أزمة الهجرة واللجوء وسؤال في بنيوية النظام العالمي
مقدمة:
تختلف مقاربتَي هنري كيسنجر ونعومي تشومسكي في كتابيهما عن النظام العالمي الجديد، فبينما يُقدم الأول رؤية معمقة من منظور تاريخي وجغرافي، يُقدم تشومسكي رؤية اجتماعية واقتصادية نابعة من منظوره اليساري، لكنهما يتفقان على قضية الفروق البشرية وضرورة العمل على تجاوز مخاطرها، على أن مقاربة نعوم تشوميسكي أكثر تحذيراً من الفروق الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء في أمريكا أولا، وبينها وبين دول العالم ثانيا.
صحيح أن النظام العالمي الجديد الذي بدأ عند كيسنجر منذ اتفاق وستفاليا، أو عند تشومسكي منذ انهيار الاتحاد السوفيتي؛ يعاني اليوم من زلازل خطيرة، تتمثل في حرب أوكرانيا، وتقدم العملاق الصيني، وحرب غزة.. لكن تجليات هذا الزلزال تتمظهر أكثر ما تتمظهر بأزمة اللجوء من الدول المتوترة إلى الغرب المتحضر، حيث وصل عدد اللاجئين في العالم إلى 36.4 مليون شخص في منتصف عام 2023، أي بزيادة قدرها 3 بالمائة (1.1 مليون شخص) عن السنة التي قبلها، وفي نهاية شهر يونيو 2023، كان هناك ما يقدر بنحو 110 ملايين شخص ممن نزحوا قسراً من ديارهم بسبب الاضطهاد والصراعات والعنف وانتهاكات حقوق الإنسان والأحداث التي تخل بالنظام العام على نحو خطير، وذلك بحسب إحصاءات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ودائما ماتكون الاحصاءات غير ممثلة للحقيقة بشكل عام.
تجليات هذا الزلزال المعاصر تقوم على رافعتين:
الأولى: صراعات حدودية متعددة منها:
- الصراع الحدودي بين السودان وإثيوبيا.
- الصراع الحدودي بين إريتريا وإثيوبيا، والذي أدى إلى حرب حول مثلث “بادمي” من 1998م – 2000م.
- دون أن ننسى غزو الكويت من عراق صدام في آب 1990م، وما جره ذلك من تغيير في كيمياء المنطقة عبر سياسة الفوضى الخلاقة لكونداليزا رايس.
- الحرب الروسية الأوكرانية، والتي ابتدأت سنة 2014 بعد احتجاجات الميدان الأوروبي وعزل الرئيس الأوكراني “فيكتور يانوكوفيتش” ثم سيطرة الروس على مواقع استراتيجية لتضم بعدها القرم، فتنفجر دونباس بمظاهرات منادية بالانفصال عن أوكرانيا والالتحاق بروسيا، إلى أن انفجرت التوترات الحدودية في 2021 ببدء الحشودات الروسية والتي أعلنت شرارة الحرب التي ازدادت وتيرتها لتستمر حتى يومنا هذا.
- يمكن اعتبار التهديدات في جزيرة تايوان شرق آسيا والتي تُهدد باشتعال فتيل حرب كبيرة بين الصين وأمريكا بسبب دعم أمريكا لتايوان.. يمكن اعتبار الصراع هناك صراعا حدوديا، ولو أنه يلبس لبوس السيادة، حيث تشير الصين إلى أن تايوان كانت في الأصل مقاطعة صينية، لكنّ التايوانيين يقولون إنهم لم يكونوا أبداً جزءاً من الدولة الصينية الحديثة التي تشكلت لأول مرة بعد الثورة في عام 1911م، أو جمهورية الصين الشعبية التي تأسست في عهد ماو تسي تونغ في عام 1949م.
الثانية: صراعات سلطوية بسبب رغبة طرف ضمن البلد الواحد من الاستفراد بالسلطة، يتجلي ذلك في: - الصراع في سورية والذي ابتدأ في سنة 2011 ولا زال مستمراً دون أفق للحل، مع تعقد المشهد السوري بعد تدخل دولتين إقليميّتين (إيران و تركيا), ودولتين عالميتين (أمريكا وروسيا)، وما رافق ذلك كله من انقسام الخريطة السورية إلى أربعة مناطق نفوذ في كل منطقة حكومة مستقلة تحتاج اعترافاً دولياً فقط لنشهد أربع دول سورية!.
- الصراع في السودان، والذي يدور بين أفراد القيادة العسكرية، فمن جهة قائد القوات المسلحة والرئيس الفعلي للبلاد عبد الفتاح البرهان، ومن جهة نائبُه قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي).
وقد يشترك الصراع بين أسباب حدودية وأسباب سلطوية، كما في حرب غزة التي تعاني من احتلال يرفضه الفسلطينيون، إضافة لخلاف على السلطة في منطقة غزة والضفة الغربية، إضافة إلى حرب اليمن.
إذا ماهو الحل؟
للأسف لا يوجد حل حالي ضمن المنظومة الدولية، والتي فشلت بتحقيق السلم والأمن الدوليين، فالحروب تزداد، واستخدام الأسلحة الخطيرة يتوالد، والصراعات تزداد عنفاً وخطراً على العالم كله، ولقد أحصى (معهد هايدلبرغ لبحوث النزاعات الدولية). ففي عام 2018م بالمقارنة مع السنة التي قبلها ارتفاع عدد “الحروب المحدودة” من 16 إلى 25، وتحت مفهوم “محدود”، وتعني المواجهة المدروسة التي لا تستعمل فيها الأطراف المتناحرة جميع الوسائل المتاحة لديها.
في المقابل هناك معضلة اللجوء والهروب من البلاد التعيسة إلى البلاد الآمنة والمتطورة، هذا اللجوء يسبب في ازدياد العنصرية والفكر المتطرف اليميني والتي تشكل حركة (بيغيدا Pegida) الألمانية -تأسست في نهاية عام (2014)- واحدة من أكثر هذه الحركات العنصرية حداثة.
كما أثبتت التقارير الأممية هذا التطور، منها تقرير الأمم المتحدة لحقوق الانسان الذي صدر في آب 2020م، بعنوان: “الأشكال المعاصرة للعنصرية والتمييز العنصري وكراهية الأجانب ومايتصل بذلك من تعصب”.
يمكن القول إن الاستمرار بتفعيل قوانين حقوق الانسان أمر جيد حاليا لتخفيف الضرر، ولكن العالم يحتاج لحل حقيقي، والحل الحقيقي يكمن في علاج أساس المشاكل وليس أعراضها، ففي قضية الهجرة واللجوء، يرى أسعد خنجر في كتابه عن الهجرة غير الشرعية أن هناك محددات أسهمت في الدفع بٍاتجاه صياغة سياسات متباينة تحكمها ظروف موضوعية، وأخرى ذاتية، فمن جملة هذه الظروف الموضوعية – برأيه- أن هؤلاء المهاجرين لم تكن لهم صفة قانونية (شرعية) تمنحهم حق الدخول إلى بلد معينٍ، لاسيما أن البعض من هؤلاء قد يكون متهمًا بزعزعة الأمن القومي للدول المستقبِلة، لارتباطه بجماعات وحركات عنصرية، أما الظروف الذاتية تكمن في كون معظم هؤلاء المهاجرين هم من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهذا يشكل دافعًا نحو إعادة الذاكرة للحكومات الأوربية، بالصورة النمطية التي كوّنتها عن الشرق الإسلامي.
إذاً، لحل أزمة اللجوء والهجرة التي تعصف ببنية النظام العالمي، يجب حل قضيتي الصراع الحدودي والسلطوي في العالم، ولكن خمسة أسباب تُظهر استحالةً لإيجاد حلول لهذين الصراعين ضمن هذه البنية للنظام العالمي:
1- تجارة السلاح والتي تجني بسببه الدول والشركات ورجال الأعمال أرباحا طائلة.
2- تهديد السلاح النووي.
3- الهجرة نفسها والتي ستكون سبباً في استمرار الصراع واستفادة المتصارعيين من تأثيراتهم على الدول الكبرى لأخذ مكاسب سلطوية.
4- التنافس بين القوى العظمى والذي تستفيد منه الدول الأصغر في اللعب على هامش صراعهم.
5- الفقر والفوارق الاقتصادية.
إذا يمكن الاعتراف بشكل واقعي أن النظام العالمي المعاصر يفتقد القدرة على إيقاف الصراعات، وبالتالي لايمكنه من حل أزمة الهجرة والنزوح إلا بالصراع مع اللاجئين، أو مخالفة بنية النظام العالمي القائم على قوانين الأمم المتحدة التي تسمح بالتنقل الحر وحق الحماية للمضطدين والهاربين من الصراعات.
ولكن مالذي يمكن فعله؟
داخل بنية النظام العالمي لايمكن إلا تخفيف تداعيات الصراعات وتطبيق قوانين حقوق الإنسان ولو بالحد الأدنى رغم أن خرقه سيزداد بوتيرة مرتفعة مع الأعوام كمايبدو، ولهذا سيقع على عاتق المجتمع المدني، والحقوقيين، ودعاة الإنسانية، والأخلاقيين ثقلٌ كبير في محاولة ترسيخ ما يمكن ترسيخه من قوانين حقوق الإنسان.
فلسفة الحل:
يظهر مما سبق استحالة وجود حلول نهائية لأزمة الهجرة واللجوء ضمن نفس بنية النظام العالمي، بسبب عدم امكانية إيقاف الصراعات التي ستزداد أو تستمر بشكل من الأشكال، ولكن هذه الدراسة تقترح حلاً نهائياً قائماً على حتمية تطور مفهوم (المواطنة).
مفهوم المواطنة والذي بدأ بشكل بدائي مع الأحرار والمحاربين، لينتقل أخيرا إلى الارتباط بمفهوم الأمة – الدولة لينطلق مع يورغن هابرماس Jürgen Habermas، إلى أن الوطنيَّة ليست شعوراً مرتبطاً بالضرورة بالأمَّة؛ بقدر ماهي ارتباطاتٌ بمؤسساتٍ وقيمٍ اجتماعيَّةٍ معينَّة، ليتجاوز هابرماس نموذج الدَّولة – الأمَّة إلى بناء مواطنة أوروبية، ثم مع بزوغ مفهومٍ معاصرٍ لفكرة “المواطنة العالمية” والذي بدأت تحمله المنظمات الدولية مثل اليونيسكو (نشرت سنة 2015 كتابا بعنوان: “الترابية على المواطنة العالمية مواضيع وأهداف تعلمية”).
إن الحل النهائي لأزمة اللجوء كما يبدو يكمن بتغيير بنية النظام العالمي المعاصر نحو أفق أوسع قائم على ترسيخ “المواطنة العالمية” أو الدولة العالمية الواحدة، والأمة البشرية الواحدة التي ترعى تنوعات البشر ولا تجعلها متصادمة، والتي تمنع عبر قوانين عالمية يتم فرضها على كل أرجاء الأرض أيَ صراعٍ سلطويٍ سواء بين رجالات الحروب في الدول المختلفة، أو بين الأنظمة وشعوبها.
العلاج الحقيقي كما يبدو يكمن بالمواطنة العالمية وإقامة حكم عالمي يفتح الحدود بين البشر، ويُنهي وجود سلطات تتحكم بالأوطان.
لاشك أن هذا الحل صعب وبعيد، ولكنه الحل الوحيد الشامل، ورغم كل الجهود في حل أزمة اللجوء والهجرة ضمن المنظومة المعاصرة، لن تكون النتيجة نهائية، بل ولن تكون مؤثرة.
على أنه يبدو المستقبل لهذا الخيار، والذي سيكون أمراً واقعا على كل البشرية وعلى رعاة النظام العالمي المعاصر بحالتين:
الاولى: تطوير التكنولوجيا التي تسمح للبشر بالسفر والتنقل، ضمن برامج مراقبة متطورة وذاتية، براً وبحراً وجواً، إذ صحيح أن الدولة عند ماركس هي من تحتكر أدوات الإنتاج، ومع ماكس فيبر هي من تحتكر العنف، إلا أنها بتعريف جون توربي هي من تحتكر وسائل الحركة، إلا أن أحداث 11 سبتمبر بحسب ايلي زريق ومارك سالتر في كتابيهما “عن المراقبة وحفظ الأمن على الصعيد العالمي الحدود والأمن والهوية” مثلت توجهاً عملياً نحو وأد آمال وجود عالم بلا حدود، ولكن الواقع مع بروز هجرات متعددة براً وبحراً وجواً ببعض الأحيان، يجعل الحدود أكثر سيولة، لدرجة أن بعضهم أصبح يسافر وحيداً مع هاتف ذكي فقط مرتبط بخريطة هاتفه، بل لدرجة أُطلق على الحدود في بعض الأدبيات “الحدود اللينة Soft Borders”، أو الخواصر الرخوة أو الأطراف الخارجة عن السيطرة، حيث كانت الأدبيات التقليدية في دراسات أمن وإدارة الحدود تعتمد مقولة: الحدود الصلبة Hard Borders، التي يتم تعريفها بأنها “الخط الفاصل بين حدود دولتين مختلفتين اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وديموغرافياً واجتماعياً، حيث تبدأ سيادة دولة وتنتهي سيادة دولة أخرى”.
كل ذلك وأدوات السفر في وضعها الحالي معقد قليلاً، ولكن مع مستقبل قريب تبدو فيه التكنولوجيا قريبة أكثر وأكثر من أدوات تُسهل السفر الفردي سواء عبر طائرات صغيرة فردية، أو قوارب مدعومة بنظام أمان أكثر وأرخص، سنكون أمام احتمالية كبيرة لإلغاء دور الحدود مستقبلاً أمام هذا التطور الموعود!.
الثانية: تطور البرمجة لدرجة خلق لغة عالمية موحدة أو القدرة على الترجمة الفورية لكل شخص، مثل مشروع شركة Camb.AI في الإمارات العربية المتحدة، والتي طورت تقنية مبتكرة للترجمة الصوتية الفورية تعتمد على الذكاء الاصطناعي التوليدي لدبلجة أصوات مجموعة من الرياضيين العالميين لأكثر من 100 لغة ولهجة.
وفي حال وصلت البشرية لهذا المستوى فحينها لا يمكن لأي سلطة ضبط شعبها بالقوة والقهر، كما لا يمكن لأي بلد متطور أن يمنع الناس من الدخول إليه، وبالتالي فستكون البشرية أمام احتمالين:
إما جعل كل الأوطان استبدادية قائمة على حكم عسكري ديكتاتوري تتشارك الحرب أو السلام.
وإما جعل كل الأوطان ديمقراطية رأسمالية أو بالحد الأدنى ذات رفاهية اقتصادية موحدة، وبالتالي فلن يكون من سبب للهجرة المليونية واللجوء لتغيير البلد الأصل بسبب التشابه بالسلطة في جميع الدول.
لاشك أن الاحتمال الأول سيعني حروبا لن تنتهي وثورات لاتتوقف، مما يحيلنا لترجيح الاحتمال الثاني مهما طال الزمن.
وهو الاحتمال الذي سيكون الأقرب لواقع يعين ويساعد على التأسيس للمواطنة العالمية.
إذاً، وحتى انتظار التطور بالتكنولوجيا والبرمجة، من المفروض على عقلاء البشرية أن يجتهدوا للتمهيد والتقعيد وقوننة المواطنة العالمية والتبشير بها والدعوة إليها والعمل عليها لجعلها النظام العالمي ما بعد الجديد.
وبذلك تتقدم البشرية خطوة ايجابية على قهر الواقع، والذي سيفرض المواطنة العالمية عاجلا أو آجلا، ويكون حلاً حقيقياً لمشاكل النظام العالمي، وبالخصوص مشكلة الهجرة واللجوء.
جمعة محمد لهيب
قسم البحوث والدراسات
دراسات
تيار المستقبل السوري
المراجع:
هنري كيسنجر, النظام العالمي أفكار حول طبيعة الأمم ومسار التاريخ, ترجمة أشرف راضي, كنوز, 2015.
نعوم تشومسكي, النظام العالمي القديم والجديد, ترجمة عاطف عبدالحميد, نهضة مصر, 2007م.
أسعد عبد الحسين خنجر, الهجرة غير الشرعية وانعكاساتها على النظم السياسية في أوربا”, العربي للنشر, 2022م. 178.
ايليا زريق ومارك ب. سالتر, المراقبة وحفظ الأمن على الصعيد العالمي الحدود والأمن والهوية, ترجمة عماد شيحة, المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات, 2021,
تقرير اتجاهات منتصف العام | المفوضية (unhcr.org)
الصراعات الحدودية وتداعياتها على استقرار القرن الافريقي: الحدود السودانية – الاثيوبية نموذجا (afrocen.org)
روسيا وأوكرانيا: ما سبب الأزمة بين البلدين؟ – BBC News عربي
القصة الكاملة وراء الصراع الصيني – التايواني (aawsat.com)
A/75/329: الأشكال المعاصرة للعنصرية والتمييز العنصري وكراهية الأجانب وما يتصل بذلك من تعصّب | OHCHR
لماذا تزداد الصراعات في العالم؟ خمسة حائزين على نوبل يجيبون – DW – 2019/9/27
التربية على المواطنة العالمية مواضيع وأهداف تعلمية – UNESCO للأمم المتحدة
مركز المستقبل – المشاكل المستعصية لضبط الحدود بالشرق الأوسط (futureuae.com)
كيف سيبدو شكل وسائل النقل في المستقبل؟ – BBC News عربي
ترجمة فورية بالذكاء الاصطناعي.. ابتكار مثير لشركة ناشئة إماراتية (al-ain.com)