التطبيل السياسي بين الماضي والحاضر

مقدمة:
الاستمرارية والتحول في الخطاب السياسي السوري:

تشكل ظاهرة اتهام المؤيدين للسلطة الجديدة بـ"التطبيل" إشكالية عميقة في المرحلة الانتقالية الحالية، وتستدعي تحليلاً متعدد الأبعاد يربط بين الفلسفة السياسية والسيكولوجيا المجتمعية والتحول التاريخي.

فبعد سقوط نظام بشار الأسد، برز خطاب يرفض أي تأييد للسلطة الجديدة بقيادة أحمد الشرع باعتباره امتداداً لظاهرة "التشبيح" و"التطبيل" التي عرفها النظام السابق، وهذا الرفض يخلط بين مفهومين مختلفين جوهرياً:
التأييد السياسي المشروع في سياق ديمقراطي قائم على التعددية والنقد.
والتطبيل بوصفه آلية سلطوية لإلغاء العقل والنقد.
تهدف هذه الورقة إلى تحليل هذه الإشكالية وتحقيق التمييز الفلسفي والسياسي بين المفهومين، انطلاقاً من تحليل جذور الظاهرة في العهد الأسدي وامتداداتها في المرحلة الراهنة.

الإطار النظري، التطبيل كآلية سلطوية:

في المفهوم والآليات، يمكن تعريف التطبيل بأنه "المبالغة المفرطة وغير الموضوعية في مدح شخص أو جهة أو مؤسسة، وتقديمها على أنها فوق النقد ومعصومة من الأخطاء، غالباً بدافع التملق، وتحقيق المصالح، أو الخوف من العقاب" .
وهذا المفهوم يتجاوز كونه مجرد ممارسة خطابية ليتحول إلى أداة لإخضاع الوعي الجمعي وتدمير القدرة على النقد.
وقد أخذ التطبيل اسمه من صورة قرع الطبول الصاخبة لجذب الانتباه والتأثير على العقول، حتى لو كانت الحقائق معاكسة تماماً.

وفي السياق السوري، تحوّل التطبيل من مجرد ظاهرة خطابية إلى ما يشبه "الحالة التشبيحية"، حيث لا يقتصر على التمجيد والتهليل، بل يتعداه إلى الضغط على الناس لقبول خطاب التقديس وترديده، بحيث يصير سلوكاً جماعياً ضاغطاً يفرض على الأفراد الانصياع له.

وأما في الأسس السيكولوجية والاجتماعية، فتعمل آلية التطبيل وفق عدة دوافع نفسية واجتماعية، منها:

  • الخوف والبقاء: في البيئات القمعية، يصبح أي تعبير نقدي مخاطرة شخصية، فيلجأ الأفراد إلى المبالغة في المديح كوسيلة حماية من الملاحقة الأمنية أو الإقصاء الاجتماعي.
  • الطمع والامتيازات: يصبح التطبيل استثماراً نفعياً للحصول على منافع مادية أو وظيفية، حيث يتحول إلى "عملة" يتداولها أصحاب الطموح في بيئات تفتقر لمعايير النزاهة.
  • الآلية النفسية التعويضية: في فترات الانتقال، يشعر بعض المهمشين سابقاً أن قربهم من السلطة الجديدة يعوض عن ماضيهم، فيلجؤون إلى التطبيل وكأنه إعلان انتصار شخصي.
  • اضطراب الهوية السياسية: يفقد الأفراد الذين نشؤوا في بيئة قمعية القدرة على التمييز بين الالتزام الواعي وبين الارتهان النفسي لرموز تعويضية.

الجذور التاريخية، التطبيل في عهد الأسد كنموذج للاستبداد:

بنى حافظ الأسد نظاماً سياسياً اعتمد على عبادة الشخصية المبالغ فيها، حيث تحول الخطاب السياسي إلى "مستنقع التطبيل" الذي يختلط فيه "النفاق المركب مع جوقة من المتملقين والمطبّلين الذين ينسجون حول الحاكم أسطورة تأليه مبالغ فيها".
وقد تجلى هذا في عبارات مثل "أنت قليل عليك الوطن العربي، يجب أن تقود العالم" قالوها لابنه بشار، والتي مثلت "انزياحاً سياسياً قاتلاً كان يرمي إلى تحويل شخصية سياسية محدودة الإمكانيات وذات سجل متناقض إلى نموذج قوة مطلقة".

ثم تحوّلت الموالاة في عهد الأسدين إلى "التزام غير مكتوب" يضغط على الأفراد للانصياع له.
وبرزت ما يمكن تسميته بـ"المنحبكجية" الذين تحولت علاقتهم المعلنة بالسلطة إلى خطاب عاطفي غير سياسي، حيث صارت العلاقة بالسلطة تُعبّر عنها عاطفياً لا سياسياً.

وفي تلكم البيئة، لم يعد الولاء مجرد تأييد سياسي، بل تحول إلى "إثبات إخلاص" يتطلب من الفرد المبالغة في تمجيد الحاكم كلما ازداد قهره.

المرحلة الانتقالية، من منطق الثورة إلى إدارة الدولة:

مع سقوط نظام الأسد وبروز قيادة أحمد الشرع كرئيس للفترة الانتقالية، تغيرت طبيعة السلطة من نظام استبدادي وراثي إلى سلطة انتقالية تواجه مهمة بناء الدولة من أنقاض الحرب، وهذا التحول الجوهري يستدعي إعادة تعريف علاقة المواطن بالسلطة، فالسلطة الجديدة لا تمثل نظاماً قمعياً وراثياً، بل تمثل مرحلة انتقالية تخضع للمساءلة والمحاسبة.

يبدو أنه قد برزت في المرحلة الانتقالية ثلاثة أنماط من الخطاب:

  • خطاب الرفض المطلق: يرفض أي شكل من أشكال التأييد للسلطة الجديدة ويعتبره استمراراً للشبيحة.
  • خطاب التأييد غير النقدي: يقع في فخ إعادة إنتاج ثقافة التمجيد التي ورثها من العهد السابق.
  • خطاب التأييد النقدي: يؤيد السلطة لكنه يحافظ على حقه في النقد والمساءلة.

وفي التمييز الفلسفي بين "التطبيل" و"التأييد المشروع"، لابد من وضع معايير له، إذ يمكن التمييز بين المفهومين من خلال عدة معايير:

  • ·المرجعية: التطبيل قائم على العاطفة والتبعية غير المشروطة، بينما التأييد المشروع قائم على الأداء والبرامج والسياسات.
  • ·موقف المؤيد من الأخطاء: التطبيل ينكر الأخطاء ويبرر الإخفاقات، بينما التأييد المشروع يعترف بالأخطاء ويطالب بتصحيحها.
  • الدافع: التطبيل مدفوع بالخوف أو الطمع أو التعويض النفسي، بينما التأييد المشروع مدفوع بالاقتناع بالمشروعية والأداء.
  • رؤية الآخر: التطبيل يرفض الرأي المخالف ويتهم نواياه، بينما التأييد المشروع يحترم التعددية ويعترف بشرعية الاختلاف.
  • العلاقة بالسلطة: التطبيل يقوم على علاقة تبعية وخضوع، بينما التأييد المشروع يقوم على علاقة مساءلة ومشاركة.

وهنا لابد، بل ويجب التأكيد على أن أحمد الشرع لا يماثل بشار الأسد ولا بحال، ولا يمكن مساواة التأييد له بالتطبيل للأسد، لعدة أسباب جوهرية:
· الشرع وصل إلى السلطة عبر عملية انتقالية في مرحلة ما بعد الثورة، بينما ورث الأسد السلطة عبر نظام وراثي استبدادي.
· سلطة الشرع انتقالية ومؤقتة، بينما كان نظام الأسد دائمياً وغير خاضع للمساءلة.
· الشرع يواجه مهمة بناء دولة من الدمار، بينما كان الأسد مسؤولاً عن تدمير الدولة.

السيكولوجيا المجتمعية، من التبعية إلى المواطنة:

١- إرث الاستبداد وصعوبة التحول:
تكمن جذور إشكالية "التطبيل" في البنية الذهنية التي تشكلت على مدى عقود من الحكم الاستبدادي. فـ"الذين اعتادوا لسنوات تمجيد الأسد، انتقلوا بسلاسة إلى تمجيد البديل الذي يحمل خطابًا مناقضًا له". هذا التناقض الظاهري يكشف استمرار الآلية نفسها في التفكير، فالتزلّف لا ينبع من موقف سياسي بقدر ما هو "فعل دفاعي نفسي، يعكس اضطراب الهوية الذي يعاني منه عدد لا يستهان به من السوريين".
٢- نحو وعي ديمقراطي:
التحرر من التطبيل يتطلب تحولاً من عقلية التبعية إلى عقلية المواطنة، حيث يتحول الفرد من كونه خاضعاً للسلطة إلى شريك في صنعها ومراقب لأدائها. وهذا التحول ليس سهلاً، فـ"زوال النظام لا يفضي تلقائيًا إلى ولادة وعي ديمقراطي، بل قد يُنتج أشكالًا جديدة من الولاء الأعمى تحت شعارات مختلفة".

خاتمة، نحو ثقافة سياسية جديدة:

إن اتهام كل من يؤيد السلطة الجديدة بـ"التطبيل" يمثل إشكالية حقيقية تعيق تطور الممارسة الديمقراطية ما بعد الأسد.
فالديمقراطية الحقيقية تحتاج إلى مساحة للتأييد والمعارضة، للتقدير والنقد، للإشادة والمساءلة.
ولا يمكن اختزال كل تأييد للسلطة الجديدة بأنه "تطبيل"، كما لا يمكن وصف كل معارضة بأنها "خيانة".

إن التمييز بين التطبيل والتأييد المشروع يقوم على النقد والموضوعية والاعتراف بحق الاختلاف، فالتأييد المشروع هو تأييد نقدي، يعترف بالإنجازات ويشير إلى الأخطاء، يقدم الدعم لكنه يحافظ على الحق في المساءلة.
بينما التطبيل هو تأييد أعمى، يقدس السلطة ويعتبرها معصومة من الخطأ.

وعليه، فإننا نرى في تيار المستقبل السوري أن العقلية السياسية السورية الراهنة تحتاج إلى ثقافة سياسية جديدة، ثقافة تقبل بالاختلاف، وتحترم التعددية، وتميز بين التأييد السياسي المشروع وبين التطبيل كإرث استبدادي. فالمجتمع الديمقراطي هو مجتمع "على مسافة واحدة من مواطنيه"، يحتفظ بحقوقه في المساءلة والمحاسبة، بغض النظر عن هوية من في السلطة.

والتحرر من التطبيل هو شرط سياسي وثقافي لأي مشروع نهضوي حقيقي، ومن دونه، سنظل ندور في حلقة مفرغة، نستبدل وجهاً بوجه، لكننا نحتفظ بنفس العقلية الاستبدادية.

فـ"هذه الدورة من التمجيد المسرحي واللغو السياسي أنتجت جمودًا متقناً يعيد إنتاج الأزمة السورية يوما بعد يوم".
والخروج منها يتطلب "بناء ثقافة سياسية وطنية تقوم على الشفافية والمساءلة، وإعادة تأسيس إطار يسمح للنقد البنّاء بالانفتاح" .

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع