أجهزة الأمن، دورٌ وأهميّة
استهلال:
يشكل الخوف من الخصوم أساسًا للتجسس والمخابرات، حيث تسعى الدول إلى فهم استعدادات وقدرات الخصوم لتحقيق الاستباق والتفوق. ولعل مبتدأ تاريخ المخابرات في الحضارة المصرية القديمة، إذ كانت جزءًا من الحياة اليومية للحكام والملوك آنذاك، ثم تطورت في الحضارات الأخرى كما اليونان وروما، حيث كانت تستخدم لتجنب الأخطار والتخطيط لحروب الكر وخطط الفر، ثم في العصور الوسطى، لعبت المخابرات والأمن دورًا مهمًا في تشكيل الدول الإسلامية، واعتمدوا التجسس وزرع العيون في الدول المعادية لتحقيق الاستقرار والحد من الجرائم ونحوهما.
لكن كل ذلك كان عبارة عن سلوكيات بدائية، ولم يشهد العمل الأمني ذلك التطور الكبير بتاريخ البشرية إلا خلال الحربين العالميتين، حيث تم تطوير تقنيات جديدة واستحداث أجهزة ووكالات مختصة، وما يزال ذلك التطور إلى عصرنا الراهن.
إيجابيات وجود الأجهزة الأمنية:
تلعب أجهزة الأمن دورًا حيويًا وأساسيًا في حماية الأمن القومي للدول وضمان استقرارها.
وفيما يلي نظرة على الدور الإيجابي لجهاز الأمن والمخابرات، على المواطنين والنظام العالمي كما نراها:
أ. الدور الإيجابي لأجهزة المخابرات والأمن على المواطنين:
- حماية الأمن الداخلي: حيث تعمل على جمع وتحليل المعلومات المتعلقة بالتهديدات المحتملة للأمن الداخلي، سواء كانت من جماعات إرهابية أو تنظيمات إجرامية، مما يساعد في منع الهجمات الإرهابية والجريمة المنظمة، ويعزز أمان المجتمع وحماية حياة المواطنين.
- الحفاظ على الاستقرار السياسي: مراقبة الأنشطة التي تهدد الاستقرار السياسي، مثل التخطيط للانقلابات أو التحريض على الفتن الداخلية، مما يساهم في ضمان استقرار الحكومات والمؤسسات السياسية، ويعزز من استقرار الحياة العامة وراحة المواطنين.
- مكافحة التجسس: كشف وتجريم محاولات التجسس التي قد تقوم بها دول أو جهات خارجية بهدف سرقة معلومات حساسة أو تقويض الأمن القومي، مما يساهم في حماية مصالح الدولة والحفاظ على سريّة المعلومات الأمنية والعسكرية.
- الاستجابة للكوارث والأزمات: توفير معلومات مهمة يمكن استخدامها في إدارة الأزمات والكوارث، سواء كانت طبيعية أو من صنع الإنسان، مما يسهم في تنظيم الجهود الحكومية والتعاون مع الجهات المعنية لتقديم المساعدة الفورية وحماية المواطنين.
ب. الدور الإيجابي للمخابرات على النظام العالمي:
- مكافحة الإرهاب الدولي: تتعاون أجهزة المخابرات على المستوى الدولي لتبادل المعلومات حول الجماعات الإرهابية وتحركاتها، بهدف منع الهجمات الإرهابية، وتفكيك خلاياها العابرة للحدود، مما يعزز من أمان الدول والشعوب حول العالم.
- منع انتشار الأسلحة الفتاكة: العمل على مراقبة ومنع انتشار الأسلحة الفتاكة وخاصة النووية، وتقنيات الدمار الشامل الأخرى، بهدف الحفاظ على السلام العالمي ومنع وقوع الحروب النووية والكوارث الإنسانية.
- تحقيق الاستقرار الإقليمي: المساهمة في تحليل الأوضاع السياسية والأمنية في مناطق الصراع والفوضى، وتأمين الاستقرار اللازم، مما قد يساهم في تقليل النزاعات المسلحة، وتحقيق السلام في المناطق المضطربة، مما يعزز من استقرار النظام العالمي.
- مكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود: التعاون لكشف وتفكيك شبكات الجريمة المنظمة التي تعمل عبر الحدود، مثل تهريب المخدرات والاتجار بالبشر، بهدف حماية المجتمعات من الأنشطة الإجرامية وضمان تطبيق العدالة الدولية.
ويمكن القول: إن أجهزة الأمن والمخابرات تلعب دورًا محوريًا في الحفاظ على الأمن والاستقرار على المستويين الوطني والعالمي، من خلال جمع وتحليل المعلومات وتنسيق الجهود الأمنية، لضمان استقرار الأنظمة السياسية والاجتماعية.
سلبيات:
بينما تلعب أجهزة الأمن دورًا مهمًا في حماية الأمن القومي، إلا أن هناك جوانب سلبية يمكن أن تؤثر على المواطنين والنظام العالمي، يمكننا إجمالها بما يأتي:
أ. الدور السلبي للأمن والمخابرات على المواطنين
(نرى أن سلبيات مخابرات نظام الأسد تعتبر التجلي الأكبر لهذا الدور) :
- التجسس على المواطنين: حيث تستخدم أجهزة المخابرات سلطاتها لجمع معلومات عن المواطنين دون مبرر قانوني أو أخلاقي، ما أدى ويؤدي إلى انتهاك خصوصياتهم، مما يقوض الثقة بين المواطنين والدولة.
- التعذيب وسوء المعاملة: استخدام أجهزة الأمن والمخابرات التعذيب بأنواعه، للحصول على المعلومات من الأفراد، وهو انتهاك صارخٌ لحقوق الإنسان ومولِّدٌ للكراهية والعداء تجاه الحكومة.
- القمع السياسي: مراقبة المعارضين السياسيين والنشطاء ثم ملاحقتهم وقمعهم، مما يقوض الديمقراطية ويحد من حرية التعبير والتجمع.
- الاستغلال والابتزاز: تستخدم المخابرات المعلومات التي تجمعها لابتزاز الأفراد أو إجبارهم على التعاون معها، مما يؤدي لانتشار الفساد والإساءة إلى السلطة.
ب. الدور السلبي للمخابرات على النظام العالمي:
- التدخل في شؤون الدول الأخرى: بعض أجهزة المخابرات قد تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى لدعم أو تقويض الحكومات، مما يؤدي إلى زعزعة الاستقرار الدولي وتوتر العلاقات الدولية.
- الاغتيالات والمهمات السرية: قد تتورط أجهزة الأمن والمخابرات في عمليات الاغتيالات أو العمليات السرية غير القانونية في الدول الأخرى، مما يخلق القلاقل الدولية ويؤدي لتصاعد التوترات والنزاعات.
- الحروب السيبرانية: بعض أجهزة المخابرات تشن هجمات سيبرانية لتعطيل أو سرقة المعلومات من الدول الأخرى، هذا يمكن أن يؤدي إلى خسائر اقتصادية كبيرة ويقوض الأمن السيبراني العالمي.
- نشر المعلومات المضللة: قد تستخدم المخابرات نشر المعلومات المضللة والبروباغندا لتوجيه الرأي العام أو تقويض أو دعم حكومات لصالح أخرى، مما يخلق حالة من الفوضى وعدم الثقة، ويؤثر سلبًا على الديمقراطية والاستقرار العالمي.
في حين أن دور أجهزة الأمن والمخابرات لعب دورٍ أساسيٍّ في حماية الأمن القومي، إلا أن استخدام سلطاتها بشكل غير مناسب يمكن أن يؤدي إلى تأثيرات سلبية كبيرة على المواطنين والنظام العالمي، ومن هنا كان من المهم وضع ضوابط وآليات رقابة لضمان أن تكون أنشطة أجهزة الأمن ووكالات الاستخبارات متوافقة مع القانون وحقوق الإنسان.
التحديات أمام ترسيخ الدور الايجابي في سورية:
بعد سقوط نظام الأسد، يمكن أن يواجه جهاز الأمن والمخابرات تحديات محتملة، منها:
- الفوضى الأمنية: في حال لم تستطع الإدارة الجديدة ضبط الداخل أو حصل تآمر خارجي، فيصبح من الصعب على جهاز المخابرات الجديد بحكم حداثته السيطرة على الوضع الأمني، مما يؤدي لانتشار الفوضى والعنف، وزيادة التهديدات الأمنية من الجماعات المسلحة وفلول النظام البائد وربما الجريمة المنظمة وحالات الثأر.
- الانتقام والتصفية: قد تسعى بعض الفصائل أو الأفراد إلى الانتقام من عناصر المخابرات السابقة أو المتعاونين معها، مما قد يؤدي إلى موجة من العنف والعنف المضاد، فتزيد التوترات والانقسامات داخل المجتمع.
- التجسس الداخلي: قد تستمر المخابرات في مراقبة المواطنين والتجسس عليهم وخاصة ضمن الظرف الخاص الذي تمر به سورية، مما يثير مخاوف حول انتهاك الخصوصية وحقوق الإنسان، وتقويض الثقة بين المواطنين والحكومة الجديدة، وزيادة الاستياء الشعبي.
- التدخلات الخارجية: قد تتعرض المخابرات لضغوط وتدخلات من قوى خارجية تسعى لتحقيق مصالحها في سورية، وهذا يؤدي إلى تعقيد الوضع السياسي والأمني، وزيادة التوترات المحلية فالإقليمية فالدولية.
- الفساد وسوء الإدارة والاختراق: قد تواجه المخابرات الجديدة تحديات في بناء مؤسسات قوية وشفافة، مما يزيد من احتمالية حدوث فساد وسوء إدارة وربما اختراق، وكل ذلك يؤدي لضعف فعاليتها في تحقيق الأمن والاستقرار.
- التحديات الاقتصادية: قد تواجه المخابرات صعوبات في تأمين التمويل والموارد اللازمة لتطوير قدراتها وتحقيق أهدافها، مما يؤدي إلى ضعف القدرة على مواجهة التهديدات الأمنية وتحقيق الاستقرار.
- الانقسامات الداخلية: قد تعاني المخابرات من انقسامات داخلية بين الفصائل المختلفة، مما يضعف من قدرتها على العمل بشكل موحد وفعال، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى زيادة التوترات وربما حدوث صراعات داخلية، وتقويض جهود تحقيق الأمن والاستقرار.
ومن المهم أن تعمل الحكومة السورية الجديدة على بناء مؤسسات أمنية وأجهزة مخابراتية قوية وشفافة تحترم حقوق الإنسان، وتعمل على تحقيق الأمن والاستقرار الداخلي أولاً وبشكل فعّال، كما ويجب أن تكون هناك آليات رقابة ومساءلة لضمان عدم تكرار أخطاء الماضي، وتحقيق الثقة بين المواطنين والحكومة.
خاتمة:
لقد قدمنا رؤيتنا حول المؤسسة الأمنية في بودكاست التيار (51) وما بعده، وكذلك ضمن أوراق تيار المستقبل السوري، كالورقة المعنونة بـ (تيار المستقبل السوري والمؤسسات العسكرية والشُرَطية وجهاز الأمن والمخابرات)، إن بناء جهاز مخابرات متطور وعصري في سورية يتطلب نهجاً شاملاً يأخذ بعين الاعتبار التجارب الإيجابية لدول أخرى، ويتجنب السلبيات المرتبطة بالنظرة للمخابرات وممارساتها، وهناك بعض الخطوات التي نوصي باتباعها لتحقيق ذلك:
- وضع إطار قانوني متين: وضع قوانين واضحة تحدد مهام وصلاحيات أجهزة الأمن والمخابرات، والتزامها بضمان حقوق الإنسان والمعايير الدولية، والتأكد من وجود شفافية في عملها، وتوفير آليات للرقابة والمساءلة.
- بناء القدرات والتدريب: تطوير برامج تدريبية متقدمة تركز على التحليل الأمني، مكافحة الإرهاب، وجمع المعلومات بأساليب قانونية وأخلاقية، وتبنّي أحدث التقنيات في جمع وتحليل المعلومات، مثل نظم المعلومات الجغرافية، والتحليل البياني.
- تعزيز التعاون الدولي: بناء علاقات تعاون وشراكات مع أجهزة مخابرات دولية محترمة لتبادل المعلومات والخبرات، وتنظيم برامج تدريب مشتركة مع دول متقدمة لتعزيز قدرات المخابرات السورية.
- الحوكمة والرقابة: إنشاء هيئات رقابة مستقلة تتابع أنشطة المخابرات، وتضمن التزامها بالقوانين والمعايير، ووضع آليات للمساءلة تتضمن التحقيق في الانتهاكات ومحاسبة المتورطين.
- الالتزام بحقوق الإنسان: وذلك عبر محورين:
- الأول: تضمين برامج تدريبية حول حقوق الإنسان في مناهج تدريب عناصر الأمن والمخابرات.
- الثاني: التعاون مع منظمات حقوق الإنسان نفسِها لضمان أن تكون عمليات المخابرات متوافقة مع المعايير الدولية.
- التركيز على الاستخبارات البشرية (HUMINT) والتقنية (SIGINT): تحقيق توازن بين جمع المعلومات من المصادر البشرية واستخدام التكنولوجيا الحديثة لتحليل البيانات، والاستثمار في تطوير تقنيات جمع وتحليل المعلومات وتحديثها بانتظام.
- تحسين العلاقات العامة: بناء علاقة جيدة مع المجتمع من خلال التواصل المفتوح والشفاف حول دور المخابرات في حماية الأمن الوطني، وتعزيز الثقة بين جهاز الأمن والمخابرات من جهة والمجتمع من جهة لضمان دعم المواطنين لأنشطة الأمن القومي.
الاستفادة من الأمثلة للأجهزة الأمنية بالدول المتقدمة: مثل المملكة المتحدة، والتي تقدم مثالاً جيدًا على جهاز مخابرات يلتزم بالشفافية ويخضع للرقابة البرلمانية، وكما في ألمانيا، حيث يركز على جمع المعلومات من المصادر التقنية والبشرية ويخضع لرقابة برلمانية صارمة، ومثل كندا حيث يتعاون بشكل وثيق مع منظمات حقوق الإنسان، ويستخدم أساليب قانونية في جمع المعلومات.
أخيراً، إن بناء جهاز مخابرات عصري في سورية يتطلب توازنًا دقيقًا بين تحقيق الأمن الوطني والالتزام بحقوق الإنسان، وذلك من خلال تبني أفضل الممارسات الدولية وتجنب السلبيات المرتبطة بجهاز الأمن والمخابرات، مما يولِّد نظام استخبارات فعال يخدم مصلحة الوطن والمواطن.
ويتعين على جهاز الأمن والمخابرات أن يلتزم بالشفافية المطلقة، وأن يخضع للرقابة والمساءلة لضمان دورٍ إيجابيٍّ وبناء.
ومن خلال تطبيق أفضل الممارسات الدولية والتعلم من تجارب الدول الأخرى، يمكن لسورية بناء جهاز يسهم في تحقيق التنمية والأمن المستدام.
ويبقى الدور الأساسي لأي جهاز أمن ومخابرات، حمايةَ المواطنين، وضمان استقرار المجتمع، مما يضع الأساس لمستقبل آمن وبلد مستقر.
مكتب الرئاسة
د. زاهر بعدراني
مقال
تيار المستقبل السوري