حماة، الهولوكوست السوري
الثاني من شباط، يومٌ أسود هاربٌ من توثيق الصندوق الأسود لتاريخ سورية عام ١٩٨٢، فليس ثمة إعلامٌ وسوشيال ميديا ولا فرسانهما ليوثقوا ما جرى في حماة (أبي الفداء) يومها!
حاصر حافظ الأسد المدينة وطوقها لعقاب أعداء نظام حكمه المتمردين عليه، ومع صيحات الفجر الأولى كانت مدفعيته وجيشِ ميليشاته الطائفية يهتكان طُهر مدينةِ الصلاةِ، بكل ما يمكن للعقل البشري وما لا، أن يتصوره من وحشية وإجرام!
سبع وعشرون يوماً، أسفر عن قتل أكثر من 40 ألف سوريٍّ في حماة، ومن لم يوافيه الحظ بالتصفية الميدانية يومها، فكُتب له العيش ليلقى مصير الاعتقال في زنزانات الأسد ذات الحكايا الفريدة، وليتجاوزوا المائة ألف معتقلٍ ومعتقلة، أما أعداد المفقودين ممن لم تشملهم الإحصاءات، فيزيد عن 15 ألف مواطن ومواطنة.
وهكذا ليسفر الانتصار الموهوم للأسد الوحش عن مدينة أشباح، بعدما سوّيت الأرض بأهلها، ولم يبقَ منها شجرٌ ولا بشرٌ ولا مدر، حتى الحجر ودور العبادة لم تسلم يومها من أذى وبطش الجيش الباسل، فدمّر 63 مسجداً، و4 كنائس، ناهيكم عن آلاف من أصول حموية غادروا سورية أثناء الحملة وبعدها، في هجرةٍ أشبه بالسريّةِ، خلسةً من نظام الأسد، خشيةً على أرواحهم وأعراض نساءهم وبناتهم، وأما أولئك الحمويون ممن لم يُقدّر لهم مغادرة البلاد، فما يزالون يعانون الأمرّين حتى يومنا هذا، من عدم التوظيف لأبنائهم، والتضييق عليه ومراقبتهم، وحرمانهم من أبسط حقوقهم المدنية وحتى العسكرية، منها كالترفيع وتبوأ المناصب القيادية العليا ونحوها.
النتيجة والمحصلة:
استتبّ حكم سورية لـِ حافظ الأسد وشركاءه أو ربما ظنوا ذلك!
29 خريفاً تحت الرماد، إلى أن أزهرت دماء شهداء حماة (أبي الفداء)، عن ربيع ثورةٍ شعبيةٍ زلزلت الأرض من تحت سلطة الأسد الوريث لتركة أبيه المثقلة بعظام وجماجم السوريين، ولتعصف بأركان حكمه في 2011م، فتعود حماة في (الطليعة) كما كانت.
ظروف محيطة:
ربما أبيدت حماة، لكن نظام الأسد لم يستطع إيقاف دوران نواعيرها، تلك التي إن أصغيت السمع لها، لم تكن لتُخطئك أنّاتُها وهي تدورُ حاملةً معها صرخات آلاف الأبرياء ممن ألقاهم نظام الأسد يومها في وعلى ضفاف نهرها الشهير (واسألوا حسان بن ثابت عن ذلك فهو شاهد)، ولتستمرّ 29 سنةً في سُقيا الأرض السورية بماء العاصي (العصيِّ على كل جبّارٍ عتيد، مُعتدٍ مُريب).
ربما أحسّ السوريون عام 2011 أنّ كلفة خروج سورية كلِّها ضد نظام الأسد ستكون باهظة، وأن فاتورتها هذه المرة ستكون أكبر بكثير من فاتورة تمرد حماة! كيف لا، وجزءٌ من ثورة 2011، ما هو إلا سداد دين 1982، يُضاف له دفع الفوائد عن تقصير 29 عاماً من الجبن عن مقاومة الأسد ومقارعة جيشِ ميليشاته الباسلة آنذاك، بعد مجزرة حماة المروّعة.
الشعب السوري واحد:
فمن الشيوعيين إلى الإخوان المسلمين، كان الشعب السوري وما يزال على قلب رجلٍ واحدٍ في معارضة سلطة البعث الطائفية، فجبهة الشيخ مروان حديد هي نفسها خندق رياض الترك في مواجهة ومعارضة نظام الأسد! فسورية التي تنفست الديمقراطية كأول دولة عربية ديمقراطية، ربما حاول المستعمر الجديد أن يغير من طبيعتها المتمردة على كل ظلم، فدعم سلسلة انقلابات عسكرية متنوعة، أوصلت حزب البعث العربي الاشتراكي ليعتلي سدة الحكم في سورية، وليتفرد بتجربته البعثية العبثية بعد فك الارتباط مع توأمه في حزب البعث العراقي بقيادة صدام حسين!
لم يأل حافظ الأسد جهداً في استخدامه كل الأوراق التي بين يديه ليُمكّن دعائم حكمه، ويستفرد بمعارضيه جملةً وتفصيلاً بتهم ذات قوالب معدّة وجاهزة! فالقوميون يتهمهم بممالاة البعث العراقي، والمتدينون يتهمهم بالانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، والنشطاء بالشيوعية، والمفكرون بالعمالة للخارج، وهكذا.
ثم كان لابد من حماةَ كـَ عصا تأديب جماعي وفزاعة تهديد فردي، يلوّح بها لباقي المناطق السورية (أنّ العصا لمن عصى)، والتي بالفعل لم تسلم من فتكه بها ابتداءً من الجنوب وليس نهاية بجسر الشغور في الشمال، بأساليب شتى (تستحق دراسة وتأصيلاً).
لقد انتقم حافظ من السوريين بحجة المعارضة، تماماً كما انتقم ابنه بشار الأسد من السوريين كلّهم بحجة الثورة بعد 2011م، حتى قتل أكثر من مليون سوري وهجر أكثر من 15 مليوناً من بيوتهم، ثم ليضحك ضحكته الشهيرة: “الآن أصبح الشعب متجانساً”!.
كيف تعامل السوريون بعد المجرزة؟
في التاريخ جرائم كثيرة، منها ما تم توثيقه ومنها ما لم! بدءاً من “مسلم بن عقبة” صاحب مجزرة الحرَّة، مروراً بمجازر التتار، إلى مجزرة حماة.
ولعل الفارق اليوم أن الإعلام الذي كان يحتكره نظام الأسد في 1982، أصبح اليوم متاحاً بيد كل أحد! ولا أحسب جهاز هاتفٍ نقال في سورية إلا وكان له دور في نقل الحقيقة كما هي من الداخل، سواء من خلال أجهزة الثوار أو حتى الشبيحة أنفسهم! حتى اللقطات التي كان يبثها التلفاز السوري ما هي إلا أداة إدانة له، وتوثيق لجرائمه (إعداداً وتخطيطاً وتنفيذاً)، حتى صيحات السوريين الرافضين حكم جلادهم، أخذت موقعها من الأرشفة لحقبة رفض حكم نظام الأسد الأب والابن معاً.
في الارهاصات الأولى لانطلاق الثورة السورية، حاول المصلحون لعب دور إصلاحيٍّ ما للحيلولة دونما القيامة الصغرى! وتجنيب البلد تجارب دول أخرى في الإقليم!
لكن السوريين تعلموا الدرس جيداً، وأيقنوا أن ما بعد 2011 ليس كما قبله، وأن الفرصة للانقضاض على حكم الأسد الوريث سيعني ثلاثين سنةً أخرى دون أمل بالإصلاح أو الصلاح، وأنّ غضّ الطرف عما جرى ويجري معناه مجارز على شاكلة حماة ولو بعد حين!
لاشك أن السوشيال ميديا لعبت دوراً في تغيير العقلية السورية التي صارت تتابع وتتفاعل بالفور، ففي كل جمعة مظاهرات شعبية، ما لبثت أن صارت جنائز (أعراس الشهداء) يقتلهم نظام الأسد فتحملهم أكتاف متظاهري الجمعة اللاحقة وهكذا!
ربما ظن النظام السوري أن تجربة حماة في الثمانيات قد تفلح اليوم أيضاً! لكن رهانه قابله تعنت سوري غير مسبوق! واستطاع السوريون من الثوار أن يبنوا لأنفسهم جيشاً من الأحرار للدفاع عن أنفسهم ورد العدوان أولاً، ولما زاد العنف استلف السوريون غضب الجهاديين فبايعوا على الموت، همهم ألآ يتعايشوا مع نظام الأسد المجرم أكثر من ذلك، فإما عيشٌ بحرية أو لحاقٌ بشهداء غزوة حماة!
لاشك ونحن نشرح الواقع فهو لا يعني الموافقة عليه بكل تفاصيله، ولا يعني أننا مع الدم! لكن الواقع الذي فُرض علينا وما يزال أقوى من المبادئ!
لقد استطاع السوريون رغم طفولتهم السياسية والعسكرية أن يكسروا رقبة الأسد المخابراتية، فاستعان بوحوش الشيعة من المتطرفين في حلبةٍ لم يكن عليهم دخولها، واستحضروا بذلك تاريخ معاوية ويزيد في عاصمة الأمويين، ولما استحرّ القتل بهم (الشيعة)، لم يكن لديهم من حل إلا بتمرير لعبة داعش المخابراتية! وكان السوريون أوعى وأرشد، فحاصروا داعش وفتكوا بها أيضاً، وأبقوها في وكر “المالكي” الذي أهداهم “الموصل” وسلاحها وآمالها في لعبة تاريخية مكشوفة، فلم يكن أمام “قاسم سليماني” إلا الطيران إلى “موسكو” ليبيع حصة من سوريتهم إلى “بوتين” وهو المنتظر موطأ قدم على البحر المتوسط بعد طرده من ليبيا!
فها هي قوة السوريين وقد أصبحت جيوشاً وفيالق وكتائب لا عد لها ولا حصر، فحاصرت العاصمة دمشق، وهددت القصر الرئاسي، ليدخل الدب الروسي 2015م معلناً حرب السوريين ومصطفاً مع الأسد، ثم أنتم تعلمون باقي القصة ….
خاتمة:
يمكن جلد ظهرنا كسوريين كما يريد البعض، فنحن بشر ولدينا من الأخطاء ما لاتحصى، ولم ندَّعِ يوماً الملائكية، ولكن لا يمكن بحال أبداً، أن نخفر لأنفسنا حقها! فقد ثرنا بالكلمة حين كانت الكلمة أقوى من المدفع، وبالرصاص حين كان الرصاص نضالاً، وجاهدنا بالوطنية حين كانت داعش تفتك بأبطالنا، ولن نأل جهداً بالوصول لسورية العادلة إلى بر الأمان والاستقرار، فالوطن نادى أهله وحماته وكماته واستجبنا، وناعورة حماة قلبت ظهر المجن على رأس نظام الأسد، واستبدلنا بإرادتنا القائد الملهم والرمز المفدى والأب القائد والرئيس الخالد، والذي حاول النظام السوري جعله صنماً في كل مدينةٍ وقرية، بعبد القادر الصالح، وأبو فرات، وعبد الباسط ساروت ومشعل تمو، وآخرين.
واليوم نقف أمام رهان كبير، نحتاج فيه مزيد وعي ويقظة، فنضالنا ما يزال طويلاً لإعادة ترتيب أوراقنا، وتجميع صفوفنا ضمن جبهة ثورية جديدة، وكما استخدمنا الكلمة في مكانها، والسلاح في مكانه، وجب أن نستخدم الوعي والفهم العميق أمام الأحداث المتسارعة، رجاء أن ينتهي هذا الواقع دون مزيد خسائر تكون سبباً لاستمرار ضجيج الدماء في حماة.. بل في سورية كلّها.
د. زاهر إحسان بعدراني
مكتب الرئاسة
مقال
تيار المستقبل السوري