يوم موعد البث، لمنع صوت البارودي من الوصول إلى أهله عبر الأثير، خوفاً من تأثيره على الشباب السوري، ثم ضغطت على الإذاعة البريطانية لكي توقف البرنامج.
- في آخر مراحل اليأس، قرر البارودي التطوع في الجيش العراقي، كونه كان مرافقاً سابقاً لملك فيصل الأول، الذي تولى عرش بغداد بعد خلعه عن عرش سورية، ولكن الحكومة العراقية رفضت المقترح لأن البارودي لم يكن يحمل الجنسية العراقية.
- بعد عودته إلى دمشق انضمّ فخري البارودي إلى الكتلة الوطنية، التنظيم السياسي الأبرز الذي ظهر في سورية لمحاربة الانتداب الفرنسي بطرق سلمية لا عسكرية، وانتخب نائباً عن مدينته في المؤتمر التأسيسي المكلّف بصياغة أول دستور جمهوري في البلاد.
- أُعيد انتخابه نائباً عن دمشق في كافة الدورات التشريعية من عام 1928م وحتى 1943م وفاز بأغلبية مطلقة في كل دورة، نظراً لشعبيته الكبيرة بين أوساط الشباب والمثقفين.
- رفض البارودي تسلّم أي منصب حكومي طوال حياته بالرغم من الوزارات المتنوعة التي عُرضت عليه في عهد هاشم الأتاسي (1936م-1939م) وعهد الرئيس شكري القوتلي (1943م-1949م)، وفضّل البقاء نائباً تحت قبة البرلمان السوري، مدافعاً عن حقوق الفقراء والمساكين والمبدعين والوطنيين الأحرار.
- تولى البارودي معارضة حكم الشيخ تاج الدين الحسني المحسوب على سلطة الانتداب والذي كان قد عُيّن رئيساً للوزراء سنة 1928م.
- عندما عاد الشيخ تاج إلى الحكم سنة 1934م وحاول تمرير اتفاقية صداقة مع الحكومة الفرنسية لإضفاء شرعية على الانتداب الفرنسي، أعلن فخري البارودي رفضه للمشروع قائلاً: «لن تمر اتفاقية الصداقة مع فرنسا حتى لو نصبوا 70 مدفعاً على أسوار دمشق!».
- بعد وفاة زعيم حلب إبراهيم هنانو في تشرين الثاني 1935م شارك فخري البارودي في جنازته، التي تحولت إلى مظاهرة شعبية ضد الاحتلال الفرنسي، والتي قادها البارودي ورفاقه في الكتلة الوطنية.
- اعتبرت فرنسا البارودي المحرض الأول ضدها وأمرت باعتقاله في 20 كانون الثاني 1936م، مما أشعل الإضراب الستيني في طول البلاد وعرضها، الذي طالب بإطلاق سراح المعتقلين والاعتراف بالمطالب المُحقة للشعب السوري.
- جرت مفاوضات في مقر المفوضية الفرنسية العليا في بيروت، بين رئيس الكتلة هاشم الأتاسي والمندوب السامي هنري دو مارتيل، أدت إلى إنهاء الإضراب وصدور قرار العفو عن كافة المعتقلين السياسيين، وعلى رأسهم فخري البارودي.
- في عام 1934م أسس فخري البارودي أول مركز دراسات وأبحاث عرفه العالم العربي يدعى «مكتب البارودي للدعاية والنشر،» هدفه الرئيسي تأمين قاعدة إعلامية وفكرية للحركة الوطنية السورية.
- قام باستئجار ركن من أركان مكتب الكتلة الوطنية القريب من داره في حي القنوات، معلناً انطلاق «ثورة فكرية» في سورية، قوامها البحث العلمي والنشر، ونسف الحدود المصطنعة التي فُرضت في المشرق العربي (أي حدود اتفاقية سايكس بيكو) إضافة لنبذ الطائفية والعشائرية والقبلية.
- اشترى مطبعة خاصة لطباعة الدوريات والدراسات الصادرة عن مكتبه وقام بتوزيعها مجاناً على الجامعات والجوامع والكنائس ودور العبادة اليهودية، إضافة إلى كبرى الصحف العربية وكافة مؤسسات الدولة السورية.
- تراوحت المواضيع التي كتب عنها البارودي بين إجرام العصابات الصهيونية في فلسطين، مروراً بحق تقرير المصير لشعوب العالم الثالث وصولاً إلى قضية لواء اسكندرون، المنطقة السورية التي تم سلخها وضمّها إلى تركيا عام 1939م.
- تعاقد مع نخبة من الشباب المثقف لإدارة مكتبه والإشراف على أبحاثه، من أمثال الدكتور ناظم القدسي، القانوني الشاب العائد حديثاً من جامعة جنيف، والدكتور فريد زين الدين، خريج الجامعة الأميركية في بيروت الذي أصبح سفيراً لسورية في كلّ من واشنطن وموسكو. وقد ضمّ مكتب البارودي بين صفوفه أيضاً المحامي ادمون رباط، الذي شارك في مفاوضات عام 1936م، والمحامي أحمد السمان، خريج جامعة السوربون الذي أصبح رئيساً لجامعة دمشق أيام الوحدة مع مصر، والصحفي منير الريّس، صاحب جريدة بردى، والدكتور قسطنطين زريق، أحد أبرز منظري القومية العربية الذي أصبح رئيساً لجامعة دمشق والجامعة الأميركية في بيروت. أما من الشباب العرب فقد تعاقد البارودي مع أكرم زعيتر من فلسطين، الذي أصبح لاحقاً سفيراً لبلاده في جامعة الدول العربية، وكاظم الصلح من لبنان مؤسس حزب النداء القومي. شكل هؤلاء الشباب الهيئة العامة لمكتب البارودي وقاموا بانتخابه رئيساً لهم لمدة خمس سنوات.
- إضافة للأبحاث العلمية، وظّف البارودي عدة مصوريين شباب داخل فلسطين لالتقاط صور فوتوغرافية عن تجاوزات العصابات اليهودية ضد السكان العرب ومصادرتهم للاراضي والاملاك. كان البارودي يجمع تلك الصور في دمشق ثم يقوم بإرسالها إلى إلى كبرى الصحف الأميركية والبريطانية مطالباً بنشرها، مرفقة برسالة رسمية تحمل عبارة: «مع تحيات مكتب البارودي.»
- أسس غرفة خاصة للحفاظ على الخرائط السورية، قبل وبعد ترسيم الحدود عند انهيار الدولة العثمانية، وغرفة أخرى لحفظ أوراق ملكية الأراضي الفلسطينية، المدرجة ضمن مطامع الوكالة اليهودية.
- في مطلع كلّ الصيف وبعد تخرج الطلاب السنوي من جامعة دمشق كان فخري البارودي يقيم حفل إستقبال رسمي في داره، يجمع بين الخريجين الجدد وأصحاب المصانع والشركات الكبرى في سورية، وكان الطالب المتخرج يدخل مرتدياً وردة على عروة معطفه، في إشاره أنه يبحث عن عمل، ويتغلغل بين أصحاب المعامل ليُعرف عن نفسه واختصاصه. وبذلك يكون فخري البارودي صاحب أول مكتب «توظيف» في العالم العربي، يقدم خدمات مجانية للطلبة.
- قام بتوزيع العمل في مكتبه على ثلاث لجان، الأولى اقتصادية، تُعنى بدراسات الصناعة والتجارة والتعاريف الجمركية والنقل، والثانية ثقافية، تهتم بالفنون والتمثيل وتشجيع المواهب الشابة والرياضة والغناء والعزف، والثالثة سياسية، هدفها الحوكمة والدستور والحياة الحزبية والنيابية.
- كما قام البارودي بإجاد غرف للدراسات المحددة بحسب المناطق الجغرافية: شمال افريقيا، فلسطين، سورية ولبنان، الحجاز، العراق، أوروبا، والأميريكيتين.
- لتوفير المعلومات للباحثين الشباب قام البارودي بانشاء مكتبة ضخمة واشترك بعدة صحف عالمية ومحلية: 24 من لبنان، 17 من دمشق، 9 من البرازيل، 8 من بغداد، 7 من حلب، 5 من القاهرة، اثنان من اللاذقية وطرابلس، وواحدة من كل من انطاكيا وزحلة وحمص ورغرتا والقدس ويافا والموصل وعمّان وليبيا والجزائر واليونان وايطاليا وتشيلي.
- أما عن تمويل مكتب البارودي فقد كان عبر طريق الاشتراكات بالدوريات وتبرعات الأعيان والمؤسسات السورية، إضافة للبارودي نفسه الذي دعم المكتب الذي حمل قاسمه بملغ قدره 40 الف قرش، والفائض من المال كان يٌدفع على الهدايا، مثل سيف دمشقي قُدّم لقائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش، وعلم سوري من الحرير الدمشقي قُدّم إلى هاشم الاتاسي عند انتخابه رئيساً للجمهورية سنة 1936م.
- أيضا قام مكتب البارودي بطباعة كتاب عن مؤتمر بلودان، وكتيّب حمل اسم «دليل الشرطي» لفخري البارودي نفسه، يحتوي على ارشادات لرجال الأمن والشرطة عن كيفية التعامل مع المواطنين، وتعليمات مصورة متعلقة بكافة تفاصيل مهنتهم، من لمعة الحذاء وصولاً إلى كيفية وضع المسدس على الخصر.
- أخيراَ قام المكتب بنشر دراسة بعنوان «كارثة فلسطين» بقلم البارودي، وترجمة لمذكرات ادولف هتلر من اللغة الالمانية، حمل عنوان “كفاحي”
- ارتبط اسمه بمشروع الفرنك الذي ظهر في الثلاثينيات ومشروع «صُنع في سورية.» ففي مشروعه الأول كان البارودي يطلب من كل مواطن التبرع بفرنك سوري واحد شهرياً لجمع مبلغ ثابت ومحترم بشكل دوري يخصص لمشروع نفعي للعموم كترميم جسر مثلاً أو تزفيت طريق أو شراء مواد تعليم مدرسة نائية.
- رفض البارودي تقبل تبرعات تزيد عن فرنك سوري واحد، وكان يقول دوماً: «هذا المشروع من الفقراء يبدأ وإلى الفقراء يعود، أريد ديمومة التبرع الشهري ولا أبحث عن أرقام كبيرة من الأفراد، الكل يستطيع التبرع بفرنك سوري واحد، غنياً كان أم فقيراً. أريد اشراك الفقراء في نهضة الأمة السورية، ولا أريد لتبرعات الأغنياء أن تطفو على تبرعات الطبقة الوسطى وتبرعات المحتاجيين أنفسهم»
- كان البارودي يروّج لمشروع الفرنك بنفسه بطباعة صور له حاملاً فرنك سوري كبير، يقوم بتوزيعها على الصحف والمجلات السورية، ولكن بسبب النجاح الباهر الذي لاقاه «مشروع الفرنك» منعته فرنسا من الاستمرار، وانتهى مع نهاية عام 1939م.
- أما مشروعه الثاني «صنع في سورية» فكان يهدف إلى تشجيع ودعم الصناعة الوطنية، بدأه البارودي بوضع «الميثاق الاقتصادي» ووزّعه على تجار دمشق طالباً من الجميع أن يعتبروه نبراساً في عملهم التجاري.
- الميثاق كان يطلب من التجار عدم استيراد ما هو موجود في الأسواق المحلية ويشجع الناس على شرائه من مزروعات وأجبان وقطنيات وملابس.
- كان يجول على أسواق العاصمة ويخاطب الناس بنفسه قائلاً: «الجهاد لا يكون بحمل السلاح فقط، الجهاد الاجتماعي والثقافي والاقتصادي لا يقل قداسة في محاربة العدو»
- في عام 1938م، سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتسجيل الشركات والمصانع السورية في معرض نيويورك العالمي.
- أسس مع المحامي أحمد عزت الأستاذ النادي الموسيقي الشرقي، الذي تحول بعد الجلاء إلى «المعهد الموسيقي» وكان مقره في سوق ساروجا الأثري، خارج أسوار مدينة دمشق القديمة.
- تعاقد مع أستاذة من النمسا لتدريس العزف على البيانو والكمان، وجاء بالمحامي نجاة قصاب حسن لإدارة المشروع، ومعه عدد من الخبراء مثل يحيى السعودي، مدرس نظريات الموسيقى الشرقية، ويوسف البتروني لمادة الموسيقى الغربية، وصالح المحبك للموشحات، حسن الدركزلي للصولفيج، وسعيد فرحات للإيقاع، ومحمد النحاس للعزف على العود.
- حصل على دعم مالي من الحكومة أيام الرئيس شكري القوتلي، ولكن هذا البند من الموازنة العامة شُطب في نهاية صيف عام 1949م، عندما تسلّم مؤسس حزب البعث ميشيل عفلق وزارة المعارف السورية، الذي رأى فيه إسرافاً ونفقات غير مجدية.
- كتب البارودي لعفلق معاتباً:
إن الجلاء من نواب قومي
عصوا قولي وما فهموا مرادي
بإنشاء معهد للفن يحيي
تراث جدودنا بين العباد
ولكن أيُّ عذر ليت شعري
لأهل العلم أرباب السداد
إذ ظلوا كغيرهم حيارى
وما عملوا لإصلاح الفساد
فويل للوزارة مع ذويها
وويل للمعارف والبلاد. - كانت علاقة فخري البارودي بالفن تعود إلى زمن أبيه محمود البارودي، الذي كان يجمع الموسيقيين في قصره، أمثال عازف القانون عمر الجراح وشقيقه عازف العود إبراهيم الجراح، كرر البارودي التجربة بعد سنوات، عبر تبنّيه الفنان الكوميدي عبد اللطيف فتحي في الأربعينات، الذي شجعه البارودي على استبدال اللهجة المصرية أو الفصحى السائدة في المسرح يومها باللهجة الدمشقية المحكية. ودعم مجموعة من الفنانين الشباب منهم رياض شحرور وسعد الدين بقدونس ونهاد قلعي، الذي تأثر بفخري الباردوي لدرجه أنه استعار نبرة صوته «السوبرانو» في تجسيد شخصية «حسني البورظان» في أعمال الأبيض والأسود مع دريد لحام في التلفزيون السوري.
- إضافة لذلك قام البارودي بدعم المونولوجيست الموهوب سلامة الأغواني والفنان فهد كعيكاتي ومطرب القدود والموشحات صباح أبو قوس والذي تبناه لما رأى من موهبته وجاء بأهم أساتذة الموسيقى الشرقية لتعليمه فنّ الغناء، وأدخله إلى إذاعة دمشق مطرباً مُحترفاً، ودعاه للغناء أمام الرئيس شكري القوتلي بعدما أطلق عليه اسماً فنياً مستوحى من اسم البارودي نفسه ليصبح الفتى الحلبي يعرف باسم «صباح فخري» من يومها.
- ما بين 1943-1963م، تحول منزل فخري البارودي في القنوات إلى محج لكافة الفنانين والمثقفين العرب، تزوره أم كلثوم كلما زارت دمشق ويأتيه محمد عبد الوهاب وأحمد شوقي. وفي أرض دياره الوسيعة كانت تدور نقاشات في السياسة والأمور الفكرية بكل أنواعها. وكانت تلك السهرات البارودية من المحطات الرئيسية لكل مثقف عربي يزور سورية من الثلاثينيات وحتى منتصف الستينيات.
- أُجبر البارودي على بيع الدار التي ورثها عن أبيه، وذلك لتراكم الديون من حوله، فتحول المنزل إلى مطبعة للصحفي السوري وجيه بيضون، وانتقل البارودي إلى منزل متواضع في منطقة كيوان، الذي أُحرق بالكامل سنة 1963.
- أسس مع المحامي منير العجلاني ما عرف يومها بالشباب الوطني، وهو الذراع شبه العسكري للكتلة الوطنية، الذي أراده البارودي أن يكون نواة الجيش السوري في المستقبل.
- تطورت الفكرة عام 1936م ليتحول التنظيم من الشباب الوطني إلى «القمصان الحديدة» المستوحاة من القمصان البنية في إيطاليا والسوداء في ألمانيا النازية.
- في النسخة السورية من تلك التنظيمات، ارتدى الفتيان ربطة عنق سوداء وقميصاً حديدياً اللون مع جزمات عسكرية وقبّعة فيصلية، تُشبه تلك التي كان يرتديها الملك فيصل الأول وضباطه خلال الثورة العربية الكبرى، ووضع شباب «القمصان» على أذرعتهم اليمنى ربطةً حمراء شبيهةً بربطة رجال هتلر، ولكن بدلاً من الصليب المعكوف، وضع عليها السوريون صورة يد تحمل شُعلةً من نور.
- بمشيتهم العسكرية المنتظمة وتحيّتهم النازية عبر مدّ اليد اليمنى إلى الأمام، بشكلٍ مشدود ومُنتصب، كانوا يجولون في شوارع دمشق لحماية الأهالي من أي مكروه ويحافظون على أمن المدينة وتُراثها وهويتها الحضارية، مُعتبرين أنفسهم رديفاً للجيش السوري المنحل منذ عام 1920م.
- وعد مؤسسو «القمصان الحديدية» بتأسيس «جيل ثلاثي الأبعاد» مثل رجال عصر النهضة في أوروبا، يُتقن الشعر والسياسة والأدب والرياضيات والعلوم الحديثة، ومعها الفروسية وقتال الشوارع.
- نظراً إلى كثرة التشابهات بين القمصان الحديدية والحزب النازي، قيل إنّ ذاك التنظيم هو أحد أذرع هتلر في سورية فقامت السلطات الفرنسية بحلِّه ومُصادرة جميع مكاتبه وممتلكاته.
- عندما قصف الجيش الفرنسي العاصمة السورية دمشق يوم 29 ايار 1945م، وضربوا البرلمان السوري بالقنابل في محاولة اغتيال رئيس المجلس سعد الله الجابري ورئيس الجمهورية شكري القوتلي، نزل البارودي إلى الشارع مرتدياً لباس القمصان الحديدية وحمل السلاح مع عناصر الدرك والمتطوعين في محاولة لإنقاذ سجناء قلعة دمشق، حيث أصيب بشظية في رقبته، كما قام بنقل الجرحى والمصابين إلى المستشفى الإنكليزي في حي القصّاع، وأحضر شمعاً من الكنائس لمداواتهم، بعدما قطعت فرنسا التيار الكهربائي عن دمشق.
- كرّمته الحكومة السورية بوسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة وبرتبة فخرية في الجيش السوري الوليد بعد الاستقلال.
- لم يفرق البارودي بين حاكم وآخر بالرغم من صداقته وزمالته الطويلة مع رجالات الكتلة الوطنية، واعتبر أنه يعمل من أجل الدولة السورية وليس مع أفراد، ولم ينقطع عن المشهد العام بعد وصول العسكر إلى الحكم مع انقلاب الزعيم حسني الزعيم عام 1949م، الذي أطاح بالرئيس شكري القوتلي، الصديق القديم لفخري البارودي.
- عينه حسني الزعيم مديراً لمكتب الدعاية في الجيش السوري حيث تعاقد البارودي مع المخرج الشاب إسماعيل انزور لإنتاج أفلام وثائقية عن الجيش وقدراته القتالية، كانت تُعرض بأمر منه في صالات السينما السورية خلال حرب فلسطين.
- في عام 1956م عمل في لجنة «أسبوع التسلح» لجمع المال لصالح المؤسسة العسكرية، مع نقيب الصحفيين نصوح بابيل ومفتي سورية الدكتور ابو اليسر عابدين، وقاموا بجمع مبلغ 25 مليون ليرة سورية من الأهالي، قُدمت للجيش السوري.
- من مآخذ رجال الدين على فخري البارودي أنه وضع كتاباً في شبابه، بعنوان «فصل الخطاب بين السفور والحجاب» دافع من خلاله عن سفور النساء.
- في عام 1951م، حصلت مواجهة بين البارودي وقاضي دمشق الممتاز الشيخ علي الطنطاوي حول رقصة السماح، التي كان البارودي ينوي إحياءها، بعدما كانت في زمنٍ مضى حكراً فقط على المشايخ والمتصوفين، حيث قرر البارودي، تبني تلك الرقصة وتعليمها طالبات مدرسة دوحة الأدب، حيث كانت تدرس صفوة بنات الأسر الدمشقيّة، إذ رأى البارودي أن تلك الرقصة الأندلسية سوف تندثر وتموت إن بقيت محصورة في عالم المشايخ، فقرر عصرنتها بالتعاون مع عادلة بيهم الجزائري، رئيسة الاتحاد النسائي ومؤسسة مدرسة دوحة الأدب.
- قام بإحضار الشيخ عمر البطش من حلب، حافظ الموشحات وأكبر مرجع في الغناء القديم، ليقوم بتدريب الفتيات على الغناء، وفصّل لهن ثياباً من الحرير زاهي اللون ليظهرن بها على خشبة مسرح قصر العظم، ويقدمن حفلاً راقصاً، بحضور رئيس الوزراء خالد العظم والعقيد أديب الشيشكلي، حاكم سورية العسكري.
- عدّل البارودي على كلمات الموشحات، فبدلاً من التضرع والدعاء أدخل عليها عبارات العشق والغرام.
- رغم الخلاف اعترف الشيخ علي الطنطاوي في مذكراته بمكانة البارودي الاجتماعية والسياسية، وبأنه كان من شيوخ النضال ضد المستعمر.
- بعد خطبة الطنطاوي التي كانت منقولة على أثير الاذاعة شُنت حملة شعواء ضد الطنطاوي في معظم الصحف الموالية للبارودي، ترأستها جريدة «النضال» التابعة لوزير الداخلية سامي كبارة، والتي طالبت بإحالة الطنطاوي إلى القضاء. ثم نُقل النقاش إلى داخل المجلس النيابي، وأول المدافعين عن موقف علي الطنطاوي كان الوزير محمد مبارك، نائب الإخوان المسلمين.
- نتيجةُ الجلسة البرلمانية جاءت لصالح البارودي وعُدّ الطنطاوي مذنباً ومداناً بالتحريض ضد الدولة وحُكم عليه بغرامة مادية وهي حسم عُشر راتبه لمدة شهرين.
- بعد الوحدة مع مصر وصدور قانون الإصلاح الزراعي في أيلول 1958م، بعد سبعة أشهر من قيام الجمهورية العربية المتحدة. تجرّأ البارودي وكتب رسالة مفتوحة إلى جمال عبد الناصر معارضا القانون، فقام نائب رئيس الجمهورية أكرم الحوراني، بإرسال إنذار إليه عبر محافظة دمشق يطالبه فيه بإخلاء داره الكائنة في منطقة كيوان، بحُجة أن البلدية تنوي شق طريق في مكانه.
- جاء انقلاب الانفصال قبل تنفيذ أكرم الحوراني مخططه، وبقي البارودي في داره حتى صيف عام 1963م، عندما أُجبر على المغادرة بعد إحراق المنزل خلال المواجهات الدامية بين البعثيين والناصريين على مدخل مبنى التلفزيون في ساحة الأمويين.
- لم يُصب البارودي بأذى يومها لأنه كان خارج المنزل، ولكن مكتبته النفيسة ضاعت وضاعت معها معظم أوراقه ومذكراته المكتوبة بخط اليد.
- استأجر بعدها شقة صغيرة في حيّ ركن الدين على سفح جبل قاسيون، وبقي فيها حيث توفي يوم 2 أيار 1968م.
- ترك البارودي عدداً من المؤلفات، من بينها: «فصل الخطاب بين السفور والحجاب» (دمشق 1934م)، «مذكرة شرطي» (دمشق 1938م)، «كارثة فلسطين» (دمشق 1950م)، “مذكرات البارودي: ستون سنة تتكلم (بيروت 1951)م، «الصلح مع إسرائيل» (دمشق 1957م)، «تاريخ يتكلم» (دمشق 1960م)، وكان آخر آخر مؤلفاته إعادة نشر كتاب الطبخ لمحمد حسن بن محمد البغدادي، الذي ذيّله بكتاب صغير عن المطبخ الشامي، صدر عام 1964م.
- ضع معجماً عن الموسيقى الشرقية، أُحرق في حريق داره عام 1963م.
- نال أول وسام في حياته أيام الحرب العالمية الأولى، عندما قلدته الدولة العثمانية الوسام الحديدي العثماني، تلاه وسام الاستقلال ووسام النهضة العربية، وكلاهما مُقدم من قبل الملك فيصل الأول عام 1920م، وفي عام 1948م حصل على وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة، الذي قلّده إياه الرئيس شكري القوتلي، وجاء بعده وسام الاستحقاق اللبناني، المقدم من الرئيس بشارة الخوري سنة 1949م.
- خرجت لوفاته جنازة شعبية ورسمية تجمهر أهالي دمشق فيها أمام جامع بدر في حي أبو رمانة في انتظار قدوم الموكب من دار شقيقه في منطقة المهاجرين، حتى قيل أنه ما من دمشقي حينها إلا وحضر في وداعه.
- عُرف بألقاب عديدة منها: سيّد الظرفاء وشيخ شباب سورية.
- ظهر الموكب من بعيد والنعش ملفوف بالعلم السوري ومرفوع على أكتاف الرجال وهم يهتفون: «لا إله إلا الله…فخري بك حبيب الله»
- بعد الصلاة سار الموكب برفقة الشرطة والدرك إلى القصر العدلي وهنا جاءت مجموعة من الشباب ليخطفوا النعش ويسيروا به إلى سوق البزورية فسوق مدحت باشا ثم إلى سوق الحميدية، في عراضة شعبية أغلقت خلالها كلّ الأسواق والمتاجر حتى وصول الجثمان إلى الجامع الأموي.
- دفن في مقبرة الباب الصغير.
إننا في تيار المستقبل السوري، إذ نستذكر ذكرى رجالات الدولة المؤسسين لسورية، نستحضر أحد رجالات سورية المؤثرين، وواحداً من رموز أعلام الدولة السورية الأولى الذين ساهموا بالتأثير في بنيتها، سيّد الظرفاء وشيخ شباب سورية “فخري البارودي”، ضمن ملف متسلسلٍ نقدمه لكم ليضمُّ رموز وأعلام الدولة السورية، رغبةً منا بربط حاضرنا الثوري المعاصر بماضٍ صلبٍ ومحطاتٍ تاريخية، رجاء أن نُحيِيَ في شعبنا الحاجة لبناء وصناعة رجال دولةٍ بامتياز، ليتعلم التعلم من تجاربهم والاستفادة من سلبياتهم، والبناء على ايجابياتهم، فيحفظوا الوطن، ويصونوا المكتسبات، ويعيدون للدولة السورية عزّها ومجدها، بعد سنوات الظلم والاستبداد والفساد.