واقع الحدائق العامة في سورية: بين ضغوط الاستثمار وضرورات التنمية المستدامة

الملخص:

يشهد ملف الحدائق العامة في سورية، ولا سيما في العاصمة دمشق، جدلاً متزايدًا في السنوات الأخيرة نتيجة التوجه الحكومي نحو إدراج بعض المساحات الخضراء ضمن مشاريع استثمارية تحت مظلة إعادة الإعمار والتنمية السياحية، تهدف هذه الدراسة إلى تحليل واقع الحدائق في سورية في ضوء هذا التوجه، ومناقشة مخاطره الاجتماعية والبيئية والحضرية، مع مقارنته بتجارب دولية ناجحة في إدارة الفضاء العام، واستعراض الأطر القانونية الوطنية والدولية ذات الصلة، وصولًا إلى توصيات عملية موجهة لصناع القرار والقطاع الخاص والمجتمع المدني.

أولًا، خلفية عامة وأهمية البحث:

تُعدّ الحدائق العامة أحد أبرز مكونات البنية الحضرية الحديثة، لما تمثله من وظائف بيئية واجتماعية وثقافية، في المدن السورية، وخصوصًا دمشق، ارتبطت الحدائق تاريخيًا بالهوية المدنية والذاكرة الجماعية، إلا أن السنوات التي تلت عام 2011 شهدت تراجعًا كبيرًا في صيانة هذه المساحات، إلى جانب ضغوط عمرانية واقتصادية متزايدة دفعت بعض البلديات إلى التفكير في استثمارها ضمن عقود تجارية أو سياحية.
ففي سبتمبر/أيلول 2025، أعلنت الحكومة السورية توقيع عقود استثمار سياحي بقيمة 1.5 مليار دولار تشمل مشاريع ترفيهية وفندقية في عدد من المدن (Reuters, 2025).
ورغم أن الإعلان لم يشر مباشرة إلى الحدائق، فإن نقاشًا محليًا متصاعدًا تناول ما إذا كانت بعض هذه المشاريع ستطال أجزاء من الحدائق العامة، مثل حديقة الجلاء في دمشق، حيث نقلت وسائل إعلام محلية تقارير عن أعمال قطع أشجار وصيانة أثارت اعتراضات شعبية (العربي الجديد، 2025).

ثانيًا، الإطار القانوني المنظم للحدائق العامة في سورية:

  1. الدستور السوري:
    ينصّ دستور الجمهورية العربية السورية لعام 2012 في المادة (14) على أن "الثروات الطبيعية والمنشآت والمؤسسات والمرافق العامة هي ملكية عامة تتولاها الدولة لإدارة استثمارها لصالح مجموع الشعب"، ما يعني أن أي تصرف في الممتلكات العامة، بما فيها الحدائق، يجب أن يتم وفق مبدأ المصلحة العامة والشفافية، وقد نص الاعلان الدستوري المؤقت الذي صدر بعد التحرير بتاريخ 13/3/2025م في المادة 16 على أن ملكية الأموال العامة مصونة وجميع الثروات الطبيعية ومواردها هي ملكية عامة وتقوم الدولة بحفظها واستغلالها واستثمارها لمصلحة المجتمع.
  2. القوانين البلدية والتنظيمية:
    تخضع إدارة الحدائق العامة لأحكام قانون الإدارة المحلية رقم 107 لعام 2011 وقوانين البلديات السابقة له، وتُناط بالمجالس المحلية مسؤولية إنشاء الحدائق وصيانتها وتخصيصها كمرافق عامة ذات نفع اجتماعي.
    ويُجيز القانون منح عقود استثمار محدودة المدة ضمن الحدائق بشرط الحفاظ على طابعها العام ومنع تغيير استعمال الأرض (وزارة الإدارة المحلية، 2023).
  3. الالتزامات الدولية:
    تستند سورية، بوصفها عضوًا في الأمم المتحدة، إلى مبادئ برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN-Habitat) ومنظمة الصحة العالمية (WHO) اللتين تؤكدان أن المساحات الخضراء العامة ركيزة للتنمية الحضرية المستدامة وصحة السكان (UN-Habitat, 2021; WHO, 2016).

ثالثًا، تحليل واقع الحدائق في دمشق:

  1. المشهد الحالي:
    تُعد دمشق من أكثر المدن السورية احتضانًا للحدائق العامة، إلا أن تقارير رسمية (سانا، 2025) تشير إلى تراجع المساحات الخضراء بفعل النمو العمراني وتراجع الموارد البلدية.
    وتشير بيانات غير رسمية إلى أن نسبة المساحات الخضراء انخفضت إلى أقل من 1.5 متر مربع للفرد، مقارنة بالحد الأدنى الموصى به عالميًا (9 م² للفرد وفق WHO).
  2. الجدل حول "استثمار الحدائق":
    منذ منتصف عام 2024 وحتى خريف 2025، تصاعد الحديث في الإعلام المحلي حول نية البلديات طرح بعض الحدائق للاستثمار الخدمي.
    وقد نشرت صحيفة الثورة السورية (21 آب/أغسطس 2025) مقالًا بعنوان «حدائق دمشق بين الاستثمار والحفاظ عليها» تناول التحدي المتمثل في تحقيق التوازن بين الموارد المالية والحفاظ على الملكية العامة، كما أثارت المقالات والتقارير نقاشًا عامًا حول خطر تحويل الحدائق إلى مشاريع تجارية مغلقة أو شبه خاصة.
  3. حادثة حديقة الجلاء:
    في أكتوبر 2025، أفادت مصادر إعلامية محلية ودولية عن أعمال صيانة وقطع أشجار في حديقة الجلاء بدمشق، ما أدى إلى احتجاجات محدودة ومطالبات بتوضيح طبيعة المشروع. ورغم نفي بعض الجهات أن تكون هناك “خصخصة”، إلا أن الحدث كشف هشاشة آليات الرقابة وضعف الشفافية في العقود الاستثمارية (العربي الجديد، 13 تشرين الأول 2025).

رابعًا، الأبعاد البيئية والاجتماعية للاستثمار الجائر:

الحق في البيئة السليمة: تراجع المساحات الخضراء يزيد من معدلات تلوث الهواء وارتفاع الحرارة الحضرية ويؤثر على الصحة العامة (WHO, 2016).
الفجوة الاجتماعية: الحدائق العامة تشكّل متنفسًا رئيسيًا للفئات محدودة الدخل، وخصخصتها تعني حرمان هذه الفئات من فضاءات مجانية للراحة والترفيه.

الذاكرة الحضرية: كثير من الحدائق الدمشقية (مثل تشرين والجلاء) تشكّل جزءًا من الذاكرة الثقافية والاجتماعية، وتغيير طابعها يفقد المدينة جزءًا من هويتها المعمارية.

الاستدامة الاقتصادية: عوائد الاستثمار قصيرة الأجل قد تقابلها خسائر طويلة المدى في جودة الحياة والبيئة، وهو ما تؤكده دراسات البنك الدولي وبرامج التنمية الحضرية (World Bank, 2022).

خامسًا: تجارب دولية مقارنة:

برشلونة – إسبانيا: طبّقت المدينة نموذج "السوبر بلوك" (Superblocks) الذي أعاد توزيع الفضاء الحضري لصالح المشاة والمساحات الخضراء، ما أدى إلى خفض التلوث وزيادة التماسك الاجتماعي (C40 Cities, 2023).
بوغوتا – كولومبيا: فعّلت برنامج Ciclovía الذي يفتح الشوارع والحدائق للمواطنين في أيام محددة، مما عزز النشاط البدني والتفاعل الاجتماعي دون المساس بالملكية العامة (UN-Habitat, 2021).
إسطنبول – تركيا: واجهت المدينة احتجاجات واسعة عام 2013 بعد مشروع استثماري في حديقة غيزي، ما رسّخ وعيًا مجتمعيًا بأهمية الفضاء العام كمكوّن للهوية الوطنية، ودفع السلطات لاحقًا إلى إعادة النظر في سياسات التحويل التجاري (TÜBİTAK, 2014).

الخاتمة:
بناء على ماسبق، فإننا في المكتب العلمي لـ تيار المستقبل السوري نوصي بما يلي:

  1. لصنّاع القرار:
    ضمان الشفافية التامة في عقود الاستثمار ونشر دفاتر الشروط للعموم.
    إلزام المستثمرين بدراسات أثر بيئي واجتماعي قبل أي تدخل في الحدائق العامة.
    وضع نظام رقابة مجتمعية يشارك فيه الأكاديميون والمجتمع المدني.
    تحديث قانون البلديات بما يحد من منح التراخيص الدائمة داخل المساحات الخضراء.
  2. للقطاع الخاص:
    تبني مفهوم “الاستثمار المسؤول” الذي يحافظ على الطابع العام للحديقة.
    تمويل برامج تشجير وصيانة مستدامة مقابل الاستفادة الإعلانية أو الخدمية المحدودة.
    الالتزام بمعايير الأمم المتحدة للاستدامة الحضرية (SDG 11).
  3. للمجتمع المدني والمواطنين:
    تعزيز ثقافة المشاركة في حماية البيئة الحضرية.
    إطلاق حملات تطوعية للتشجير والصيانة الدورية.
    استخدام الحق القانوني في الوصول إلى المعلومات والاعتراض على المشاريع التي تضر بالبيئة العامة.

إن مسألة استثمار الحدائق العامة في سورية تمثل نموذجًا مصغرًا للصراع بين حاجات التنمية الاقتصادية ومتطلبات العدالة البيئية والاجتماعية، والتجارب الدولية تثبت أن التنمية المستدامة لا تعني تحويل الفضاء العام إلى سلعة، بل إدارة متوازنة تحقق المنفعة المشتركة وتحافظ على البيئة والذاكرة المدنية.

وبناءً على المعطيات الراهنة، يؤكد تيار المستقبل السوري أن حماية الحدائق العامة لم ولن تكون ترفًا بيئياً، بل ضرورة وطنية وصحية وثقافية لضمان تماسك المجتمع السوري وإعادة بناء مدنه على أسس إنسانية مستدامة.

المراجع:

  • Reuters. (2025, September 25). Syria signs $1.5 billion tourism investment deals.
  • صحيفة الثورة السورية. (2025, 21 آب). حدائق دمشق بين الاستثمار والحفاظ عليها.
  • العربي الجديد. (2025, 13 تشرين الأول). قطع أشجار حديقة الجلاء يثير الجدل في دمشق.
  • دستور الجمهورية العربية السورية. (2012). المادة (14).
  • وزارة الإدارة المحلية والبيئة. (2023). قانون الإدارة المحلية رقم 107 لعام 2011 وتعديلاته.
  • World Health Organization (WHO). (2016). Urban green spaces and health.
  • UN-Habitat. (2021). The Value of Urban Public Spaces.
  • C40 Cities. (2023). Barcelona Superblocks case study.
  • TÜBİTAK. (2014). Urban transformation and public space in Istanbul.
  • World Bank. (2022). Greening Urban Growth: Pathways to Sustainable Cities.

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع