المقدمة:
أصدرت وزارة العدل السورية في 16 كانون الأول (ديسمبر) 2025، قراراً يقضي بدمج المحاكم الجمركية، ومحاكم الاستئناف الجمركي، ودوائر التنفيذ الجمركي في جميع المحافظات مع نظيراتها في عدلية دمشق، وفقاً لأحكام قانون السلطة القضائية رقم 98 لعام 1961 وتعديلاته.
يتضمن القرار نقل جميع الدعاوى والملفات إلى دمشق، مع تكليف المحاكم المدمجة بتسليمها وفق قوائم تفصيلية ومحاضر رسمية، ووضع قضاة المحاكم الجمركية في المحافظات تحت تصرف الوزارة لإدراجهم في التشكيلات القادمة.
يأتي هذا القرار في سياق الإصلاحات القضائية والإدارية التي تشهدها سورية بعد التغييرات السياسية في كانون الأول 2024، والتي تهدف إلى إعادة بناء المؤسسات الدولة في مرحلة انتقالية حرجة.
ويعكس القرار توجها نحو تعزيز المركزية في بعض الجوانب القضائية المتخصصة، في وقت تُناقش فيه قضايا اللامركزية الإدارية والسياسية كجزء من بناء دولة موحدة وفعالة.
تهدف هذه الورقة إلى تحليل موضوعي للقرار، من خلال استعراض إيجابياته وسلبياته، وتأثيراته على الوضع السوري الراهن، مع اقتراح توصيات لتجنب السلبيات وتعزيز الإيجابيات، كما تعتمد الورقة على منهج تحليلي وصفي، مستنداً إلى النصوص القانونية والتقارير الرسمية والدراسات المتعلقة بالإصلاحات القضائية في السياقات الانتقالية.
الخلفية التاريخية والقانونية للقرار:
يعود تنظيم السلطة القضائية في سورية إلى المرسوم التشريعي رقم 98 لعام 1961، الذي يحدد صلاحيات وزارة العدل في الإشراف على الدوائر القضائية، وتنظيم أعمالها الإدارية، وارتباطها بعضها ببعض.
ويمنح القانون الوزارة صلاحيات واسعة في إعادة هيكلة المحاكم المتخصصة، بما في ذلك الجمركية، لأسباب تتعلق بالكفاءة الإدارية والتوحيد.
ففي الفترة السابقة لعام 2024، كانت المحاكم الجمركية موزعة على المحافظات، مما يعكس نمطاً من اللامركزية الإدارية المحدودة.
ومع ذلك، أدى الصراع بين النظام البائد والشعب السوري إلى تعطيل كثير من هذه المحاكم، خاصة في المناطق المتضررة.
بعد التغييرات السياسية وسقوط الأسد، شهدت سورية إصلاحات قضائية أخرى، مثل إلغاء المحاكم الاستثنائية في كانون الأول 2025، كجزء من مسار العدالة الانتقالية.
يُعد قرار الدمج امتداداً لهذه الإصلاحات، حيث يهدف إلى إعادة تفعيل المحكمة الجمركية المركزية في دمشق، كما أُعلن عنه سابقاً في تشرين الأول 2025.
الإيجابيات المتوقعة للقرار:
يحمل القرار عدة إيجابيات محتملة، خاصة في سياق إعادة بناء الدولة:
- توحيد المعايير القضائية وتعزيز الكفاءة: يساهم الدمج في توحيد التطبيق القانوني للقضايا الجمركية، مما يقلل من الاختلافات الإقليمية التي قد تنشأ عن تفسيرات محلية متنوعة. في دول انتقالية، يُعتبر التوحيد خطوة نحو بناء قضاء موحد وفعال، كما في تجارب دول أخرى مثل مصر أو فرنسا حيث تُركز المحاكم المتخصصة في العاصمة.
- مكافحة الفساد والتلاعب: كانت المحاكم الإقليمية عرضة للتأثيرات المحلية، خاصة في قضايا التهريب والجمارك. التركيز في دمشق يعزز الرقابة المركزية، مما يقلل من فرص الفساد ويحسن الشفافية.
- ترشيد الموارد: في ظل التحديات الاقتصادية، يسمح الدمج بتركيز القضاة المتخصصين والموارد الإدارية في مركز واحد، مما يوفر التكاليف ويحسن الأداء، خاصة مع نقص الكوادر في المحافظات البعيدة.
- دعم الإصلاحات الاقتصادية: يأتي القرار في وقت تسعى فيه سورية لجذب الاستثمارات بعد رفع العقوبات، حيث يساهم قضاء جمركي فعال في تسهيل التجارة ومكافحة التهريب.
السلبيات المحتملة والمخاطر:
رغم الإيجابيات، يثير القرار مخاوف مشروعة:
- تعزيز المركزية المفرطة: في سورية متعددة المكونات، قد يُرى الدمج كتراجع عن اللامركزية الإدارية المطالب بها، مما يعزز شعور التهميش في المحافظات البعيدة مثل الحسكة أو درعا.
- صعوبة الوصول إلى العدالة: يتطلب نقل الدعاوى السفر إلى دمشق، مما يزيد التكاليف والجهد على المواطنين، خاصة في ظل ضعف البنية التحتية، وينتهك مبدأ الوصول المتساوي إلى العدالة (المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية).
- ازدحام المحاكم وتأخير الإجراءات: قد يؤدي نقل آلاف الدعاوى إلى ازدحام في دمشق، مما يطيل المدة بدلاً من تبسيطها.
- التأثير على العدالة الانتقالية: في مرحلة انتقالية، قد تُفسر المركزية كاستمرار للسيطرة المركزية السابقة، مما يعيق بناء الثقة.
الخاتمة:
في السياق السوري ما بعد 2024، يأتي القرار ضمن جهود توحيد المؤسسات بعد التشظي.
إيجابياً، يدعم الاستقرار الاقتصادي والقضائي.
سلبياً، قد يعزز التوترات الإقليمية في ظل مطالب اللامركزية من بعض المكونات.
بشكل عام، يعكس توازناً بين الكفاءة المركزية والحاجة إلى عدالة قريبة من المواطن.
ولتجنب السلبيات وتفعيل الإيجابيات فإننا في تيار المستقبل السوري نوصي بالآتي:
- تطوير التقاضي الإلكتروني عبر إنشاء منصات رقمية لتقديم الدعاوى والجلسات عن بعد.
- إنشاء فروع إقليمية محدودة، والسماح بفروع في محافظات رئيسية للإجراءات الأولية.
- تعزيز الكوادر، وتدريب قضاة إضافيين وتوظيف متخصصين.
- مراقبة وتقييم، عبر تشكيل لجنة مستقلة لتقييم التأثير بعد عام.
- ربط باللامركزية العامة، من خلال دمج القرار في إصلاحات أوسع تشمل لامركزية إدارية.
يمثل قرار دمج المحاكم الجمركية خطوة إدارية منطقية نحو الكفاءة، لكنها تتطلب توازناً مع مبادئ الوصول إلى العدالة واللامركزية. في سورية الجديدة، يمكن أن يكون نموذجاً ناجحاً إذا صاحبه إصلاحات تكنولوجية وشاملة، مما يساهم في بناء دولة قضائية عادلة وفعالة.
المراجع:
- وزارة العدل السورية. (2025). قرار دمج المحاكم الجمركية. متاح على: sana.sy و syria.tv.
- المرسوم التشريعي رقم 98 لعام 1961 (قانون السلطة القضائية) وتعديلاته. متاح على: parliament.gov.sy.
- الشبكة السورية لحقوق الإنسان. (2025). تقارير حول العدالة الانتقالية.
- مركز كارنيغي للسلام الدولي. (2025). تقارير حول الحوكمة في سورية ما بعد الأسد.
- الجزيرة نت وتقارير إعلامية أخرى حول الإصلاحات القضائية 2025.