إلياس عبد المسيحالمكتب السياسيالمكتب العلميدراساتقسم البحوث و الدراساتكاتبوا التيار

الجيوبوليتيك في الوعي السياسي السوري

يعتبر الجيوبوليتيك علماً يدرس تأثير الجغرافيا على السياسة والعلاقات الدولية، كما ويُعرّف علم الجيوبوليتيك (Geopolitics) بأنه العلم المختص بدراسة الصراع على الكيانات الجغرافية ذات البعد الدولي والعالمي، مثل الأماكن والمناطق والأقاليم، وكيفية استخدام هذه الكيانات من قبل الدول والشركات لتحقيق مكاسب سياسية متعددة عن طريق التحكم بها.

وقد عُرفت بدورها تطورات مختلفة في المفاهيم والنظريات ما بعد مرحلة الحرب الباردة، ولعل أبرز تطور هو صعود ما يُسمى بالجيوبوليتيك النقدية أو البديلة كنتيجة للتحوّلات التي شهدها العالم آنذاك من جهة، وأيضًا كنتيجة لتأثير النقاشات الفلسفية والإيبيستيمولوجية ما بين الوضعيين وما بعد الوضعيين على جميع النظريات والحقول المعرفية في العلوم الإنسانية والاجتماعية من جهة أخرى.

ولقد تراجعت أهميّة الجيوبوليتيك الكلاسيكية المرتكزة على محورية عامل الجغرافيا المادي تفسيراً حتميًا يرسم مصائر الأمم، لدرجة أن ظهرت أصوات نادت بموت الجغرافيا وانتهاء عصر الجيوبوليتيك، وبداية عصر جديد تتحكم الأمم بقدَرها!
ولكن بالرغم من هذه التطورات لا تزال الجغرافيا والجيوبوليتيك الكلاسيكية تحتفظ بقدرة تفسيرية عالية في تحليل السياسة العالمية الراهنة، وتحتفظ بقدرة تفسيرية كبيرة في تحليل سلوكات الدول والعلاقات بين الأمم في القرن الحادي والعشرين كما كانت في السابق متجلية القدرة التفسيرية الكبيرة لعامل الجغرافيا في تحليل تفاعلات العالم القديم، عالم ما قبل العولمة والتكنولوجيات المعقدّة.
على أنه يجب عدم اغفال حدود تأثير عامل الجغرافيا في عالم جديد تغيّرت فيه مفاهيم الزمان والمكان بسبب التكنولوجية التواصل المتقدم بين البشر والأقاليم، ما سبب دعوات جديّة خصوصاً لليبراليين بموت الجغرافيا وانتهاء عصر الجيوبوليتيك.
لكن وبالرغم من كلّ هذه التحوّلات البنيوية الراهنة، فقد ازداد تأثير الجغرافيا أكثر من ذي قبل بحسب الورقة المنشورة في المجلة العربية للعلوم السياسية العدد 4 سنة 2021م عن عودة عالم ثيوسيديدس التي قدمها الباحث الجزائري المتخصّص بعلم الجيوبوليتيك والسياسة الدولية جلال خَشّيبْ، بأن القرن الحادي والعشرين سيعرف انتعاشًا للجيوبوليتيك الكلاسيكية بمفاهيم ونظريات جديدة «الجيوبوليتيك الكلاسيكية الجديدة»، بمعنى آخر: العودة إلى العالم القديم، إلى عالم ثيوسيدايدس بقوانينه المألوفة والثابتة.

فالنزعة الأوتوريتارية التّي تنامت مع هتلر تُرجع أساسًا إلى لعنة الجغرافيا، التّي جعلت من ألمانيا محاطةً بالأعداء، ما اضطر معه صانع القرار ليكون مهتماً بالأمن والتسلّح وتوحيد السلطة بين يديه لضمان وحدة الرأي والأرض، وفي هذا الصدد يُحاجج ألكسندر هاملتون أنّه لو لم تكن بريطانيا جزيرة محمية بالمياه المعيقة للأعداء لكانت مؤسّساتها العسكرية بنفس عجرفة مثيلاتها في القارة الأوروبية (ألمانيا)، وأنّ بريطانيا رغم كل الاحتمالات ستصبح “ضحيّة السلطة المطلقة لرجل واحد”.
في مقلب آخر، يتحدث ألكسندر دوغين في كتابه “أسس الجيوبوليتيكا مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي” على موقع روسيا الجغرافي وكونها قلب الكرة الأرضية (heartland) ولهذا يدعو المُنظر الروسي إلى تجميع الإمبراطورية الروسية واستباق ما تخشاه سواء من جانب الصين أو الغرب أو الإسلام، وعلى ضوء رؤيته يدعو لتكامل مع آسيا الوسطى عبر ثلاث تطبيقات: برلين، طوكيو، طهران، ليخلص إلى أن السبيل لذلك هو تجميع الإمبراطورية الروسية والعودة للقومية والدين، والآفاق العسكرية والاقتصادية.
إن رؤية “دوغين” عمادها صلب ثابت وهو ثبات الجغرافية، فهو ينطلق من نظرة جيوبوليتيكة ثابتة ليخلص إلى رؤية حتمية.
ومن هنا كانت ضرورة التوقف قليلاً عند كل تحليل وقراءة تتردد بين كل تصريح سياسي وآخر، بل أحيانا بين كل خبر وموقف هامشي، لنعود إلى أرضية ثابتة في قراءة الواقع السياسي السوري عبر المنظار الجغرافي السياسي، وعلى هذا الأساس ينطلق نزار سلوم في مقاله الجيوبوليتيكي “الجيوبوليتيك السوري ميزة تفاضلية أم لعنة تاريخية”، أن “شين نيقي نونيني” المحفور اسمه على اللوح الأخير من ملحمة جلجامش كان واضعاً للارتسام الدائري الأول المؤسس لرحلة الجيوبوليتيك السوري في التاريخ عبر وصفه لرحلة جلجامش خصوصاً تحديده لمسارها الذي ابتدأ في أوروك شرقاً للأرز غرباً، ليأتي سرجون الآكادي الكبير (2279 ق. م) ويضع الارتسام السياسي الأول لهذا الجيوبوليتيك عندما عبر نهر الفرات غرباً ووسع مملكته لتطابق جغرافية سورية الطبيعية وتزيد أحيانا.

لقد كان للصراعات الداخلية في الجغرافية السورية منذ عهد السومريين إلى الأكاديين فالبابليين فالآشوريين فالكنعانيين- الفينيقيين وصولاً للعرب المسلمين إضافة للصراعات الخارجية التي لم تغب عن جغرافيا المنطقة إثباتاً تاريخياً على أن سورية الجغرافية مكملٌ طبيعي لازم للأمبراطوريات قديمها وحديثها.
وبالحديث عن العصر الراهن لسورية، فقد مثّلت الاتفاقات بالأستانة مع تركيا وايران حول سورية بالنسبة لروسيا معادلة دولية مفادها بحسب دراسة لمرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي: “تطبيق واقعي لموضوعةٍ نظرية في الجيوبوليتيك، وتعني في مضمونها: التفوق الإقليمي الروسي، وربطها بعمليات الواقع على الأرض عسكرياً، مع اتفاق مصالح ونفوذ بين تركيا وإيران يضمن مركزية ومحورية وجودها السياسي في دائرتها الجيوبولتيكية الثالثة، التي تربط مشروعها السياسي بما سمي بالمحيط الحيوي الأوراسي لموسكو، الذي يربط أوروبا بأسيا عبر سورية، ما يرشّح روسيا مجدداً للعودة إلى قطبية العالمية بموازاة الولايات المتحدة الأمريكية، تلك التي نظّر لها مركز كاتخيون للدراسات وعلى قمته الروسي المتطرف ألكسندر دوغين في نظريته السياسية الرابعة”.
على أنه لا يخفى بأنه ما كان لسورية أن تصل إلى ماوصلت إليه من ضياع مركز القوة السيادية للسلطة الوطنية إلا بسبب التدخلات الخارجية الأجنبية التي تسببت بتدويل الأزمة السورية وبالتالي تشتيتها إقليميا في شكل أوراق سياسية بيد أنظمة الدول المجاورة، والقوى الإقليمية المهيمنة، حتى أصبح الدور الروسيّ والإيرانيّ والتركيّ، وكيلا عن المعارضة السورية ومثلها النظام السوري، ولم يعد ممكننا العودة إلى حال ما قبل الثورة السورية، وحيث يبدو ضعف الدولة السورية وفقدان هيبتها، نتيجة لأزمة إنهاء الدور السوريّ في لبنان، ومشكلة القضاء على حزب الله، فإنّ سورية تتعرّض لأزمة كبيرة، أدّت إلى فوضى عارمة نتيجة فشل الدولة، فظهرت مشكلة الإرهاب، ومشكلة النزوح والهجرة غير الشرعية واللاجئين ومشكلة الإغاثة، وتحولت المشكلة السورية إلى كارثة إنسانية ومشكلة عربية حقيقية.
وعليه، فإننا في المكتب السياسي لـِ تيار المستقبل السوري ندعو الكيانات السياسية السورية أن تدرس جيداً الوضع الجيوبوليتيكي, وأن تكثر النقاشات واللقاءات حول وضع تصور مُتفق عليه على حجم ودور سورية من خلال جغرافيتها بشكل خاص، ليُبنى على الشيء مُقتضاه حول رسم دور سوري جديد بالمنطقة نابع من مكانها على الخريطة الإقليمية من جهة والدولية العالمية من جهة أخرى.

إلياس عبد المسيح
المكتب السياسي
قسم البحوث والدراسات
تيار المستقبل السوري

المراجع:
ألكسندر دوغين, أسس الجيوبوليتيكا مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي, دار الكتاب الجديد, 2004م.
الجيوبوليتيك السوري | ميزة تفاضلية أم لعنة تاريخية ؟ | سيرجيل (sergil.net)
سورية: محاور جيوبوليتيكية ثلاثة.. هل تنهي موقعة أستانة؟ – مركز أبحاث مينا (mena-researchcenter.org)
جيوبوليتيك الأزمة السورية بعد الثورة- دراسة لتحولات أدوار الفاعلين الإقليميين في مسرح الصراع السوريّ | Download Free PDF | Syria | International Relations (scribd.com)
الجيوبوليتيك في القرن الحادي والعشرين: انتصار الجغرافيا وعودة عالم ثيوسيديدس (*) – مركز دراسات الوحدة العربية (caus.org.lb)
روبرت كابلان، انتقام الجغرافيا: ما الذّي تُخبرنا به الخرائط عن الصراعات المقبلة وعن الحرب ضدّ المصير، ترجمة إيهاب عبد الرحيم علي (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2015)، ص 51.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى