أزمة السكن في سورية بين الدمار والعشوائيات

المقدمة:

تُعد أزمة السكن في سورية من أبرز التحديات التي تواجه البلاد في مرحلة ما بعد النزاع، حيث تداخلت عوامل الحرب، والنزوح، والدمار العمراني، مع ضعف السياسات الإسكانية، لتنتج واقعًا مأساويًا يهدد الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
وفي تصريح رسمي أدلى به وزير الأشغال العامة والإسكان السوري، مصطفى عبد الرزاق، بتاريخ 17 أيلول/سبتمبر 2025، كشف عن وجود نحو مليون منزل مدمر في سورية، وأن ربع السكان يعيشون في مساكن عشوائية، هذا التصريح يعكس حجم الكارثة العمرانية التي تعيشها البلاد، ويطرح تساؤلات جوهرية حول قدرة الدولة على معالجة هذه الأزمة، في ظل التحديات السياسية والاقتصادية الراهنة.

أولاً: السياق التاريخي لأزمة السكن في سورية

قبل عام 2011، كانت سورية تعاني بالفعل من اختلالات في قطاع الإسكان، أبرزها انتشار العشوائيات في محيط المدن الكبرى مثل دمشق، وحلب، وحمص، ووفقًا لتقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN-Habitat) عام 2009، فإن نحو 40% من سكان دمشق كانوا يعيشون في مناطق غير منظمة، هذه النسبة كانت مرشحة للارتفاع نتيجة النمو السكاني السريع، وغياب التخطيط الحضري الفعّال، وضعف التمويل العقاري.
مع اندلاع الثورة في مارس 2011، تحولت أزمة السكن من مشكلة تنموية إلى كارثة إنسانية، فالعمليات العسكرية، والقصف الجوي، والاشتباكات المسلحة، أدت إلى تدمير واسع النطاق في البنية التحتية، لا سيما في المناطق التي شهدت مواجهات عنيفة مثل حمص القديمة، والغوطة الشرقية، وحي صلاح الدين في حلب، ودرعا البلد.
بحسب تقرير صادر عن البنك الدولي في يونيو 2017، فإن إجمالي الأضرار في قطاع الإسكان السوري تجاوز 30 مليار دولار، وهو رقم يعكس حجم الدمار الذي طال المدن والبلدات.

ثانيًا: النزوح والتهجير كعامل مضاعف للأزمة

أدى النزاع إلى تهجير أكثر من نصف سكان سورية، حيث بلغ عدد النازحين داخليًا نحو 6.8 مليون شخص، بينما تجاوز عدد اللاجئين خارج البلاد 5.5 مليون بحسب بيانات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR) حتى نهاية عام 2024.
هذا النزوح الجماعي خلق ضغطًا هائلًا على المناطق الآمنة نسبيًا، وأدى إلى توسع العشوائيات، وارتفاع أسعار الإيجارات، وتدهور جودة المساكن.
في مناطق مثل ريف دمشق، وطرطوس، واللاذقية، شهدت العشوائيات نموًا غير مسبوق، حيث لجأ إليها النازحون من مناطق الصراع، وأقاموا مساكن مؤقتة تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة الكريمة، هذه المناطق غالبًا ما تكون خارج المخططات التنظيمية، وتفتقر إلى شبكات المياه والصرف الصحي، والكهرباء، والمدارس، والمراكز الصحية، مما جعلها بؤرًا للفقر والتهميش الاجتماعي.

ثالثًا: التصريح الرسمي وتداعياته

في 17 أيلول/سبتمبر 2025، وخلال مقابلة تلفزيونية على قناة "الإخبارية السورية"، صرّح وزير الأشغال العامة والإسكان، مصطفى عبد الرزاق، بأن عدد المنازل المدمرة في سورية بلغ نحو مليون منزل، وأن ربع السكان يعيشون في مساكن عشوائية. هذا التصريح، رغم صراحته، أثار جدلًا واسعًا في الأوساط الإعلامية والحقوقية، حيث اعتبره البعض اعترافًا رسميًا بحجم الفشل في إدارة ملف الإسكان، بينما رآه آخرون خطوة نحو الشفافية وبدء معالجة الأزمة.
الوزير أشار أيضًا إلى أن الوزارة تواجه تحديات كبيرة، منها ضعف الكوادر، وتهالك المعدات، وغياب التمويل الكافي، إضافة إلى أن بعض مشاريع الإسكان التي أُطلقت منذ عام 2004 لا تزال غير منجزة حتى اليوم. كما تحدث عن وجود عروض من مستثمرين عرب وسوريين مغتربين للمشاركة في مشاريع إعادة الإعمار، لكنه لم يوضح طبيعة هذه العروض أو مدى جديتها.

رابعًا: العشوائيات كواقع مفروض لا خيار

العشوائيات في سورية تحولت من ظاهرة عمرانية إلى أزمة اجتماعية وإنسانية، حيث يعيش فيها ملايين السوريين في ظروف غير إنسانية، حيث تفتقر هذه المناطق إلى البنية التحتية، والخدمات الأساسية، والأمان الإنشائي. كما أنها غالبًا ما تكون عرضة للكوارث الطبيعية، مثل الانهيارات الأرضية، والحرائق، والفيضانات، بسبب غياب التخطيط الهندسي السليم.
في دراسة أجراها المركز السوري لبحوث السياسات عام 2022، تبين أن سكان العشوائيات يعانون من معدلات مرتفعة من البطالة، والأمية، والأمراض المزمنة، وأن الأطفال في هذه المناطق محرومون من التعليم النظامي بنسبة تصل إلى 45%.
هذه الأرقام تعكس حجم التهميش الذي تعانيه هذه الفئة، وتؤكد أن معالجة أزمة السكن لا يمكن أن تتم دون معالجة البعد الاجتماعي والاقتصادي للعشوائيات.

خامسًا: التحديات أمام وزارة الأشغال والإسكان
تواجه وزارة الأشغال العامة والإسكان تحديات جسيمة في معالجة أزمة السكن، أبرزها:

  1. ضعف التمويل العقاري: توقف المصارف عن تقديم القروض السكنية منذ عام 2012، بسبب الأزمة الاقتصادية، وتدهور قيمة الليرة السورية، وغياب الضمانات القانونية.
  2. الفساد الإداري والمالي: تعاني الوزارة من ضعف الرقابة، وغياب الشفافية في العقود والمناقصات، مما أدى إلى تعثر العديد من المشاريع، وتبديد الموارد.
  3. غياب التخطيط الحضري الحديث: لا توجد استراتيجية وطنية شاملة لإعادة تنظيم المدن، واستيعاب النمو السكاني، ومعالجة العشوائيات.
  4. ضعف الكوادر والمعدات: أشار الوزير إلى أن الوزارة تعاني من نقص في الكوادر الفنية، وتهالك المعدات، مما يعيق تنفيذ المشاريع في الوقت المحدد.

سادسًا: الحلول المقترحة ومسارات الإنقاذ
رغم التحديات، هناك بعض الخطوات التي يمكن أن تشكل بداية لمعالجة الأزمة، منها:

  • إعادة تفعيل التمويل العقاري: من خلال جذب الاستثمارات، وتقديم ضمانات للمصارف، وتسهيل إجراءات القروض السكنية.
  • إصدار قوانين جديدة لمعالجة ملف السكن الشبابي: بحيث يتم تقليص مدة إنجاز المشاريع إلى ثلاث سنوات بدلًا من عشرين، وتقديم إعفاءات للمتأخرين عن السداد منذ عام 2011.
  • إشراك القطاع الخاص والمغتربين: عبر وضع إطار قانوني واضح يضمن حقوق المستثمرين، ويشجعهم على المشاركة في مشاريع إعادة الإعمار.
  • إطلاق استراتيجية وطنية شاملة للإسكان: تشمل تنظيم العشوائيات، وتوفير مساكن لائقة للفئات الأكثر ضعفًا، وتعزيز المشاركة المجتمعية في التخطيط العمراني.

سابعًا: البعد السياسي والإنساني للأزمة

لا يمكن فصل أزمة السكن عن السياق السياسي العام في سورية، استمرار النزاع ولو بشكل محدود كالسويداء والجزيرة، وغياب الحل السياسي الشامل، وغياب العدالة الانتقالية، كلها عوامل تُعيق أي جهد حقيقي لإعادة الإعمار.
كما أن عودة اللاجئين والنازحين ترتبط بشكل مباشر بوجود بيئة سكنية آمنة ومستقرة.
الحق في السكن هو حق إنساني أساسي، مرتبط بالكرامة، والأمان، والانتماء. لذلك، فإن معالجة أزمة السكن يجب أن تكون جزءًا من رؤية وطنية متكاملة، تشمل المصالحة الوطنية، وإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، وضمان العدالة الاجتماعية.

خاتمة:

إن أزمة السكن في سورية تمثل تحديًا وطنيًا وإنسانيًا من الطراز الأول، لا يمكن معالجته عبر حلول جزئية أو مؤقتة.
والمطلوب هو رؤية استراتيجية شاملة، تتكامل فيها الجهود الحكومية، والمجتمعية، والدولية، من أجل إعادة بناء ما تهدم، واستعادة ما فُقد، وبناء مستقبل يليق بالسوريين جميعًا.
فالسكن ليس مجرد جدران وسقف، بل هو وطن صغير، تبدأ منه رحلة التعافي الوطني، وتُبنى فيه أسس العدالة، والاستقرار، والكرامة.

وانطلاقًا من مسؤوليتنا الوطنية، ورؤيتنا لسورية المستقبل كدولة عادلة وآمنة لجميع أبنائها، يقدم تيار المستقبل السوري التوصيات التالية لمعالجة أزمة السكن في البلاد، استنادًا إلى المعطيات الواردة في هذه الورقة:

أولًا: على المستوى التشريعي والمؤسساتي

  • إعادة هيكلة السياسات الإسكانية بما يتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، ويضمن العدالة في التوزيع، والشفافية في التنفيذ.
  • إصدار قانون وطني لتنظيم العشوائيات يهدف إلى دمجها تدريجيًا في النسيج العمراني، مع الحفاظ على حقوق السكان الأصليين.
  • تفعيل دور المجالس المحلية المنتخبة في التخطيط العمراني، وتحديد أولويات الإسكان في كل منطقة وفقًا لاحتياجاتها الفعلية.

ثانيًا: على المستوى المالي والاقتصادي

  • إطلاق صندوق وطني لإعادة الإعمار السكني بتمويل مشترك من الدولة، والقطاع الخاص، والمغتربين، والمنظمات الدولية.
  • تحفيز المصارف على استئناف التمويل العقاري عبر تقديم ضمانات حكومية، وتسهيلات ضريبية، وتحديد نسب فائدة مدروسة.
  • تشجيع الاستثمار في مشاريع الإسكان الاجتماعي من خلال منح امتيازات للمستثمرين الذين يلتزمون بمعايير العدالة السكنية.

ثالثًا: على المستوى الفني والتخطيطي

  • إعداد خارطة وطنية للمناطق المتضررة والعشوائية وتحديثها دوريًا، لتكون مرجعًا للتخطيط والتنفيذ.
  • اعتماد تقنيات البناء السريع والمستدام لتقليص كلفة الإنشاء، وتسريع وتيرة إعادة الإعمار.
  • إشراك الجامعات ومراكز البحث الهندسي في تصميم نماذج إسكان ملائمة للبيئة السورية، وقابلة للتطبيق في مختلف المناطق.

رابعًا: على المستوى الحقوقي والإنساني

  • ضمان حق السكن كحق دستوري غير قابل للتنازل أو التمييز، وتضمينه في أي صيغة دستورية مستقبلية.
  • إطلاق برامج دعم نفسي واجتماعي لسكان العشوائيات والمهجرين، بهدف إعادة دمجهم في المجتمع، وتعزيز شعورهم بالانتماء.
  • تسهيل عودة اللاجئين والنازحين عبر توفير مساكن آمنة، وإزالة العوائق القانونية والإدارية التي تحول دون استعادة ممتلكاتهم.

خامسًا: على المستوى الدولي

  • دعوة الأمم المتحدة والجهات المانحة إلى اعتبار ملف السكن في سورية أولوية إنسانية وتنموية، وتخصيص موارد عاجلة له.
  • العمل على إدراج ملف العشوائيات والدمار العمراني ضمن أجندة مفاوضات الحل السياسي، باعتباره جزءًا من العدالة الانتقالية.
  • تعزيز الشراكات مع منظمات الإسكان الدولية لتبادل الخبرات، وتطبيق نماذج ناجحة من دول مرت بتجارب مشابهة.

هذه التوصيات تمثل رؤية تيار المستقبل السوري لبناء سورية جديدة، تُعيد الاعتبار للإنسان، وتضعه في قلب السياسات العامة، وتؤمن بأن السكن ليس امتيازًا، بل حقًا أصيلًا لكل مواطن.

المراجع:

  • البنك الدولي. (2017). The Toll of War: The Economic and Social Consequences of the Conflict in Syria. Retrieved from https://www.worldbank.org
  • المفوضية السامية لشؤون اللاجئين. (2024). Syria Regional Refugee Response. Retrieved from https://data.unhcr.org
  • برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية. (2009). Syria Urban Profile. UN-Habitat.
  • المركز السوري لبحوث السياسات. (2022). Social Deprivation in Informal Settlements. Syrian Center for Policy Research.
  • قناة الإخبارية السورية. (2025, September 17

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع