التعليم السوري بين التصحيح الإداري والتحول البنيوي

المقدمة:

في خطوة لافتة، أعلنت وزارة التربية السورية أمس السبت 2025/10/10، عن استكمال إعادة نحو 20 ألف موظف كانوا قد فُصلوا خلال السنوات الماضية، ضمن ما وصفته بأنه "تصحيح للظلم الإداري" وإعادة الحقوق لأصحابها.

هذا القرار، ورغم طابعه الإداري، يفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية حول مستقبل التعليم في سورية، ومدى قدرة السياسات الحالية على تجاوز آثار الحرب والانقسام، والانتقال نحو نموذج تربوي يعيد بناء الإنسان والمؤسسة معًا.

خلفية القرار ودلالاته السياسية:

منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، تعرض قطاع التربية والتعليم لضربات قاسية، شملت تدمير آلاف المدارس، وتهجير ملايين الأطفال، وفصل عشرات الآلاف من الكوادر التربوية لأسباب أمنية أو سياسية، حيث نرى في تيار المستقبل السوري أن إعادة هؤلاء الموظفين تحمل دلالات متعددة أهمها:

  • رمزية المصالحة الوطنية، إذ القرار يأتي ضمن سياق محاولة العهد الجديد ترميم العلاقة مع فئات تم تهميشها، خاصة في القطاع التربوي الذي يُعد حساسًا ومؤثرًا في تشكيل الوعي العام.
  • استجابة لضغوط داخلية وخارجية، مثل منظمات حقوقية ومؤسسات دولية طالبت مرارًا بإعادة المفصولين تعسفيًا، ما قد يكون ساهم في دفع القرار.
  • محاولة لإعادة بناء الثقة المؤسسية، فبعد سنوات من التسييس والتهميش، تسعى وزارة التربية إلى إظهار نفسها كمؤسسة خدمية لا أمنية، وهو تحول يحتاج إلى أكثر من مجرد إعادة موظفين.

على أن واقع السياسات التعليمية في سورية على النحو الآتي:

  1. تسييس التعليم:
    منذ استيلاء حزب البعث على السلطة، استخدم النظام السوري التعليم كأداة لترويج الأيديولوجيا الحزبية، وترسيخ حكم الفرد، بدلًا من أن يكون منارة للعلم والمعرفة، فالمناهج الدراسية، والأنشطة المدرسية، وحتى تعيينات المعلمين، خضعت لاعتبارات أمنية وسياسية، ما أضعف استقلالية المؤسسة التربوية.
  2. انهيار البنية التحتية:
    أدت الحرب بين الشعب ونظام الأسد إلى تدمير أكثر من نصف المدارس في البلاد، وخروج آلاف منها عن الخدمة.
    في بعض المناطق، تحولت المدارس إلى مراكز إيواء أو مقرات عسكرية، ما زاد من تعقيد إعادة تأهيلها.
  3. تعدد المرجعيات والمناهج:
    مع الانقسام الجغرافي والسياسي، ظهرت مناهج تعليمية متعددة، بعضها تابع للنظام، وبعضها للمعارضة، وأخرى للسلطات الكردية أو منظمات دولية، هذا التعدد خلق حالة من الفوضى التربوية، وشتت الهوية التعليمية الوطنية.
  4. نقص الكوادر المؤهلة:
    أدى النزوح والهجرة، إضافة إلى الفصل التعسفي، إلى فقدان عدد كبير من المعلمين ذوي الخبرة، ففي بعض المناطق، يُدرّس طلاب المرحلة الإعدادية على يد خريجي الثانوية فقط، ما ينعكس سلبًا على جودة التعليم.

ورغم أهمية إعادة الموظفين المفصولين، إلا أن هذه الخطوة لا تكفي وحدها لإصلاح القطاع التربوي. فالتحديات البنيوية تتطلب رؤية شاملة، والتي تشمل برأينا:

  • إعادة تأهيل المعلمين نفسيًا ومهنيًا بعد سنوات من الإقصاء أو العمل في ظروف غير رسمية.
  • ضمانات قانونية بعدم تكرار الفصل لأسباب غير مهنية، وتأسيس بيئة عمل قائمة على الكفاءة لا الولاء.
  • إصلاح المناهج الدراسية لتكون قائمة على التفكير النقدي، والمهارات الحياتية، بدلًا من التلقين السياسي.
  • إشراك المجتمع المحلي في صياغة السياسات التعليمية، بما يعزز الشفافية والمساءلة.

على أن الاستفادة من نماذج دولية كان فيها إعادة بناء التعليم بعد النزاعات، أمر مفيد وصحي، حيث نشر مركز الحوار السوري، دراسة مقارنة تم استعراض تجارب دول خرجت من صراعات مدمّرة، مثل رواندا، والبوسنة، وألمانيا الشرقية، حيث لعب التعليم دورًا محوريًا في إعادة بناء الهوية الوطنية والنسيج الاجتماعي، فكانت أبرز الدروس المستفادة:

١- تحييد التعليم عن الصراعات السياسية، وجعله مساحة للقاء الوطني.
٢- إعادة تعريف دور المدرسة كمؤسسة مواطنة، لا مجرد ناقل للمعرفة.
٣- الاستثمار في تدريب المعلمين، وتوفير بيئة تعليمية آمنة ومحفزة.
ولكي يتحول التعليم في سورية من أداة للتلقين إلى رافعة للتنمية، لا بد من تبني رؤية استراتيجية، والتي نرى في تيار المستقبل السياسي أنها يجب أن تشمل:

  1. إصلاح مؤسسي شامل:
  • فصل وزارة التربية عن الأجهزة الأمنية.
  • إنشاء هيئة مستقلة للمناهج والتقييم التربوي.
  • تعزيز استقلالية الجامعات والمؤسسات التعليمية.

2. مصالحة تربوية وطنية:

  • توحيد المناهج في مختلف المناطق.
  • إعادة دمج الأطفال الذين انقطعوا عن التعليم.
  • إطلاق برامج دعم نفسي واجتماعي للطلاب والمعلمين.

3. رقمنة التعليم وتحديثه:

  • إدخال التكنولوجيا في الصفوف الدراسية.
  • تدريب المعلمين على أدوات التعليم الرقمي.
  • تطوير منصات تعليمية وطنية موحدة.

4. شراكة مع المجتمع المدني والقطاع الخاص:

  • دعم المبادرات التعليمية المحلية.
  • إشراك الأهالي في تقييم الأداء المدرسي.
  • فتح المجال أمام الاستثمار في التعليم دون خصخصته كاملاً.

خاتمة:

إن إعادة 20 ألف موظف مفصول إلى وزارة التربية، رغم أهميتها الرمزية، لا تمثل سوى خطوة أولى في طريق طويل نحو إصلاح التعليم في سورية.

فالمشكلة ليست في عدد المعلمين، بل في طبيعة السياسات التي تحكم المؤسسة التعليمية، وفي غياب الرؤية الوطنية الجامعة.
فالتعليم هو مشروع لبناء الإنسان والمجتمع والدولة، وإذا لم يُعاد تعريفه على هذا الأساس، فستبقى كل الخطوات مجرد ترقيع إداري لا يلامس جوهر الأزمة.

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع