ليست المشكلة في المال، بل في من يضع شروطه.
وليست المعضلة في القروض، بل في من يرسم معالم الطريق الذي يقود إليها.
فحين يطرق البنك الدولي باب دولة خارجة من حرب، أو تفتح صندوق النقد ملفاتها المرهقة، لا يكون السؤال عن حجم التمويل فحسب، بل عن الكلفة السياسية والإنسانية والأخلاقية التي يحملها ذلك التمويل.
سورية اليوم، وهي تقف أمام أبواب إعادة البناء بعد عقدين من الحرب والانهيار الاقتصادي، تواجه واحدة من أكثر المعضلات حساسية في تاريخها الحديث: كيف يمكن أن تستفيد من أدوات النظام المالي الدولي دون أن تتحول إلى رهينةٍ في يده؟ كيف يمكن أن تستعيد ثقة المؤسسات الدولية دون أن تفقد سيادتها في تقرير مصير اقتصادها ومجتمعها؟
فالبنك الدولي، بما يمثله من نفوذ هائل في توجيه السياسات الاقتصادية للدول النامية، لا يدخل دولةً إلا ومعه وصفة جاهزة للإصلاح، تبدأ بالهيكلة وتنتهي بالخصخصة، تمرّ عبر تقليص الدولة وتحرير السوق.
وهذه الوصفة – وإن جاءت تحت شعار "تحفيز النمو" – غالباً ما تركت وراءها مجتمعات ممزقة وطبقات وسطى متآكلة، حين لم تستطع حكوماتها أن توازن بين ضرورات السوق وحقوق الناس.
في جوهر فكرة التدخل الدولي:
من البديهي القول أن البنك الدولي ليس مؤسسة خيرية ولا جهازاً استعمارياً بالمعنى القديم، بل هو تعبير عن منظومة اقتصادية عالمية ترى في السوق الحرّ الطريق الطبيعي لتنظيم العالم، ووظيفته المعلنة دعم التنمية والاستقرار المالي، لكن أدواته تقوم على فرض سياسات محددة مقابل التمويل، فتغدو المساعدة نوعاً من التوجيه السياسي المقنّع.
ومن الخطأ النظر إلى تدخل البنك الدولي باعتباره شرا مطلقا، كما تفعل بعض الخطابات الأيديولوجية، أو خيراً مطلقا كما يراه أنصار النيوليبرالية.
فالبنك، في صورته الواقعية، هو جهازٌ عقلانيّ شديد البرود، لا يهمه من الأمر سوى الأرقام والنِّسب، لا العدل ولا المعاناة.
إنه يقيس نجاح الدولة بقدرتها على ضبط عجزها المالي وخفض دعمها الاجتماعي وتحرير أسواقها، أما ما يحدث بعدها في الشارع من بطالة وفقر واحتقان، فليست من اختصاصه.
هذا المنطق الكميّ المحض قد يصلح لدولة مستقرة ذات مؤسسات راسخة وشبكة حماية اجتماعية متينة، لكنه يصبح سيفًا ذا حدٍّ واحد في بلد هشٍّ خرج للتو من حرب، ففي مثل هذه البيئات، يكون رفع الدعم، وتحرير الأسعار، وتخفيض الإنفاق العام إجراءات قاتلة، لأنها تُفرض على اقتصادٍ لم يُشفَ بعد من جراحه، وعلى مجتمعٍ يعيش على حافة الفقر والعوز.
التجارب السابقة: حين دخل البنك فانهارت العدالة:
منذ سبعينيات القرن الماضي، دخل البنك الدولي وصندوق النقد إلى عشرات الدول تحت شعار "الإصلاح الهيكلي"، فكان ما حدث في أمريكا اللاتينية وإفريقيا والشرق الأوسط درسا قاسيا.
ففي مصر، أدى تطبيق توصيات البنك إلى تضخمٍ هائل وانكماشٍ في الطبقة الوسطى. وفي تونس، رَفعُ الدعم عن الخبز والوقود أشعل احتجاجات دامية في الثمانينيات. وفي الأردن، حين فُرضت سياسات التقشف، خرج الناس إلى الشوارع لأنهم لم يروا في "الإصلاح" سوى تراجعٍ عن أبسط مقومات الكرامة المعيشية.
هذه الأمثلة وغيرها ليست مصادفة، بل نتيجة منطق واحد يرى أن السوق إذا تُرك حرّاً فسيجد التوازن بنفسه.
لكن السوق لا يعرف الرحمة، ولا يهتم بمصير الفقراء أو بقدرة الناس على الصمود في مواجهة موجات الغلاء. فالسوق، ببساطة، لا يحكمه ضمير.
ولذلك، فإن دخول البنك الدولي إلى أي دولة لا يمكن أن يكون بريئاً من أثرٍ اجتماعي عميق سلبي، فهو يدفع الحكومات نحو سياسات تقشفية بحجة تصحيح المسار المالي، لكنه في الواقع يُفرغ دور الدولة من جوهره، ألا وهو حماية مواطنيها من تقلبات السوق وضمان حدٍّ أدنى من العدالة.
سورية واستحقاق البناء:
حين يُطرح اليوم سؤال هل تحتاج سورية إلى البنك الدولي؟ تكون الإجابة مركّبة.
نعم، تحتاج إلى خبراته الفنية، وإلى دعمه في إدارة الملفات المالية وإعادة هيكلة البنية التحتية، وإلى الدخول في شبكات التمويل الدولية التي تمنحها ثقة واستقراراً.
لكن لا، لا تحتاج سورية إلى وصفاته الجاهزة التي أضعفت دولاً قبلها.
سورية ليست دولة فقيرة بالمعنى التقليدي، بل دولة مُنهَكة بفعل الحرب والفساد والعقوبات، تحتاج إلى إعادة بناء مؤسساتها قبل إعادة بناء شوارعها.
وحين يقترب البنك الدولي من هذه الحالة، سيحاول أن يفرض أدواته المعتادة، مِن تحرير سعر الصرف، وخفض الدعم، وفتح الأسواق، وتقليص القطاع العام… هنا تبدأ المعضلة.
إن خضوع سورية لهذه الشروط دون تعديلٍ جوهري سيقود إلى تفكك ما تبقى من الطبقة الوسطى، وإلى ارتفاع جنوني في الأسعار، وإلى فتح الأبواب أمام رؤوس الأموال الأجنبية لتسيطر على قطاعات الطاقة والاتصالات والمصارف، وعندها لن تكون الدولة السورية حرة في إدارة اقتصادها، بل ستتحول إلى منفذٍ لتعليمات تصدر من واشنطن أو باريس أو جنيف.
بين السوق والدولة:
الاقتصاد ليس علماً تجريدياً، بل منظومة قيمٍ ومصالح.
والسوق ليس مكانا محايدا كما يُقال، بل هو انعكاس لتوازن القوى داخل المجتمع.
وحين يقال إن "الدولة يجب أن تنسحب من الاقتصاد" فإن المقصود عمليا أن يملأ رأس المال مكانها. وحين يُقال إن "الدعم يشوّه الأسعار" فإن الحقيقة أن غياب الدعم يشوّه العدالة، فالدولة التي لا تدعم فقرائها، ولا تحمي منتجاتها المحلية، ولا تضع حدا لجشع الأسواق، تفقد مشروعيتها الاجتماعية مهما بلغت قوتها الأمنية.
والاقتصاد الذي يُترك للمنافسة المطلقة يتحول إلى غابةٍ يربح فيها الأقوى لا الأكفأ، ويُقصى منها الأضعف لا العاجز.
لذلك، ليس المطلوب من سورية أن ترفض السوق، بل أن تُخضعه لمعايير العدالة والتنمية، لا لمعايير المضاربة والربح السريع، فالسوق أداة، لا عقيدة، والدولة راعية، لا تاجرٌ منافس.
العدالة الاجتماعية ليست ترفا:
في الأزمات، تميل الحكومات إلى تبني خطابٍ تقشفي بحجة الواقعية، فتخفض الإنفاق وتوقف الدعم وتحرر الأسعار.
لكن التاريخ الاقتصادي الحديث يثبت أن المجتمعات التي واجهت الأزمات الكبرى — من أوروبا بعد الحرب الثانية إلى شرق آسيا في التسعينيات — لم تنجُ إلا حين جمعت بين الكفاءة الاقتصادية والتماسك الاجتماعي.
والعدالة الاجتماعية لن تكون عائقًا أمام النمو، ولكنها شرطٌ له، لأن الاقتصاد القائم على التفاوتات الحادة لا يستقر، والمجتمع الذي يُقصى فيه الفقراء عن أبسط حقوقهم يصبح هشّا قابلا للانفجار.
لهذا، فإن أي مشروع لإعادة بناء سورية يجب أن يجعل من العدالة الاجتماعية قاعدةً لا بنداً ثانويًا.
يجب أن يُعاد تعريف الدعم ليس بوصفه عبئا ماليا، بل استثماراً في استقرار المجتمع.
ويجب أن يُنظر إلى الضرائب التصاعدية ليس كعقوبة للأغنياء، بل كأداة توازن بين الطبقات.
ويجب أن تكون حماية المنتج المحلي جزءاً من الأمن القومي، لا مخالفةً لحرية السوق.
ما الذي يمكن أن تستفيده سورية من البنك الدولي؟:
في المقابل، لا يمكن تجاهل ما يملكه البنك الدولي من أدوات يمكن أن تُفيد سورية إذا أُحسن توظيفها.
فالبنك يمتلك خبرات هائلة في إدارة الإحصاءات والبيانات الاقتصادية، وفي إصلاح الأنظمة الضريبية والمصرفية، وفي تمويل مشاريع البنية التحتية الكبرى بشفافية نسبية إذا وُضعت الضمانات الوطنية الكافية.
ويمكن لسورية أن تستفيد من هذه الجوانب الفنية دون أن تفتح الباب لهيمنته على القرار الاقتصادي، ويكمن مفتاح النجاح في وضع خطة تفاوض وطنية تسبق أي اتفاق محتمل، بحيث تكون الدولة السورية — بعد إعادة تشكيل مؤسساتها الشرعية — صاحبة رؤية مستقلة وليس متلقية للأوامر.
هذه الرؤية يجب أن تضع خطوطًا واضحة:
١- لا مساس بالدعم الأساسي للغذاء والطاقة قبل استقرار الدخل الوطني.
٢- لا خصخصة للقطاعات السيادية كالمياه والكهرباء والاتصالات.
٣- لا تحرير كامل للعملة قبل بناء قاعدة إنتاجية قادرة على امتصاص الصدمات.
٤- لا فتح غير مشروط للاستثمار الأجنبي دون حماية للمنتج المحلي.
آلية التعامل المقترحة:
من أجل تحقيق ذلك، نقترح في تيار المستقبل السوري أنه يمكن لسورية أن تعتمد نموذج الشراكة المشروطة بدل الانخراط الكامل في برامج التكيّف الهيكلي.
أي أن تُبرم اتفاقات قطاعية محددة مع البنك الدولي، كلٌّ منها يخضع لتقييم وطني مستقل، بحيث لا يكون التمويل مدخلًا للتبعية.
كما يمكن إنشاء مجلس سياسات اقتصادية ومالية مستقل يضمّ خبراء وطنيين من الداخل والخارج، يتولّى التفاوض مع المؤسسات الدولية ويقدّم للحكومة تقارير تقييم دورية تضمن الشفافية والمساءلة.
هذا المجلس سيكون بمثابة درعٍ يحول دون تسرب القرار الاقتصادي إلى أيدي جهات لا تراعي مصلحة السوريين.
إلى جانب ذلك، ينبغي أن يُعاد تعريف مفهوم "الاستثمار" في الخطاب الرسمي السوري.
فالاستثمار وإن كان تدفق أموال أجنبية، لكنه بالحقيقة بناء قدرات وطنية مستدامة.
ولا معنى لجذب رؤوس أموال إذا كانت ستستنزف الموارد الطبيعية وتُخرج الأرباح إلى الخارج دون أن تخلق قيمة مضافة حقيقية داخل البلاد.
من أجل توازن جديد:
العالم اليوم لم يعد منقسما بين رأسمالية واشتراكية، بل بين من يجعل السوق في خدمة الإنسان، ومن يجعل الإنسان في خدمة السوق.
وسورية التي دفعت ثمنًا باهظًا في سبيل حريتها واستقلالها، لا يمكن أن تستبدل الاستبداد السياسي باستبداد مالي جديد يأتي على هيئة إصلاح اقتصادي.
إننا بحاجة إلى ليبرالية مسؤولة، تؤمن بالمبادرة الفردية والمنافسة، لكنها لا تترك الضعفاء لمصيرهم.
إلى اقتصاد حرّ من الفساد، لا حرّ من العدالة.
إلى اشتراكية خضراء تعيد التوازن بين الإنسان والطبيعة، بين الربح والحياة، بين الحاضر والمستقبل.
هذه ليست شعارات عاطفية، بل دروسٌ من تجارب الأمم التي سارت في هذا الطريق من قبل.
فالصين مثلاً، رغم انفتاحها الاقتصادي، حافظت على قبضة الدولة في توجيه السوق.
وماليزيا تجاوزت أزمتها لأنها رفضت الخضوع الكامل لشروط صندوق النقد في التسعينيات.
ودول أمريكا اللاتينية، بعد عقودٍ من التقشف المفروض، عادت لتكتشف أن التنمية لا تُبنى على حساب الناس، بل من أجلهم.
ولكي تكون سورية شريكة لا تابعة في علاقتها بالبنك الدولي، يجب أن تمتلك رؤية اقتصادية واضحة، تستند إلى مبادئ وطنية صارمة:
- السيادة الاقتصادية: أي أن يكون القرار المالي جزءا من القرار الوطني، لا ورقة تفاوض خارجية.
- الشفافية والمساءلة: فلا قروض دون رقابة، ولا اتفاقات دون علم الرأي العام.
- التنمية المتوازنة: بحيث توزع الاستثمارات على المحافظات والمناطق وفق احتياجاتها الحقيقية، لا وفق مصالح النخب.
- تمكين الطبقات الضعيفة: عبر برامج دعم إنتاجي وتشغيل حقيقي، لا عبر تحويلات مؤقتة.
- إصلاح النظام المالي الداخلي أولا: قبل طلب القروض، يجب إصلاح إدارة الموارد ومكافحة الفساد الداخلي الذي أهدر ثروات البلاد.
نحو تفاوضٍ عادل ومتكافئ مع البنك الدولي:
ليس من المحتم أن تكون العلاقة مع البنك الدولي علاقة خضوع أو تبعية!.
يمكن، إذا توفّر الوعي والخبرة والشرعية الوطنية، أن تتحول إلى شراكة متكافئة قائمة على المصالح المتبادلة.
لكن إقناع البنك بشروط عادلة لسورية يتطلب آلية تفاوض ذكية ومتصاعدة، تتدرّج من بناء الموقف الوطني إلى المرافعة التقنية، وفق المسارات التالية:
- إعداد رؤية وطنية شاملة قبل بدء التفاوض، تحدد بوضوح: ما الذي تحتاجه سورية؟ ما حدود ما يمكن القبول به؟ وما الخطوط الحمراء التي لا تُمسّ؟
فالبنك الدولي لا يحترم إلا الحكومات التي تمتلك رؤية متماسكة وبيانات دقيقة.
ومن يدخل إلى التفاوض دون أرقام ومؤشرات سيُدار من الخارج لا محالة. - صياغة خطاب اقتصادي عقلاني يربط العدالة بالكفاءة، إذ يجب ألا تُقدَّم المطالب السورية بلغةٍ أيديولوجية، بل بلغة النتائج: أن دعم الفقراء يحفظ الاستقرار، وأن الدعم الموجّه يضمن الإنتاج، وأن السوق لا يعمل بلا أمان اجتماعي.
فالبنك، وإن كان أداة نيوليبرالية، أصبح أكثر حساسية أمام الرأي العام الدولي، ويمكن إقناعه بمشروعات "تنمية مستدامة" ذات طابع اجتماعي إذا صيغت بخطابٍ احترافي. - التحالف مع الدول الصديقة داخل الجمعية العامة للبنك الدولي فقرارات البنك لا تُتخذ من فراغ، بل تصوَّت عليها مجالس المحافظين وممثلو الدول المساهمة.
ومن الممكن لسورية أن تبني شبكة دعم من دولٍ نامية تشترك معها في رؤية تنموية عادلة، لتشكّل كتلة تفاوضية تفرض شروطًا أكثر توازنًا. - تقديم خطة إصلاح ذاتي شفافة، تُظهر جدية الدولة في محاربة الفساد وتحسين الإدارة، لأن ذلك يُضعف مبررات فرض الوصاية الخارجية.
فحين يرى البنك خطوات إصلاحٍ حقيقية، يصبح مستعدا لمنح تمويلات بشروط أخفّ.
أما حين يرى الفساد مستمرّا، فيفرض وصايته بدعوى حماية أمواله. - توظيف الكفاءات السورية في الخارج في فرق التفاوض والاستشارة، ممن يفهمون لغة المؤسسات المالية الدولية ويستطيعون ترجمة الرؤية الوطنية بلغة الأرقام والتقارير.
فالكثير من مفاوضي البنك السابقين من أصول عربية أو آسيوية، ويمكن لمفاوضٍ وطنيٍّ متمكن أن يغيّر اتجاه النقاش إذا دخل من باب المهنية لا الشعارات. - تجزئة الملفات بدل التفاوض الشامل، بحيث يُفتح الحوار مع البنك في قطاعات محددة (كالكهرباء، التعليم، الإحصاء ونحوهم) دون منح تفويضٍ شامل على الاقتصاد.
هذا الأسلوب يمنح سورية مساحة مراجعة وتقييم قبل الانتقال إلى المرحلة التالية.
بهذه الطريقة، لا يكون التفاوض مع البنك الدولي مقامرة، بل عملية سيادية محسوبة تُدار بعقل بارد وقلب حارّ، وتحفظ مصلحة السوريين وتعيد دمج البلاد في الاقتصاد العالمي من موقع الندّية لا التبعية.
ونقول هنا، إن تيار المستقبل السوري يؤمن أن استقلال القرار الوطني لا يعني الانغلاق، كما أن الانفتاح لا يعني الارتهان.
فسورية التي تنهض من ركام الحرب لا تحتاج إلى وصاية جديدة، بل إلى شركاءٍ يحترمون إرادتها وخياراتها.
ولذلك، فإننا في المكتب الاقتصادي لـِ تيار المستقبل السوري نرى أن أي علاقة مع البنك الدولي يجب أن تُبنى على أساسٍ واضح:
- أن العدالة الاجتماعية ليست بندا تفاوضيا، بل حقٌّ وطنيٌّ لا يُمس؛
- أن السوق وسيلة لخدمة الإنسان، لا أداةً لاستغلاله؛ وأن التنمية التي لا تحفظ كرامة الناس ليست تنمية، بل انتقالٌ من خرابٍ إلى خرابٍ آخر.
وعليه، ندعو كل القوى الوطنية والاقتصادية السورية إلى أن تتعامل مع هذا الملف بعقلٍ منفتحٍ وضميرٍ يقظ، وأن تدرك أن أخطر ما يواجه سورية اليوم ليس الدمار المادي، بل الاستسلام الذهني لفكرة أن الخارج هو من يملك الحل، فالحل في الداخل، في الإدارة الرشيدة، في النزاهة، في الإنتاج، في الثقة بالنفس، وفي قدرة السوريين على أن يقولوا للعالم: نحن لا نرفض التعاون، لكننا نرفض التبعية؛ نحتاج إلى الشركاء، لا إلى الأوصياء؛ وسنبني اقتصادًا حرّاً بعدالة، قويّاً بإنسانيته، سوريّاً بقراره.
خاتمة:
من واجب أي تيار وطني أن يرفع صوته حين يقترب القرار الاقتصادي من حدود السيادة، وهنا نقول: إن التعامل مع البنك الدولي ضرورة محتملة، لكنه أيضا اختبار للوعي الوطني. فالدول التي تملك رؤية تفاوضية واعية يمكن أن تحوّل القرض إلى فرصة للنهوض، أما الدول التي تدخل من باب الحاجة العاجلة، فتخرج مثقلة بالديون ومكبلة بالشروط.
وعليه، فإن تيار المستقبل السوري يمكن أن يوصي بما يلي:
أولا: ضرورة تأسيس لجنة وطنية دائمة للعلاقات المالية الدولية، تكون مرجعية في أي تفاوض مع البنك الدولي أو غيره، وتشمل خبراء من الداخل والخارج ممن كسبوا خبرة واحتراماً وطنيا، لضمان التوازن المهني والسياسي.
ثانيا: رفض أي التزام مالي دولي لا يمر عبر برلمان منتخب أو هيئة وطنية شرعية تملك حق المساءلة.
ثالثا: تبنّي مبدأ "الإصلاح من الداخل أولًا"، أي معالجة الاختلالات المالية عبر إعادة توزيع الموارد ومحاربة الفساد، قبل اللجوء إلى القروض الخارجية.
رابعا: إطلاق حوار وطني اقتصادي شامل يشارك فيه القطاع الخاص والنقابات والمجتمع المدني، لتحديد أولويات إعادة البناء، حتى لا تُترك هذه المهمة للخبراء الدوليين وحدهم.
خامساً: بناء خطاب اقتصادي جديد يجعل العدالة الاجتماعية محورا للنمو، وليس نتيجة جانبية له.
سادساً: التعاون المشروط مع البنك الدولي في مجالات البنية التحتية والإحصاءات والإدارة، مع الحفاظ الصارم على القطاعات الاستراتيجية في يد الدولة.
إن سورية الجديدة التي نحلم بها لا يمكن أن تُبنى على منطق التبعية، ولا على منطق الانغلاق، بل على توازن حكيم بين الانفتاح والسيادة، بين السوق والدولة، بين الربح والمسؤولية.
فلا وطن يقوم على اقتصادٍ بلا إنسان، ولا اقتصاد ينهض في وطنٍ بلا عدالة.