اقتصاد النيوليبرالية في أرض المحنّة السورية كارثة يجب تجنبها

سورية على مفترق طرق:

كانت سورية قبل الثورة تواجه الأمرين على المستوى الاقتصادي والمؤسساتي، فقد كانت تعاني من ضعف وتخلخل بنية الدولة المؤسساتية، وانتشار الفساد والمحسوبيات، وارتفاع نسبة الفقر، وازدياد نسبة البطالة[i]. مثلا، حسب مؤشرات أداء[ii] الأعمال Doing Business Indicators في العام 2009، كانت سوريا في مرتبة متأخرة عالميا هي 136 من أصل 181 دولة، بينما كانت تركيا بالمرتبة 78، والأردن بالمرتبة 106، ومصر بالمرتبة 109.

وبعد 14 سنة من الحرب والدمار الذي حوّل سورية إلى دولة فاشلة، مع تراجع الاقتصاد وانهيار البنية التحتية بأكثر من 60%، تقف البلاد على حافة الهاوية. الحكومة الانتقالية، في محاولة يائسة لإحياء الاقتصاد، تتبنى بشكل متسارع سياسات تقوم على فتح قطاعات إستراتيجية مثل الكهرباء والنفط والغاز للاستثمار الخاص وخصخصة ما تبقى من القطاع العام.

رغم أن الحكومة الانتقالية لم تعلن رسمياً ما هو توجهها وخطتها الاقتصادية، ولم توضّح كيف سيتم توزيع الملكية ما بين العامة والخاصة؛ كما أنها لم تنشر رسمياً تفاصيل العقود التي تم التوقيع عليها، أو التي يجري التفاوض حولها. لذلك فإن المُعلَن من هذه الإجراءات يُظهر انحيازًا واضحًا نحو نموذج نيوليبرالي متطرف. هذا المقال يدّعي أن تطبيق هذه الوصفة في الظروف السورية الحالية ليس خطأً فحسب، بل هو بمثابة منحدر خطير سيؤدي لهدر ثروات البلد وضمان لفشل الدولة المستقبلي.

اقتصاد النيوليبرالية Neoliberal Economics، الوعد الخادع:

النيوليبرالية الاقتصادية هي أيديولوجية سياسية واقتصادية تُفضّل رأسمالية السوق الحرة مع الحد الأدنى من التدخل الحكومي، وتركز على الخصخصة، وإلغاء القيود، والتجارة الحرة، وخفض الإنفاق العام لتعزيز النمو الاقتصادي، بالإضافة للعولمة الاقتصادية التي تعني حرية حركة رأس المال عبر الحدود الدولية.

وهنا يجب التمييز بينها وبين الرأسمالية الليبرالية التقليدية التي تقوم على حماية الملكية الخاصة، والسوق الحر الخاضع للعرض والطلب دون تدخل كبير للحكومات، والاعتماد على الربح كمحرك للإنتاج والاستثمار وبالتالي للمنافسة، وبالتالي لتحسين المنتج وتخفيض السعر، وتحت دور محدود للدولة نسبيا. بكلمات أخرى الفارق الأساسي بين الحالتين هو مدى قوة دور الدولة في التدخل بصياغة السياسات الاستراتيجية العامة للدولة، وسن القوانين والتنظيمات. ففي الرأسمالية التقليدية احتفظت الدولة بصلاحيات تمكنها من ضمان عمل البنية التحتية، والضمان الاجتماعي للشعب، وحتى مراقبة الاحتكار. بينما في النيوليبرالية تراجع دور الدولة أمام الشركات الكبرى، وأصبحت الشركات الكبرى ذات صلاحيات أوسع برسم السياسات حتى الدولية، فمثلاً نجد أن الحكومات الغربية في الأزمة المالية العالمية 2008-2009 قدمت دعما ماليا سخيا لإنقاذ الشركات الكبرى، التي سببت تلك الأزمة، بينما قلصت من مساندتها لضحايا تلك الأزمة من عامة الشعب.

مثال توضيحي بسيط على الفرق بين النظامين:

"لو كانت الرأسمالية التقليدية مثل مطعم قديم فيه صاحب المطعم يبيع ما يريده، والزبون يشتري أو لا يشتري، أما الدولة فهي مجرد شرطي على الباب؛

فإن النيوليبرالية تكون مثل سلسلة مطاعم عالمية تشتري المطاعم الصغيرة، تفرض قواعدها على الجميع، وتقول لك: "إذا ما عجبك، لا تشتري، لن تجد ما تريده سوى هنا"، أما الدولة هنا فهي مجرد موظف استقبال يفتح لك الباب".

يعود أصل النيوليبرالية الفكري إلى اقتصاديين مثل ميلتون فريدمان Milton Friedman الذي رأى في الأسواق الحرة الضامن الوحيد للحرية السياسية والكفاءة الاقتصادية. ويُعتبر أول ترسيخ لهذا النظام بدعم الحكومات كان بعهد ريغان بأمريكا وتاتشر ببريطانيا، وسرعان ما انتقلت النيوليبرالية إلى أوروبا الغربية بدءاً من التسعينات، وتسارعت أكثر مع بداية الألفية الثالثة.

لكن تطبيق هذه السياسات على أرض الواقع، خاصة في اقتصادات هشة، كشف عن وجهها القبيح. كتب جوزيف ستيجليتز Joseph Stiglitz، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، يلخص فشل النيوليبرالية الاقتصادية في كتابه "العولمة ومخالفوها Globalization and Its Discontents": "كانت سياسات صندوق النقد الدولي القائمة على النيوليبرالية، مثل الخصخصة السريعة والتقشف المالي، بمثابة وصفة لكارثة اجتماعية واقتصادية في العديد من دول العالم النامي، حيث زادت من حدة الفقر بدلاً من أن تحلها."

الاقتصاد النيوليبرالي ما بين النجاح والفشل:

"النجاح" نفسه مصطلح قابل للقياس بطرق مختلفة: النمو الاقتصادي الكلي مقابل العدالة الاجتماعية، ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي مقابل رفاهية المواطن العادي. باختصار، النتائج كانت مختلطة إلى سلبية في الغالب بالنسبة للعالم النامي. بينما حققت بعض البلدان نموًا، جاء هذا النمو مصحوبًا بتكاليف اجتماعية واقتصادية باهظة.

أولاً: الحجج التي تزعم وجود "نجاح" (النموذج المحدود)

يدافع أنصار النيوليبرالية عن نجاحها في بعض الدول بناءً على أنها كانت ذات دور مهم فيما يلي:

  1. مكافحة التضخم المفرط: سياسات التقشف (Austerity) ورفع الدعم التي فرضها صندوق النقد الدولي ساعدت في كبح التضخم الجامح في دول مثل الأرجنتين والبرازيل في تسعينيات القرن الماضي.
  2. جذب الاستثمار الأجنبي: تحرير الأسواق وخصخصة بعض القطاعات جذب رؤوس أموال أجنبية مباشرة إلى دول مثل المكسيك بعد اتفاقية NAFTA، وشيلي في عهد بينوشيه، الذي يعتبر أول تجربة نيوليبرالية.
  3. النمو الاقتصادي في آسيا: تشير بعض التحليلات إلى أن اقتصادات مثل الصين وفيتنام (رغم اشتراكيتها السياسية) تبنت عناصر نيوليبرالية مثل الانفتاح على الأسواق العالمية والمناطق الاقتصادية الخاصة، مما قاد إلى طفرات اقتصادية هائلة.

لكن هذه النجاحات شكلية ومثيرة للجدل، فمثلاً:

  • نجاح شيلي الاقتصادي جاء على حساب قمع دموي وتفاوت اجتماعي هائل.
  • النمو في الصين وفيتنام كان تحت سيطرة دولة قوية وتوجيهها، وليس تحريرًا كاملاً للسوق كما تنادي النيوليبرالية المتطرفة.

ثانيًا: الإخفاقات والانتقادات (الرأي السائد)

هنا نصل إلى الجوهر. الغالبية العظمى من التحليلات، خاصة من خبراء التنمية، ترى أن تطبيق الوصفة النيوليبرالية على العالم النامي كان كارثيًا لعدة أسباب:

  1. برامج التكيف الهيكلي (Structural Adjustment Programs – SAPs) لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهي الآلية الرئيسية لنشر النيوليبرالية[i]. كانت شروطها قاسية:
  2. خصخصة المرافق العامة: بيع قطاعات الطاقة، المياه، الاتصالات، المواصلات، وغيرها لمستثمرين أجانب أو محليين، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار على الفقراء وانخفاض جودة الخدمة. هذا ما يسميه دافيد هارفي "تراكم بالاستيلاء[ii] Accumulation by Dispossession".
  3. تقليص الإنفاق الاجتماعي: فرض خفض الإنفاق على الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية لتحقيق "توازن الميزانية". هذا دمر شبكات الأمان الاجتماعي وزاد من معدلات الفقر. جوزيف ستيجليتز ينتقد هذا بشدة في "العولمة ومخالفوها"[iii]، قائلاً إن هذه السياسات تجاهلت بالكامل الاحتياجات الاجتماعية.
  4. تحرير التجارة فجأة: فتح الأسواق أمام الواردات الأجنبية المدعومة (مثل المنتجات الزراعية الأوروبية أو الأمريكية) دمر الصناعات المحلية الناشئة والزراعة التقليدية في إفريقيا وأمريكا اللاتينية. المزارع المحلي لم يستطع المنافسة.
  5. تفاقم عدم المساواة: النمو الذي تحقق لم يكن شاملًا. الثروة تتركز في أيدي قلة. توماس بيكيتي (Thomas Piketty) في كتابه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" يوضح كيف أن سياسات تحرير رأس المال تزيد من تركيز الثروة.
  6. التبعية والهشاشة: جعلت اقتصاديات الدول النامية أكثر اعتمادًا على التقلبات العالمية ورأس المال المتنقل، مما جعلها أكثر عرضة للأزمات، كما حدث في الأزمة المالية الآسيوية 1997.
  7. خيبة الأمل في أمريكا اللاتينية: تجارب الأرجنتين والبرازيل في التسعينيات أدت إلى أزمات ديون وانهيارات اقتصادية (أزمة الأرجنتين 2001). هذا الفشل هو ما مهد الطريق لصعود الموجة اليسارية ("المنعطف اليساري") في تلك القارة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كرد فعل على النيوليبرالية.

بالمحصلة النجاح المزعوم هو نجاح مشبوه يقوم على الإبهار من حيث الشكل، لكن غالباً أدى لنتائج كارثية خاصة في الدول النامية. فلم تحقق النيوليبرالية "معجزة" تنموية شاملة في العالم النامي. بدلاً من ذلك:

  • حققت نموًا كميًا في أفضل الأحوال، لكن على حساب الاستقرار الاجتماعي والعدالة.
  • زادت من هشاشة الاقتصادات وتبعيتها.
  • عمقت من الفوارق الطبقية وأفقرت الشرائح الوسطى والدنيا.

الرأي الأكاديمي السائد الآن، كما تجسده كتابات ها-جون تشانغ[iv] Ha-Joon Chang هو أن الدول التي تطورت حقًا (مثل كوريا الجنوبية سابقًا والصين حاليًا) لم تتبع الوصفة النيوليبرالية بحذافيرها، بل استخدمت دولة تنموية قوية (Developmental State) تتدخل لدعم الصناعات الناشئة وتوجيه الاستثمار. كانت نيوليبراليتها "مُوجَّهة" وليست "متوحشة".

الشكل 1، مخاطر الأزمات الاقتصادية بالمقارنة بين الدول التي شهدت صعوداً اقتصادياً اعتماداً على تدفق الاستثمارات الأجنبية. الشكل الأيسر يظهرا زيادة احتمال حدوث أزمة مالية، فالعمودين اليساريين يبينان أن احتمال حدوث أزمة بنكية أو نقدية أكبر بمرتين ونصف من كامل العينة المدروسة؛ والعمودين اليمينيان يظهران أن احتمال حدوث ازمة مزدوجة (بنكية ونقدية) أكبر بسبع مرات. بينما نرى في الشكل الأيمن أن مؤشر "جيني Gini" الذي يقيس مؤشر عدم المساواة أعلى عند الاقتصاديات الصاعدة، ويزداد كثيرا بعد خمس سنوات (المرجع 3).

الشكل 1 هو أحد نتائج العديد من الدراسات العلمية الاقتصادية حول العالم، والتي تحذر من أن السير في النهج النيوليبرالي (الخصخصة السريعة، تحرير رأس المال بدون ضوابط) هو وصفة مثبتة للفشل، وهذا الشكل هو أحد نتائج دراسة مقدمة من قبل خبراء في صندوق النقد الدولي نفسه.

الشكل هو أحد نتائج دراسة مقدمة من قبل خبراء في صندوق النقد الدولي نفسه.

الدرس الأوروبي المُكلف: عندما تعيد النيوليبرالية تشكيل القارة:

لم يقتصر فشل النيوليبرالية على العالم النامي. ففي قلب أوروبا نفسها، أدت سياسات التقشف وخصخصة الخدمات إلى نتائج مدمرة، خاصة بقطاعات حساسة من البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية.

التجربة الفرنسية: خصخصة انتهت بالعودة إلى الدولة

في فرنسا، بدأت الحكومات منذ عهد نيكولا ساركوزي بيع حصص من شركة كهرباء فرنسا (Électricité de France EDF) للقطاع الخاص. كان الهدف هو تقليل العبء على المالية العامة وتعزيز المنافسة. لكن مع الوقت، برزت مشكلة أساسية: الاستثمارات الخاصة ركزت على الأرباح السريعة، بينما أهملوا الاستثمارات الباهظة والطويلة المدى في البنية التحتية النووية. وعندما اندلعت أزمة الطاقة الأوروبية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، لم تجد باريس خيارًا سوى إعادة تأميم الشركة بالكامل، في اعتراف عملي بأن السوق وحده لم يستطع حماية أمن الطاقة الوطني[i].

الغاز الروسي: السوق قبل الأمن

على المستوى الأوروبي، ظهر التناقض بشكل أوضح. قبل 2022، كان الغاز الطبيعي المًستورد من روسيا يشكل تقريبا 42% مما يستورده الاتحاد الأوروبي، بينما تجاوزت نسبته 50% مما تستورده ألمانيا؛ ورغم أن قواعد أمن الطاقة Energy Security تنصح بألا يتجاوز الاعتماد على أي مورد ثلث كامل الاستيراد[ii]. بالطبع قرار الإقدام على هذه المخاطرة كان قرار شركات الطاقة الخاصة التي فضلت استيراد الغاز الروسي لأنه الأرخص. بمعنى آخر، منطق السوق غلّب على منطق الأمن الاستراتيجي. وعندما اندلعت الحرب، واجه الأوروبيون نقصًا حادًا وارتفاعًا صاروخيًا في الأسعار، مما كشف هشاشة البنية الطاقية القائمة على الاعتماد على السوق بدون رقابة وحماية الدولة للمصلحة العامة[iii].

تُظهر التجربتان أن النيوليبرالية قد تعمل في بعض القطاعات، لكنها خطيرة في قطاعات استراتيجية مثل الطاقة. السوق الخاص يهتم بالربح قصير المدى، بينما أمن الطاقة يتطلب رؤية طويلة المدى واستثمارات قد لا تكون مربحة فورًا. لهذا السبب، اضطرت فرنسا للعودة إلى الدولة، واضطرت أوروبا إلى البحث في سباق محموم عن مصادر غاز بديلة وبنية تحتية جديدة للغاز المسال.

أزمة الطاقة الأوروبية أعادت التذكير بأن الدولة ليست عائقًا كما صورتها النيوليبرالية، بل ضامنًا أساسياً للاستقرار والسيادة الطاقية. من خصخصة EDF إلى أزمة الغاز الروسي، الدرس واضح: حين تترك البنية التحتية الاستراتيجية بيد السوق وحده، فإنك تخاطر حتى بأقوى الاقتصادات.

  الدروس من الدول النامية:

  • العراق بعد 2003، الخصخصة كسلاح احتلال: فرض "المسؤول المدني" الأمريكي بول بريمر سياسات نيوليبرالية متطرفة، شملت خصخصة شاملة للقطاع العام وإلغاء الدعم. النتيجة: تحول الاقتصاد العراقي إلى اقتصاد ريعي فاشل، وانهيار الصناعة المحلية، وتركيز الثروة في أيدي فئة قليلة، مما غذى الصراع الطائفي والعنف. وقد لخص ذلك جوزيف ستيجليتز بقوله أن علاج الصدمة كان الأكثر تطرفاً على الإطلاق، مما ساعد كثيراً على ازدياد الانشقاقات الطائفية، وأعاق بشكل كبير إعادة الإعمار في العراق[i].
  • لبنان، فقاعة النيوليبرالية التي انفجرت: نظام الخصخصة والتحرير المالي غير المنضبط، الذي قاده رفيق الحريري، أنشأ اقتصادًا قائمًا على الخدمات والمصارف والفساد[ii]. هذا النموذج الهش انهار بشكل مأساوي في عام 2019، مما أدى إلى أحد أسوأ الأزمات المالية في العالم منذ القرن التاسع عشر، حيث حُرم المواطنون من ودائعهم وانهارت الخدمات الأساسية. وهنا لا بد من ملاحظة أن سياسة رفيق الحريري من حيث الشكل قدمت شكلا مبهرا للمشاريع وحققت نسبيا فورة اقتصادية لفترة قصيرة من الزمن، وهي أحد سمات النيوليبرالية الاقتصادية عندما يتم الانتقال إليها بسرعة نسبياً، فهي تحقق صعوداً اقتصادياً مبهراً بالبداية قد يستسيغه الشعب، لكن على المدى المتوسط والبعيد تؤدي هذه السياسة لإنتاج مشاكل اقتصادية عميقة وصعبة الحل.
  • تركيا، النمو الاقتصادي غير المستدام: على الرغم من النمو الظاهري السريع للاقتصاد التركي حتى العام 2010، إلا أن هذا النمو لم يحصّن الاقتصاد التركي للتعامل مع تقلبات السوق والسياسة[iii]؛ فقد أدت سياسات النيوليبرالية المحسوبة لرجب طيب أردوغان (التي عززت من نفوذ كبار المقاولين والمستثمرين المقربين من السلطة) إلى تفاوت هائل، وتآكل في القطاع الصناعي، واعتماد مفرط على الاستثمارات الأجنبية، الاستيراد، والديون الأجنبية. الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعصف بتركيا اليوم، مع التضخم الجامح وانهيار الليرة، هي النتيجة الحتمية لاقتصاد لم يُبن على أسس إنتاجية حقيقية، ووفق بنية اقتصادية مستدامة تمتلك المرونة والقوة الكافية لمواجهة تقلبات الاقتصاد العالمي وتوتر العلاقات الجيوسياسية[iv].

في كل هذه الأمثلة، أنتجت النيوليبرالية ثروة هشة لفئة قليلة، وفقرًا واستقرارًا مزعزعًا للأغلبية، وهذه أدلة على فشل سياسات النيوليبرالية الاقتصادية في العالم النامي، وهناك العديد من الدول الأخرى التي اتبعت هذه السياسة، وغالبا نتيجة ضغوط من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، مثل البرازيل والأرجنتين.

النتائج السلبية للنيوليبرالية الاقتصادية في الدول النامية:

لماذا تؤدي النيوليبرالية الاقتصادية إلى هذه النتائج السيئة على مستوى الغالبية الشعبية، رغم توصيات مؤسسات مالية ضخمة مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي؟

يمكن تلخيص جواب هذا السؤال بعدة نقاط أساسية لا خلاف حولها:

  • تعاني معظم شعوب الدول النامية من معدلات فقر عالية أساساً، ومن ضعف مؤسساتي، ومن استفحال لمشكلة الفساد والمحسوبيات؛ حيث تقوم العلاقة بين الأنظمة السياسية والمجتمع بشكل أساسي على المحسوبية السياسية. تؤثر جودة العلاقة بين الجماعات الاجتماعية المحلية والحكومة المركزية على التكامل الوطني للأقاليم المختلفة وتنظيمها الإقليمي

فلتطوير الاقتصاد الوطني يجب أولا أن يكون السوق المحلي قادرا على التجاوب مع الإنتاج الوطني، سواء من حيث المشاركة بالإنتاج أو من حيث الاستهلاك. أي يجب أن يكون المستهلك قويا نسبياً، وللوصول لهذا التحسن بالقدرة الاستهلاكية للأفراد تحتاج هذه الدول لتدخل ومراقبة من قبل الدولة وضمان تحسن القدرة الشرائية للمواطنين.

لكن القطاع الخاص لا يهمه تحقيق هذا التحسين بالقوة الشرائية ضمن الدولة ذاتها، لإن سيطرة العولمة قد تعوض الاستثمار الخاص عن المستهلك المحلي بأسواق أقوى استهلاكياً.

  • مشاريع البنية التحتية مثل نظم الطاقة الكهربائية من محطات توليد وشبكات نقل وتوزيع، وشبكات المواصلات من طرق وسكك حديدية وغيرها، وشبكات الاتصالات، والقطاع التعليمي المدرسي والجامعي، والقطاع الصحي تحتاج عادة إلى استثمارات ضخمة جدا، وكذلك إلى أن يتم بنائها وفق خطط استراتيجية قد تعطي الأولوية للحاجة لهذه المنشآت على حساب الربح.

بإمكان مساهمة الدولة الفاعلة في هذه القطاعات تقديم أولوية تأمين الخدمة للمواطن، بشكل مستدام، وعالي الكفاءة والجودة.

لكن الاستثمار الخاص يهمه أولا الربحية العالية والسريعة، ويتجنب عمليات التطوير والصيانة المكلفة قدر الإمكان؛ كذلك فإنه يعطي الأولوية للاستثمار الأكثر ربحا وضمانا بما قد يتعارض مع الاستراتيجية الاقتصادية للدولة.

  • تؤكد تجارب كل الدول النامية، خاصة التي تشبه حالتها الحالة السورية، أن تراجع دور الدولة المنظم والضامن والرقابي يزيد من حجم الفساد والمحسوبية.
  • كما ذكرنا سابقاً، فإن اعتماد الاقتصاد الوطني على الاستثمارات الأجنبية، وحتى الخاصة المحلية، يجعل اقتصاد الدولة شديد الحساسية والضعف أمام الأزمات الاقتصادية الدولية. وهذا ما لاحظناه من تضاعف تأثيرات الأزمات الاقتصادية على الدول النامية، بمن فيها دول صاعدة اقتصاديا مثل دول الخليج العربي وتركيا، مقارنة بتأثيرها على الدول الغنية التي سببت هذه الأزمات.

هنا لا بد من التوضيح كي لا تختلط المفاهيم، نقد النيوليبرالية الاقتصادية ليس موقفا او توجها يسارياً كما قد يظن البعض، وبالتالي تصبح مجرد اختلاف، او ربما تهوين، بين يمين ويسار، أو بين الرأسمالية واليسارية. نقد النيوليبرالية الاقتصادية أتى من غالبية الأكاديميين والباحثين الاقتصاديين الغربيين، من اليسار واليمين. فليس الاقتراح هنا مثلا ضد السوق الحر حسب مفهومه الكلاسيكي الذي نهض بأوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، واليابان وكوريا الجنوبية، بل وحتى الصين منذ عقدين بدأت لإدخال مبدأ السوق الحر.

سورية: لماذا الخصخصة الآن هي "بيع بمزاد الخردة" (Fire Sale)

في ظل دولة منهارة، عملة متهاوية، ومؤسسات عديمة الفاعلية، فإن بيع القطاع العام السوري يشبه بيع ممتلكات الأسرة في لحظة اليأس، لن يكون البيع عادلاً ولن يكون مربحاً على المدى الاستراتيجي، بدلاً من ذلك، سينتهي الأمر بالأصول الإستراتيجية للبلاد ليتم الاستيلاء عليها، وهي في حالة الضعف والفوضى الشديدة، فيما يسميه الاقتصاديون "التراكم بالاستيلاء Accumulation by Dispossession". بمعنى أن المكاسب ستتجمع في جيوب:

  • أوليغارشية محلية[i]: ستكرس نظامًا فاسدًا قائمًا على المحاصصة والمحسوبية، يحول ثروات البلاد إلى عدد قليل من الأشخاص والجماعات.
  • مستثمرين أجانب بأجندات سياسية: مما يفقد سورية سيادتها على مواردها ويجعل سورية رهينة للخارج السياسي والاقتصادي.

هذا سيؤدي إلى فشل في الاستقرار المالي وضمان الاستدامة التنموية والاقتصادية، لأن العائدات من بيع القطاع العام والأصول الاستراتيجية وقتية ولن تعالج الخلل الهيكلي الذي ينخر الدولة. وبالتالي فإن الخدمات الاجتماعية ستتابع الانهيار، مثل الصحة والتعليم والسكن. وهذا ما يشرح مصطلح بيع الخردة Fire Sale، وهو مصطلح اقتصادي يعني بيع البضائع بثمن بخس في أوقات الأزمات. والمصطلح حرفيا يعني "بيع النار" بإشارة لاضطرار البعض لبيع بضائعهم بأثمان بخسة جدا نتيجة حريق كبير.

وهذا ليس مجرد موقف أو اختلاف بالرؤية الاقتصادية، بل إن تجارب العديد من الدول النامية، والدول التي مرت بما يشبه ما مرت به سورية في التاريخ القريب يقدم لنا أدلة وأمثلة مروعة عن عواقب هذه السياسة.

توجه الحكومة الانتقالية السورية:

ما صرح به السيد الشرع رئيس الحكومة الانتقالية عدة مرات يبين أنه يتبنى هذا النهج الاقتصادي، وإن كانت تصريحاته غير واضحة هل يقصد النهج الرأسمالي التقليدي، أم النيوليبرالية الاقتصادية، فقد ركز أكثر على قناعته بأن دعم الدولة للبضائع الأساسية، والقطاع العام سياسة فاشلة، بناءً على فشله أثناء حكم الأسدين البائدين.

الأهم، توجهت الحكومة الانتقالية عمليا نحو النيوليبرالية من خلال تجاوز صلاحياتها والبدء ببيع القطاع العام، بما في ذلك قطاع الطاقة، والتسريح التعسفي لعدد كبير من موظفي القطاع العام، ولكامل عناصر الجيش والأمن من النظام البائد. بالإضافة للإعلان عن عدة عقود مع جهات أجنبية تناولت مينائي اللاذقية وطرطوس وغيرها. ناهيك عن الإعلان عن عدة مشاريع ذات شكل مبهر، أبراج، مدن إعلامية، مراكز تجارية، لا تتناسب مع مستوى دخل غالبية السوريين.

فقد أعلنت الحكومة الانتقالية عن عقد ضخم بقيمة مبدئية وصلت إلى 7 بليون دولار، مع شركات خاصة أجنبية لبناء محطات طاقة كهربائية باستطاعة 5000 ميغاوات[ii]. بالإضافة للإعلان عن عدة اجتماعات للحكومة السورية الانتقالية مع شركات نفط وغاز أجنبية، والأخبار تتحدث عن مفاوضات مع الملياردير السوري أيمن أصفري حول قطاع الغاز الطبيعي في سورية.

فما هو مفهوم من حركة الحكومة الانتقالية للتفاوض مع شركات عالمية كبيرة للاستثمار في قطاع النفط والغاز الطبيعي يحمل خطورة كبيرة بأن هذه الشركات ستفضل التصدير للسوق العالمي لأن أسعاره أكثر ربحية دون اعتبار لضرورة احتفاظ سورية باحتياطي استراتيجي من النفط والغاز الطبيعي لأطول مدة ممكنة. فحجم احتياطي النفط والغاز الطبيعي في سورية يمثل كمية جيدة جدا لحوالي دولة ذات 25 مليون نسمة، ويسمح لها بتصدير نسبة من هذه الثروات الطبيعية. لكن المبالغة بتصدير النفط والغاز الطبيعي سيسّرع من نضوب هذه الاحتياطيات، وبالتالي سيؤدي لأن تتحول سورية إلى مستورد بدل أن تكون مصدراً خلال 10 او 15 سنة.

سيطرة السياسات الارتجالية وغياب التخطيط الاستراتيجي:

تعتمد التنمية المستدامة على استقرار وقوة واستدامة ثلاث حوامل أساسية مترابطة ومتداخلة مع بعضها البعض، وهي: الاستقرار السياسي، الاستدامة الاقتصادية، التنمية البشرية. والاستدامة الاقتصادية تحتاج حكما لبنية تحتية اقتصادية قوية، وديناميكية، وموثوقة، وشاملة، وقابلة للتطوير، والتوسيع.

باعتبار أن البنية التحتية الاقتصادية هي العامل الأهم في أداء أي نظام اقتصادي، من حيث الفعالية Efficiency، والموثوقية Reliability، والاستدامة Sustainability؛ وبما أن أكثر من 60 بالمئة من البنية التحتية الاقتصادية في سورية مُدمرة كلياً أو جزئياً؛ فإن وضع خارطة طريق Roadmap وفق منهجية موثوقة وقابلة للتطوير يمثل الخطوة الأولى والأهم في عملية إعادة البناء. لذلك فإن وضع الخطوط الأساسية لخريطة طريق لإعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية في سورية، وتحديد الأهداف وسير العمل والأدوات ضمن مشروع متكامل يُعتبر خطوة أساسية ومطلوبة في هذه المرحلة التي تعيشها سورية.

لكن مع عدم وجود خارطة طريق لاستراتيجية إعادة بناء البنية التحتية في سورية[i]، فإن ما يحصل في سورية من سياسات تعتمد على رؤية للسنوات القادمة فقط، هو مغامرة غير محسوبة اقتصاديا، وأقرب للسياسات الارتجالية بمقياس بناء الدول بعد الكوارث الكبرى. التخطيط على المستوى الاستراتيجي (30 إلى 50 سنة) هو ضرورة يفرضها الدمار الهائل للبنية التحتية.

إذا قارنا الحالة السورية بالحالة التركية والمصرية والعراقية واللبنانية يمكننا الجزم بأن هذه السياسة الاقتصادية ستؤدي لفورة اقتصادية شكلية، وصعود أرقام استثمارات تبهر المواطن العادي، بل أيضا صعود منشآت مبهرة من أبراج وفنادق ومطاعم قد تصل لمستوى إبهار مباني إسطنبول والقاهرة الجديدة؛ لكنها ستؤدي لزيادة فقر الغالبية السورية بشكل كبير. والأهم أنها ستؤدي إلى نشوء اقتصاد هش ضعيف أمام التغيرات السياسية والاقتصادية الإقليمية والدولية، وإلى فقدان الدولة لاستقلالها عن مصادر الاستثمار الخارجي.

البديل: طريق الدولة التنموية:

العلاج لإعادة إعمار سورية ليس بالمزيد من الصدمات. البديل هو تبني نموذج "الدولة التنموية" الذي نجح في إعادة بناء دول مثل ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وفي نهضة كوريا الجنوبية.

تعريف الدولة التنموية

هي دولة تتبنى الحكومة فيها دوراً قيادياً ومباشراً في توجيه الاقتصاد لتحقيق أهداف تنموية طموحة وسريعة، تتجاوز مجرد تصحيح إخفاقات السوق. ليست دولة اشتراكية (تملك وسائل الإنتاج) ولكنها ليست دولة ليبرالية بحتة تترك كل شيء للسوق.

  الخطوط الرئيسية:

بيروقراطية كفؤة ونخبة :

  • يوجد جهاز إداري قوي ومستقل نسبياً عن الضغوط السياسية والمصالح الخاصة.
  • يتمتع الموظفون الحكوميون، خاصة في الوزارات الاقتصادية القوية (مثل وزارة الصناعة والتجارة)، بكفاءة عالية ويتم اختيارهم بناء على الجدارة (غالباً من خريجي أرقى الجامعات).
  • هذه "النخبة البيروقراطية" هي من تخطط وتنفذ الاستراتيجية التنموية.

  استقلالية الدولة :

  • تمتلك الدولة "استقلالية" تمكنها من اتخاذ قرارات صعبة وطويلة الأجل قد تعارض مصالح بعض الفئات قصيرة الأجل (مثل كبار الملاك أو بعض رجال الأعمال).
  • تستطيع الدولة أن "تفرض" رؤيتها التنموية على المجتمع.

   رؤية تنموية واضحة Developmental Vision

  • تضع الدولة خطة استراتيجية واضحة للتحول الاقتصادي، عادة ما تركز على التصنيع كمسار رئيسي للخروج من التخلف وبناء اقتصاد قوي.
  • الهدف هو اللحاق بالدول المتقدمة عبر تبني استراتيجيات "الصناعة الرائدة" التي تقود القطاعات الأخرى.

   تحالف استراتيجي مع قطاع الأعمال Strategic Alliance with Business

  • العلاقة هنا ليست علاقة سيطرة كاملة من الدولة ولا علاقة تحرير كامل لقطاع الأعمال.
  • العلاقة هي شراكة توجيهية: تقدم الدولة الحماية والدعم والائتمان لقطاعات مختارة، وفي المقابل تفرض على هذه القطاعات معايير أداء صارمة (مثل زيادة الصادرات، نقل التكنولوجيا).
  • الآلية الأساسية هي "إيصال الأسعار خطأً[i] (Getting the Prices Wrong)[ii]" حيث تتدخل الدولة لتوجيه رأس المال بشكل ائتماني ميسر وذكي ومؤسساتي واستراتيجي نحو قطاعات معينة بدلاً من ترك آلية السوق تحدد ذلك "الحصول على الأسعار صحيحاً".

هذه الآلية قد لا تكون مضمونة، بل قد تكون خطيرة كما حصل بمصر مع سياسات الدعم الحكومي، وكما حصل بسورية مع سياسة نظام الأسد لتحديد سعر الليرة بقيمة بعيدة جدا عن القيمة السوقية الحقيقية.

لكنها بإدارة حكومية ذكية منضبطة ومدروسة أدت لنتائج تخدم الهدف الوطني لمنح الاقتصاد الوطني الانطلاقة الاقتصادية المطلوبة؛ حيث غالباً ما يتم تصحيح هذا التشويه المُتعمَّد بالأسعار. وهذا ما قد حصل في كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان، وبشهادة البنك الدولي في تقريره "معجزة شرق آسيا 1993 The East Asian Miracle".

التركيز على التصدير Export-Orientation

 بعد مرحلة من حماية الصناعة الناشئة، تدفع الدولة هذه الصناعات بقوة نحو الأسواق العالمية لاختبار كفاءتها وضمان استمرار تطورها. التصدير هو المعيار الأساسي لنجاح الشركات.

صعوبات التطبيق في القرن 21:

نجاح هذا النموذج كان في ظروف تاريخية وسياسية محددة (الحرب الباردة، دعم غربي لمواجهة الشيوعية، أنظمة حكم استبدادية نسبياً سهلت اتخاذ القرارات). كما أن تطبيقه في القرن الحادي والعشرين أصبح أكثر تعقيداً بسبب العولمة وقواعد منظمة التجارة العالمية التي تحد من سياسات الحماية والدعم.

1.2 البديل الاقتصادي الأكثر مرونة:

يمكن الاستفادة من نموذج الدولة التنموية، وتفادي نموذج اقتصاد النيوليبرالية. فالدولة التنموية هي بالفعل بديل قوي، لكن تطبيقها في سياق القرن الحادي والعشرين، وخاصة في دولة خارجة من حرب ودمار مثل سورية، يتطلب تكييفاً ذكياً يتعلم من نجاحات الماضي ويتجاوز إشكاليات الحاضر.

المشاكل الرئيسية التي تواجه النموذج التنموي اليوم هي: العولمة، قواعد منظمة التجارة العالمية، هيمنة سلاسل القيمة العالمية، الثورة الرقمية، والتحديات البيئية. لكن يمكن تحويل هذه التحديات إلى فرص بالطرق التالية:

من "التصنيع التقليدي" إلى "التصنيع الذكي والمتخصص"

الفرصة: بدلاً من محاولة منافسة الدول الضخمة في الإنتاج الكمي الرخيص، التركيز على صناعات متخصصة ومتقدمة تكنولوجياً تعتمد على رأس المال البشري.

التطبيق السوري: سورية لديها تاريخ في الطب والهندسة وعلوم الحاسوب. يمكن بناء استراتيجية تنموية حول:

  • الصناعات الدوائية والتكنولوجيا الحيوية: استغلال قاعدة علمية سابقة وبناء عليها.
  • برمجيات وتكنولوجيا المعلومات: استثمار أقل تكلفة من الصناعات الثقيلة، ويعتمد على المهارات البشرية.
  • الطاقات المتجددة: تحويل أزمة الكهرباء إلى فرصة لبناء صناعة محلية للطاقة الشمسية.

الشراكة التوجيهية في عصر العولمة: "الشراكة الذكية" بدلاً من "الحماية المغلقة"

التحدي: منظمة التجارة العالمية تمنع الحمائية العلنية والدعم المالي المباشر.

الحل: استخدام أدوات مسموحة ومبتكرة:

  • دعم البحث والتطوير (R&D): هذا مسموح به ومشجع عليه عالمياً. إنشاء معاهد أبحاث حكومية-خاصة على نموذج معهد ITRI التايواني لتطوير تكنولوجيات محلية.
  • معايير الجودة والصحة والسلامة: استخدامها كأداة غير مباشرة لحماية الصناعات الناشئة مع رفع جودتها.
  • تشجيع الصادرات عبر الخدمات اللوجستية والمعلومات: توفير معلومات السوق العالمية للمصدرين الناشئين بدلاً من الدعم النقدي المباشر.
  • الاستفادة من سلاسل القيمة العالمية بدلاً من محاربتها

الاستراتيجية القديمة: بناء صناعة محلية كاملة من الألف إلى الياء.

الاستراتيجية الجديدة لسورية: الاندماج في جزء متخصص ضمن السلسلة العالمية. الهدف ليس إنتاج سيارة كاملة، بل أن تصبح سورية مُصدراً موثوقاً لقطع غيار سيارات عالية الجودة، أو مكونات إلكترونية متخصصة لشركات أوروبية أو تركية أو آسيوية. هذا يضمن دخولاً للعملة الصعبة ونقل للمعارف.

 الأولوية المطلقة: بناء المؤسسات (الحوكمة أولاً):

هذا هو الأهم على الإطلاق في السياق السوري. نجاح النموذج التنموي يعتمد على "بيروقراطية كفؤة ونزيهة". أخطر شيء هو تطبيق سياسات تدخلية في ظل مؤسسات ضعيفة وفاسدة، لأن ذلك سيؤدي إلى الزبونية والفساد ونهب المال العام، وسيقتل أي فرصة للنجاح.

الخطوة الأولى لأي حكومة انتقالية: يجب أن تكون إصلاح القضاء، تعزيز الشفافية، ومحاربة الفساد كأولوية مطلقة قبل أي تدخل اقتصادي كبير. بدون هذه الأساس، أي نموذج – نيوليبرالي أو تنموي – سيفشل.

العدالة الاجتماعية كأساس للاستقرار وليس كترف:

النموذج التنموي الكلاسيكي ضحى أحياناً بالعدالة الاجتماعية من أجل النمو السريع. هذا خطير في سورية ما بعد الصراع؛ لذلك فإن إدماج البعد الاجتماعي في استراتيجية إعادة البناء وإطلاق النهوض الاقتصادي ضرورة قصوى. فيجب أن تكون برامج الحماية الاجتماعية، واستثمارات الصحة والتعليم، جزءاً أساسياً من الاستراتيجية التنموية وليس تكميلياً لها. إعادة إعمار الإنسان أهم من إعادة إعمار الحجر.

 خارطة الطريق في إرساء السياسة الاقتصادية في سورية

يجب أن تكون الأولوية هي إعادة بناء الدولة والمجتمع، وليس تعظيم الأرباح. لذلك، السياسة يجب أن تكون توجيهية وتدخلية ذكية، وليست تحريرية يصعب بالمستقبل القريب منع توحشها.

تُرسم السياسات وفق خارطة طريق علمية مدروسة، تجمع بين التخطيط على المدى الإسعافي (1 إلى 3 سنة)، وعلى المدى المتوسط المدى (5 إلى 10 سنة)، وعلى المدى الطويل (40 إلى 60 سنة). وهذا التخطيط ضروري لإن إعادة البناء تتضمن بناء بنية تحتية ذات عمر افتراضي على الأقل 40 سنة (7).

مراحل النهوض الإداري والاقتصادي:

في الخمس سنوات الأولى، وهنا تتضح إشكالية افتراض أن الحكومة الانتقالية ستبقى لمدة خمس سنوات، يمكن تقسيم العمل خلالها، وبشكل تقريبي وليس حاد، وفق المراحل التالية:

المرحلة الأولى: الطوارئ والإغاثة (1-2 سنوات)

  • دور الدولة المركزي: يجب أن تبقى الدولة هي الموزع الرئيسي للموارد عبر برامج إغاثة ضخمة (تمويل من منظمات دولية وديارات خليجية وأوروبية بضمانات سياسية).
  • الشراكة مع القطاع الخاص المحلي الصغير: تشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة (Small and Medium-sized Enterprises) في مجال الزراعة، الإنتاج الغذائي المحلي، والحرف اليدوية. إعطاء قروض صغيرة بفائدة صفرية.
  • إصلاح القطاع العام، لا بيعه: إعادة تأهيل المشافي والمدارس الحكومية، ودفع رواتب الموظفين (المعلمين، الأطباء) لاستعادة الحد الأدنى من الخدمات.

المرحلة الثانية: إعادة الإعمار والاستقرار (3-5 سنوات)

  • إصلاح النظام الضريبي: بناء نظام ضريبي تصاعدي عادل (الغني يدفع أكثر) لتمويل الخدمات العامة.
  • جذب استثمارات إنتاجية: تشجيع الاستثمار في الصناعات التحويلية والزراعة، وليس فقط الاستيراد والاستهلاك.
  • الشراكات العامة-الخاصة (PPP – Public-Private Partnership): وهو النموذج الأفضل لقطاعات مثل الكهرباء والنفط.
  • تبقى ملكية الموارد (مثل النفط والغاز الطبيعي) للدولة (مملوكة للشعب).
  • تتعاقد الدولة مع شركة خاصة (محلية أو أجنبية) ذات خبرة تقنية عقد إدارة وتشغيل (Operation & Management Contract) أو عقد BOT (Build-Operate-Transfer) لمحطة توليد كهرباء.

الفرق الجوهري: الدولة تتحكم بالسعر النهائي وتحصل على حصة من الأرباح، وتحافظ على السيادة على المورد.

المرحلة الثالثة: النمو والتطوير (بعد 5 سنوات)

هنا فقط يمكن البدء في مناقشة خصخصة بعض القطاعات غير الإستراتيجية، وبعد بناء هيئات رقابية قوية قادرة على منع الاحتكار وحماية المستهلك، والتأسيس للسوق المفتوح من منطلق قوة وليس من منطلق حاجة.

خاتمة: لا يجوز المقامرة بمستقبل سورية أمام صعوبة الواقع

في السياق السوري، حيث الانقسامات المجتمعية ما تزال عميقة، فإن خصخصة الموارد قد لا تكون مجرد مغامرة اقتصادية، بل شرارة لانقسامات سياسية ومناطقية جديدة؛ فالخطر ليس اقتصادياً فقط، بل خطراً اجتماعياً وسياسياً وربما أمنياً.

سورية ليست شركة مفلسة يمكن تفكيكها وبيع أجزائها. إنها أمة تمتلك إرثًا وتستحق مستقبلاً. اقتصاد النيوليبرالية القائمة على الخصخصة السريعة في لحظة الضعف هذه هي مغامرة بمستقبل سورية والأجيال القادمة، وبمعاملات خطورة عالية كما تثبت تجارب الدول الأخرى في العالم.

النجاح لن يأتي من وصفات السوق المتوحشة، بل من إرادة سياسية تضع بناء المؤسسات والعدالة الاجتماعية على التوازي، وفي القلب من عملية إعادة الإعمار. الدرس من أوروبا والعراق ولبنان واضح: الطريق النيوليبرالي هو طريق مسدود. على سورية أن تختار طريقًا مختلفًا، طريق الدولة القوية العادلة التي تبني ولا تبيع.

المراجع:

  1.  سورية حتى العام 2011، ما بين الابن وأبيه، علاء الخطيب، المركز العربي لدراسات سورية المعاصرة، 29 كانون الأول/ديسمبر ,2022 https://www.infosalam.com/syria/syria-studies/syria_to_2011#_edn6
  2.  تقرير “اقتصاد الأزمة السورية” – صندوق النقد الدولي – حزيران 2016
  3.   Neoliberalism: Oversold?، Jonathan D. Ostry, Prakash Loungani, and Davide Furceri، Finance & Development, June 2016, Vol. 53, No. 2 https://www.imf.org/external/pubs/ft/fandd/2016/06/ostry.htm
  4.  Harvey, D. (2004). "The ‘new’ imperialism: accumulation by dispossession". Socialist Register. 40: 63–87.
  5.  Stiglitz, Joseph E. (2002). Globalization and its discontents. New York: W.W. Norton & Company. ISBN 978-0393051247.
  6.  ها جون تشانغ Ha-Joon Chang عالم اقتصاد بريطاني من كوريا الجنوبية ، متخصص في اقتصاديات التنمية، ويعمل كقارئ في الاقتصاد السياسي للتنمية بجامعة كامبريدج.
  7.  Le Monde, “EDF to be Renationalized Amid Energy Crisis,” July 2022
  8. International Energy Agency (IEA), Energy Security in Europe, 2022
  9.   Thomas Pellerin-Carlin, The European Energy Crisis: From Market Failure to Public Responsibility, Jacques Delors Institute, 2022.
  10.  Economic Restructuring in Iraq: Intended and Unintended Consequences، Yousif, B. (2007)، Journal of Economic Issues, 41(1), pg.44 http://www.jstor.org/stable/25511155
  11. .  The reconstruction of Lebanon or the racketeering rule، Fabrice Balanche، 25 September 2024|
    https://www.fabricebalanche.com/en/lebanon/the-reconstruction-of-lebanon-or-the-racketeering-rule/
  12. Turkey in the Global Economy: Neoliberalism, Global Shift, and the Making of a Rising Power، Bülent Gökay، McGill-Queen’s University Press، ISBN  9781788210843
  13. Neoliberal Politics in Turkey، The Oxford Handbook of Turkish Politics، Pages 159–186، Sinan Erensü, Yahya M. Madra، 02 September 2020
  14. حكم الأقلية أو الأوليغاركية أو الأوليغارشية (بالإنجليزية: Oligarchy) هي شكل من أشكال الحكم بحيث تكون السلطة السياسية محصورة بيد فئة صغيرة من المجتمع تتميز بالمال أو النسب أو السلطة العسكرية.
  15.  أسئلة حول غموض عقد الكهرباء السوري، علاء الخطيب، 14 حزيران\يونيو 2025 https://www.infosalam.com/syria/syria-articles/electricity_contract
  16.  إعادة الإعمار الاستراتيجي في سورية: تحويل التحديات إلى فرص، علاء الخطيب، 12 كانون أول\ديسمبر 2024 https://www.infosalam.com/syria/syria-studies/strategic-reconstruction-syria
  17. [1]  Six Getting Relative Prices “Wrong”: A Summary، South Korea and Late Industrialization Asia’s Next Giant: South Korea and Late Industrialization، Alice H. Amsden، Pages 139–156https://doi.org/10.1093/0195076036.003.0006
  18.   Getting the Prices Wrong https://doi.org/10.1093/0195076036.003.0006أو تحديد الأسعار بشكل خاطئ يعني تحديد أسعار غير صحيحة للسلع أو الخدمات أو عوامل الإنتاج (مثل العمل، رأس المال، الأرض) — إما عن طريق التدخل الحكومي أو التشوهات السوقية — مما يؤدي إلى تخصيص غير فعال للموارد في الاقتصاد. وضمن هذا السياق تعبر عن تدخل ال











شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع