مابعد التصعيد الاسرائيلي ومستقبل سورية
كما هو معلوم فإن لإسرائيل عقيدة أمنية وطنية رسمية مكتوبة منذ عهد أول رئيس وزراء لها “دافيد بن غوريون”، وقد تمت محاولة لوضع عقيدة مماثلة بين العامين 2004 و2007 (“لجنة مريدور”)، ولكن لم يتمّ عرضها للحصول على موافقة الحكومة الإسرائيلية، إلى أن جاءت سنة ٢٠١٥م في 13 آب/أغسطس، حيث نشر “جيش الدفاع الإسرائيلي” (قوات الدفاع الإسرائيلية) وثيقة من 33 صفحة بعنوان “استراتيجية «قوات الدفاع الإسرائيلية»”، وهي عبارة عن نسخة أقصر وغير سرية من وثيقة شاملة صُمّمت لتكون الإطار المفاهيمي للخطة الخمسية الجديدة لـ “جيش الدفاع الإسرائيلي” – المعروفة باسم “جدعون”.
حتى وضع رئيس أركان الجيش الإسرائيلي “أفيف كوخافي” في يونيو ٢٠٢٠م خطة عمل عسكرية لـ الخمس سنوات القادمة، ستحل مكان خطة “جدعون”، وقد سُميت تلك بخطة “تْنوفاه” (القوة الدافعة)، التي وضعها رئيس الأركان “أفيف كوخافي” في شهر يونيو 2019، لتحل محل خطة جدعون من بداية 2020 لمدة 5 سنوات، وتتضمن دمج القوات والتقنيات في الجيش، حيث تم انشاء وحدة تضم الاستخبارات العسكرية، والقوات الجوية، والقيادات الإقليمية الثلاثة، اضافة الى التركيز على الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة في تحديد الاهداف المحتملة للضربات العسكرية، مع انترنت داخلي يربط جميع فروع الجيش لتبادل المعلومات، لتنتقل الخطة للتركيز على القوات البرية (المشاه، والدبابات، والمدفعية).
كما وتُركز على تعزيز فاعلية الجيش بسرعة ما يشار إليه بعملية “الفتك”، ليس فقط بمعنى إبادة العدو عسكرياً وإنما استهداف المدنيين في أي معركة قادمة، كما وتؤشر خطة “تْنوفاه” إلى شكل المعركة الحالية في غزة ولبنان، إذ سوف تستخدم إسرائيل -كما هو مخطط قبل خمس سنوات- القوة العسكرية وكثافة نارية غير مسبوقة، لإحداث دمار مادي كبير في القدرات العسكرية والبنية التحتية لعدوها، والتي يستغرق ترميمها سنوات طويلة، وذلك لإحداث الردع، وتأجيل موعد الحرب القادمة لسنوات طويلة.
وها نحن في السنة الأخيرة لخطة “تنوفاه” وبالتالي سنكون أمام مرحلة مخاض لما بعد الحرب الجارية بالمنطقة، وتأجيل أي قدرة لدول الطوق على عمل أي تصعيد على إسرائيل.
يتلقى بشار الأسد هذه المرحلة العاصفة بانحناء شديد وكأنه سينقلع معها، لكن نتنياهو له رأي آخر، لقد كان الفاكس من الكابينيت إلى قصر المهاجرين واضحاً بأن نأي بشار بنفسه قد يجعل له موطأ قدم في المرحلة القادمة، والتي ستنتهي فيها الحروب بالمنطقة على المستوى المنظور.
وينطلق نتنياهو من مبدأ إمكانية التعايش مع سورية الأسد فقط، لهذا كان داعما لاعادة تعويمه، حيث خرج عام ٢٠٢٢م التقرير الذي أوردته صحيفة “يسرائيل هيوم”، عبر موقعها الإلكتروني، بأن رئيس الحكومة الإسرائيلية، نفتالي بينيت، أوقف الخطة الإسرائيلية الإقليمية التي كان قد أطلقها نتنياهو حول محاولاته لـ”تبييض الأسد”، والتي انطلقت خلال اجتماع عُقد في مدينة القدس في حزيران/ يونيو 2019، وشارك فيه مستشاروا الأمن القومي الروسي، والأميركي، والإسرائيلي، فكان ما رأيناه من عودة بشار الأسد للجامعة العربية، ودعم بعض الدول العربية له.
يبدو أن نتنياهو يصر على أن وجود بشار الأسد في المرحلة القادمة يشكل عاملاً إيجابياً لعقد سلام دائم مع سورية، إذ هو ديكتاتور، وضعيف، وقابل لأي ضغط يحفظ بقاءه وسيطرته.
ولعل اقتناع نتنياهو بتبييض الأسد بسبب بعده عن مركز التصعيد في غزة أو جنوب لبنان، ولكن ولأسباب كثيرة سيكون الأسد أكبر عامل لضرب المرحلة القادمة، فهو فاقد للقدرة على عقد سلام حقيقي، حتى لو عادت كل المناطق السورية لسيطرته؛ فهناك رفض شعبي كبير، ودم وثأر، ما سيجعل أي قرار استراتيجي يتخذه محط رفض السوريين، إضافة لكثرة الملفات والعقوبات الغربية والتي يصعب إزالتها، ما سيُشكل صورة ديكتاتور (خيال مآتة)، يجعله غير متمكن من تطبيق أي قرار سري أو علني.
إن نجاح المرحلة القادمة بإبعاد شبح الحروب بالمنطقة تعتمد على وجود سلطة سورية حقيقية منتخبة من الشعب، ترفض خيار الحرب والمقاومة، وتستند لخيار أغلبية شعبية، وتؤمن بالسلام الدائم الحقيقي غير الموهوم، إذ لم يعد الشعب السوري قادراً على تحمل كذبات خطاب الحرب ضد إسرائيل وهو يتلقى صفعات الاستبداد، ذاك الاستبداد الذي إن تم دعمه فإنه لن ينفجر في وجه صاحبه، بل بوجه داعميه أيضا، لهذا إن أراد نتنياهو انجاح المرحلة القادمة وعقد سلام حقيقي، وإبعاد شبح الحرب بالمنطقة، فعليه ألا يعتمد على (خيال مآتة) والذي لن يُشكل خطرا على السوريين فقط، بل وعلى اسرائيل والمنطقة أيضا.