الشيخ الدكتور إحسان بعدرانيالمكتب الدينيحاجتنا إلى فقهٍ جديدسلسلة القراءة المطلوبة (6)مقالات دينية

5- التجديد وفقه التجديد (2): د. إحسان بعدراني

روى البخاري بسنده إلى الزبير بن عدي قال: (أتينا أنسَ بن مالك فشكونا إليه ما نلقى من الحجّاج، فقال: (( اصْبِرُوا فإنّهُ لا يَأْتِيْ عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلا الذي بَعْدَهُ شرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ ))، سمعتُه من رسولكم).
يَتَّخذُ بعضُ القرّاء هذا الخبر النبوي وأمثاله تَكِئَةً للقعودِ عن العمل، والبعد عن محاولة الإصلاح والإنقاذ، مدَّعين أنّ الحديث يدلُّ على أن الأمور في تدهورٍ دائم، وسقوطٍ مستمر، وهويٍّ متتابع، من دركٍ إلى دركٍ أسفل منه، فهي لا تنتقل من سيّءٍ إلاّ إلى أسوأ، حتى تقوم الساعة.

وآخرون توقفوا في قبول هذا الخبر النبوي الشريف، وربما تعجّل بعضهم فردّه ورفضَه! لأنّه في ظنّهم يدعو إلى اليأس والقُنُوطِ، وإلى السّلبية في مواجهة الحياة، كونه يعارض فكرة التطوّر التي قام عليها نظام الكون والحياة، ويُنافِي الواقعَ التاريخيَّ للمسلمين، ويعارض الأحاديث التي تُبشّر بظهور خليفةٍ يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ولأنه يدعو إلى الاستسلام للواقع دون اتخاذ الأسباب لرِفَع هذا الواقع!!
إنّ بعض العلماء وقف من هذا الحديث مستشكلاً الإطلاق فيه، حيث يقول: ( لا يَأْتِيْ عَلَيْكُمْ عَامٌ أَو يَومٌ إِلَّا الذي بَعْدَهُ شرٌّ مِنْهُ حّتَّى تَلْقَوا رَبَّكُمْ ) [عن أنس بن مالك ].
مع أنّ بعض الأزمنة تكون في الشرّ دُوْنَ مَا قَبْلَهَا، فَزَمَنُ عمرَ بنِ عبد العزيز الذي اشتُهر بالرُّشد جاءَ بعد زمن الحجاج الذي عمّت الشكوى منه، ولو قيل: إنّ الشرّ اضمحَلَّ فيه لجاز هذا القول.
والحسن البصري حَمَلَ الخبرَ على الأكثر الغالب.
أمَّا ابن مسعود فقال : أَمَا إنّي لا أعني أمراً خيراً من أمرٍ، ولا عاماً خيراً من عامٍ، ولكنَّ علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون، ثم لا تجدون منهم خلفاء.

ونقولُ: الواقعُ والتاريخُ أثبت أنّه قد جاءت فتراتُ جمودٍ أعْقَبَتْهَا أزمِنةُ تجديدٍ، ففي القرن الثامن الهجري – على سبيل المثال – ظهر مجدّدون بعد سقوط الخلافة الإسلامية، وظهر ابن تيمية وتلميذه ابن القّيم في الشام بعد تدهور الأوضاع في القرن السابع الهجري، وظهر الشاطبيّ في الأندلس، وابن خلدون في المغرب، وغيرهم ممن تَرجم لهم ابن حجر في كتابه المشهور (الدّرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة).
وفي العصورِ التي تَلَتْ، نجد السيوطي في مصر، والشوكاني في اليمن، والدهلوي في الهند، وغيرهم من المجدّدين.
وأمّا زعمُ من يقول: إنّ الحديث يتضمّن دعوةً إلى السكوت على الظلم والخضوع والذُلّ للظالم، والرضا بالمُنكر والفساد، ويؤيّد السلبية في مواجهة الفساد، فَيُرَدُّ عليه بالقول: إنّ أنس بن مالك قال راوياً عن رسول الله قوله: ((اصْبِرُوا ))، ولم يأمرهم بـ ( الرضا ) عن الفساد والظلم والخضوع والذل، والفرق كبير بين الصبر والرضا! فالرضا بالكفر كفرٌ، وبالمنكر منكرٌ، أما الصبر على الشيء وهو يكرهه ويسعى إلى تغييره فشيء آخر، ومن يملك القدرة على تغيير المنكر فعليه تغييره، ومن لا يملك القدرة فعليه بالصبر والأناة وتهييء الأسباب، وإلا فلا يُزال المنكرُ بمنكرٍ أكبر منه!

نقول: أولئك الذين تعاملوا مع التراث، من أقوال الأئمة والفقهاء والمجتهدين، على أنه مفهوم مقدّس كقدسيّة القرآن الكريم والسّنّة الصحيحة، والذين رأوا أنّ كل نقدٍ موجّه للتراث هو نقدٌ موجّه للقرآن والسُّنّة، هم الذين أدخلوا مَنْ يريد تجديد الدين نفقَ الشُّبْهَةِ، ودائرة الشكّ والريبة!!
وللحقيقة نقول: التجديد والإصلاح – في مفهومنا – ليس مواجهةً لهذا التراث، إنه رؤيةٌ جديدة وقراءةٌ مطلوبةٌ، انطلاقاً من أنّ التجديد مصطلحٌ نبويٌّ، وأن الإصلاحَ مصطلحٌ قرآنيٌّ، وإذا كانت الحداثة هي استبدال بُنيةٍ ببنية، فإن التجديد هو خطوة جديدة نحو مفهومٍ جديدٍ لكتاب الله وسنّة رسوله، مع استيعاب القديم والاستئناس به، فليس كلٌّ قديمٍ يُنْبَذُ، وليس كلُّ جديدٍ يُؤْخَذُ.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى