تحليل الإعلان الدستوري وآفاق العدالة الانتقالية

مقدمة:

في سياق التحولات السياسية العميقة التي تشهدها سورية بعد سقوط نظام الاستبداد في ديسمبر 2024، يبرز الإعلان الدستوري الصادر عن الرئيس أحمد الشرع في آذار/مارس 2025 كمحور نقاش سياسي حول إمكانية بناء عملية توافقية حقيقية.
وهنا يطرح تقرير معهد كارنيغي للسلام الدولي، بعنوان "هل ثمة فرصة أخرى لعملية توافقية في سورية؟"، تساؤلات جوهرية حول ما إذا كان هذا الإعلان خطوة نحو ديمقراطية توافقية أم مخاطرة بإعادة إنتاج أشكال الاستبداد السابقة.

يهدف هذا المقال إلى تحليل هذه الفرصة، مستلهمًا نظريات العقد الاجتماعي لدى جان جاك روسو وجون راولز، مع التركيز على مفاهيم العدالة الانتقالية والتوافق في مجتمعات ما بعد الصراع.
فمن منظور فلسفي سياسي، يمثل التوافق عملية بناء عقد اجتماعي جديد يتجاوز الانقسامات الطائفية والإثنية التي أورثتها الحرب السورية، والتي استمرت أكثر من 14 عامًا، وأودت بحياة ملايين السوريين.
يؤكد روسو في "العقد الاجتماعي" أن السيادة الحقيقية تكمن في الإرادة العامة، والتي لا تتحقق إلا من خلال مشاركة جميع الأطراف في صياغة القوانين. وفي سياق سوري، يصبح هذا المفهوم أكثر تعقيدًا بسبب التشظيات الاجتماعية، فالمجتمع السوري "منقسم بعمق، فاقد للثقة، ومصدوم من التجارب السابقة".
هذا الانقسام يتجلى في خوف السوريين من تكرار أخطاء الماضي، مع التأكيد على أن التوافق يتطلب تجاوز الهواجس الطائفية.

الإطار النظري، العدالة الانتقالية والتوافق في الفلسفة السياسية:

تُعد العدالة الانتقالية مفهومًا محوريًا في الفلسفة السياسية الحديثة، خاصة في أعمال جون راولز في "نظرية العدالة"، حيث يقترح "حجاب الجهل" كآلية لضمان عدالة التوزيع الاجتماعي دون تحيزات مسبقة.
وفي السياق السوري، يمكن تفسير الإعلان الدستوري كمحاولة لإقامة مثل هذا الحجاب، من خلال تنظيم الحكم خلال المرحلة الانتقالية وضمان الحقوق الأساسية مثل الأمن والعدالة. د
ووفقًا للتقرير السابق ذكره، يهدف الإعلان إلى "تنظيم أمور الحكم"، لكنه صيغ سرًا من قبل لجنة صغيرة، مما يثير تساؤلات حول شرعيته التوافقية.

يقارن التقرير بين تجربة سورية وجنوب أفريقيا، حيث نجحت المحكمة الدستورية في جنوب أفريقيا (1994-1996) في بناء توافق من خلال مبادئ عامة متفق عليها مسبقًا، مثل المساواة والحقوق الأساسية، وهذا النموذج يعكس فلسفة هيغل في "فلسفة الحق"، حيث يرى الدولة كتحقيق للعقل في التاريخ من خلال التوفيق بين المصالح المتنافسة.

في سورية، يمكن للرئيس الشرع استخدام سلطته لتعيين قضاة متنوعين في المحكمة الدستورية، ما يفتح الباب أمام عملية توافقية تشمل جميع الأطياف السورية، بما في ذلك الأقليات والمهجرين.
ومع ذلك، يحذر التقرير من مخاطر تركز السلطة في يد الرئيس، الذي يعين القضاة ويؤثر على العملية التشريعية، مما قد يؤدي إلى "شكل جديد من الديكتاتورية".
كما يبدو بقضية إعادة الإعمار، أن هناك ثلاث قضايا يجب التأكيد عليها كمتطلبات: التوافق الإقليمي، والدعم الدولي، والانخراط الاجتماعي، ما يعني إلى أن التوافق يتطلب تجاوز الانقسامات الديموغرافية والاقتصادية الناتجة عن الحرب.

مما يحيلنا للقول بأن التوافق ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو عملية نفسية واجتماعية تتطلب بناء الثقة، كما يصف نيتشه في "هكذا تكلم زرادشت" بأن الإرادة نحو القوة كتجاوز للضعف التاريخي.

التحديات السورية، بين الاستبداد والتوافق:

في السياق السوري، يواجه التوافق تحديات فلسفية عميقة، مستمدة من تراث الاستبداد الذي ساد لعقود.
فالإعلان الدستوري، رغم إعلانه الحقوق والحريات، فإنه يمنح الرئيس صلاحيات واسعة، مما يُذكر بتحذير أفلاطون في "الجمهورية" (حوالي 380 ق.م) من تحول الديمقراطية إلى استبداد إذا لم تُبنى على فضائل أخلاقية.
ومقارنة مع مصر بعد 2011، حيث أدت المحكمة الدستورية إلى انقسامات عميقة بين الإسلاميين والعلمانيين، يبدو ضرورياً الحذر من تكرار هذا السيناريو في سورية، حيث قد يُنظر إلى المحكمة كأداة للإقصاء.

وفي نقاش حول سياسة الغرب تجاه سورية، تبرز الحاجة إلى اتفاق سياسي شامل لإنهاء الصراع، مع الحذر من فشل التدابير التكتيكية دون توافق. كذلك، فالتركيز على المناطق الطرفية ضروري لفهم المسار المستقبلي، مما يعني أن التوافق يتطلب دعمًا إقليميًا لتجاوز التدخلات الخارجية.

هذه المناقشات تعكس فلسفة كانط في "السلام الدائم"، حيث يرى أن السلام يتطلب اتحادًا فيدراليًا دوليًا، يمكن تطبيقه على سورية من خلال رفع العقوبات وإعادة الاندماج الدولي كحافز للتوافق.
بالإضافة إلى ذلك، هناك قضية الطائفية كعقبة رئيسية؛ ففي دراسة عن التشظيات الطائفية، يبدو أن الفئات الموالية سابقًا تشعر بالهاجس من فقدان السيطرة، مما يتطلب آليات نفسية للبناء الثقة.
ومن منظور فلسفي، يذكر هذا بفوكو في "المراقبة والعقاب" حيث ييرى الاستبداد كشبكة سلطة تتغلغل في المجتمع، ويتطلب تفكيكها عملية توافقية تشمل المحاسبة والمصالحة.

آفاق المستقبل:

لتحقيق فرصة توافقية أخرى في سورية، يقترح البعض تشكيل محكمة دستورية متنوعة والاتفاق على مبادئ عامة، استلهاماً من نموذج جنوب أفريقيا.
حيث يعكس هذا نظرية هابرماس في "الفعل التواصلي"، إذ يبنى التوافق على حوار عقلاني يتجاوز المصالح الشخصية. في السياق السوري، يجب أن يشمل هذا الحوار المهجرين والأقليات، مع دعم دولي لرفع العقوبات، كما أن التغييرات الديموغرافية تتطلب توافقًا إقليميًا.

ويبرز بموضوع التطبيع العربي مع النظام السابق كعامل يعيق التوافق، مما يستدعي الحذر من أن التحيز للأسد يمنع تسوية شاملة.
كذلك، في دراسة عن الأزمة السورية، يُؤكد على ضعف الانتماء الوطني كتحدي رئيسي، مما يتطلب بناء هوية مشتركة فلسفيًا مستوحاة من أرسطو في "السياسة"، حيث المدينة هي مجتمع للحياة الطيبة.

الخاتمة:

في الختام، يقدم الإعلان الدستوري في سورية فرصة فلسفية سياسية لعملية توافقية، لكنه يتطلب تجاوز مخاطر الاستبداد من خلال محكمة دستورية مستقلة وحوار شامل.
ويؤكد هذا التحليل أن التوافق يعني أهم مايعنيه إعادة بناء العقد الاجتماعي على أسس العدالة والثقة.
ومع الدعم الدولي والإقليمي، يمكن لسورية أن تتحول إلى نموذج للعدالة الانتقالية لتحقيق سلام دائم.

المراجع:

  1. أرسطو. (2006). السياسة. ترجمة: أحمد لطفي السيد. القاهرة: دار المعارف.
  2. فوكو، م. (2004). المراقبة والعقاب: ولادة السجن. ترجمة: علي سميح. بيروت: دار الطليعة.
  3. هابرماس، ي. (2006). نظرية الفعل التواصلي (المجلد الأول). ترجمة: محمد الحاج سالم. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
  4. هيغل، ج. ف. (1999). فلسفة الحق. ترجمة: إمام عبد الفتاح. بيروت: دار الكتاب العربي.
  5. كانط، إ. (2002). نحو السلام الدائم. ترجمة: فؤاد زكريا. القاهرة: دار التنوير.
  6. نيتشه، ف. (2008). هكذا تكلم زرادشت. ترجمة: علي مصباح. بيروت: دار الساقي.
  7. أفلاطون. (2005). الجمهورية. ترجمة: فؤاد زكريا. القاهرة: دار الشروق.
  8. راولز، ج. (2003). نظرية العدالة. ترجمة: سمير مقدسي. بيروت: دار الأهلية.
  9. روسو، ج. ج. (2007). العقد الاجتماعي. ترجمة: عبد الله عبد الرحمن. دمشق: دار الحصاد.
  10. كارنيغي للسلام الدولي. (2025). هل ثمة فرصة أخرى لعملية توافقية في سورية؟. Syria TV. متاح على: https://www.syria.tv/كارنيغي-هل-ثمة-فرصة-أخرى-لعملية-توافقية-في-سورية؟
شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع