تتناول هذه الدراسة التحليلية التحولات البنيوية والوظيفية التي طرأت على دور المعلم السوري منذ مرحلة التأسيس الوطني عام 1946 وحتى مرحلة إعادة الإعمار ما بعد النزاع في عام 2025م.
وتستعرض الورقة أربعة مراحل مفصلية في تطور هذا الدور، بدءاً من التأسيس، مروراً بعصر التسييس، ثم مرحلة الصراع، وصولاً إلى مرحلة إعادة البناء، كما تقدم تحليلاً مركباً للتحديات الراهنة التي تواجه المعلم السوري، وتطرح نموذجاً تنموياً يستند إلى الأدلة المقارنة والتجارب الدولية في سياقات ما بعد النزاع، بهدف إعادة تعريف المعلم كفاعل تربوي منخرط في بناء السلام وإعادة تشكيل الهوية الوطنية الجامعة.
المقدمة:
يشكل المعلم السوري أحد أبرز الفاعلين في مشروع بناء الدولة الوطنية، وقد ارتبط دوره تاريخياً بمسارات التحول السياسي والاجتماعي والاقتصادي التي شهدتها سورية منذ استقلالها.
إلا أن هذا الدور تعرض لتقلبات حادة، بدءاً من التمكين التربوي في مرحلة التأسيس، وصولاً إلى التسييس الممنهج، ثم الانهيار المؤسسي خلال سنوات النزاع، وانتهاءً بمحاولات إعادة البناء في مرحلة ما بعد الحرب.
وتهدف هذه الدراسة إلى تحليل تحولات دور المعلم السوري ضمن سياق تاريخي وسياسي مركب، وتقديم تصور تنموي لإعادة تموضعه كمحور أساسي في عملية التعافي الوطني.
أولاً، الإطار التاريخي لتحولات الدور التربوي:
- مرحلة التأسيس الوطني (1946–1963)
في أعقاب الاستقلال، برز المعلم السوري كفاعل تربوي مستقل، يتمتع بمكانة اجتماعية مرموقة واستقلالية مهنية نسبية، وتشير السجلات الرسمية لوزارة التربية (1948) إلى أن رواتب المعلمين كانت تعادل 150 ليرة سورية، ما يعادل 75 دولاراً أمريكياً آنذاك، وهو ما يعكس تقديراً مؤسسياً لدورهم.
كما شهدت هذه المرحلة توسعاً كمياً في التعليم، حيث ارتفعت نسبة الالتحاق بالتعليم الأساسي من 32% إلى 48% بين عامي 1950 و1960 (اليونسكو، 1961).
وقد ارتبط دور المعلم آنذاك بمشروع بناء الهوية الوطنية، وتشكيل الوعي الجمعي في سياق ما بعد الاستعمار. - مرحلة التسييس المؤسسي (1963–2011)
مع وصول حزب البعث إلى السلطة، بدأ تسييس المنظومة التعليمية بشكل ممنهج، حيث فرض القرار الوزاري رقم 11/1971 شرط الانتماء الحزبي للترقية الوظيفية، ما أدى إلى تآكل استقلالية المعلم وتحويله إلى أداة أيديولوجية.
وبالتوازي، شهدت البلاد تدهوراً اقتصادياً انعكس على القطاع التربوي، حيث انخفضت القيمة الحقيقية لرواتب المعلمين بنسبة 400% بين عامي 1990 و2010، كما أدت سياسات التوظيف غير الكفوءة إلى هجرة 28% من خريجي كليات التربية إلى دول الخليج العربي، مما ساهم في تراجع جودة التعليم وتآكل الكفاءات التربوية. - مرحلة النزاع والانهيار (2011–2024)
أدى النزاع السوري إلى تشظي المنظومة التعليمية، حيث ظهرت ثلاث منظومات تربوية متباينة وفقاً لمناطق السيطرة:
المناهج الرسمية في مناطق النظام البائد، مناهج بديلة في مناطق المعارضة، ومناهج ذات طابع ثقافي كردي في مناطق الإدارة الذاتية.
هذا الانقسام أدى إلى تباين معرفي واسع بين الطلاب، وتفكك في وحدة السردية الوطنية. كما تعرضت البنية التحتية التعليمية لانهيار شبه كامل، حيث دُمّر نحو 40% من المدارس.
وقد وجد المعلم نفسه في هذه المرحلة أمام تحديات غير مسبوقة، منها غياب التنسيق المؤسسي، وانعدام الأمن الوظيفي، وتزايد الضغوط النفسية والاجتماعية. - مرحلة إعادة البناء (ما بعد 2024)
مع انطلاق جهود إعادة الإعمار، برزت تحديات بنيوية ونفسية عميقة تعيق استعادة دور المعلم.
وتشير بيانات منظمة الصحة العالمية (2025) إلى أن 68% من الطلاب يعانون من اضطرابات نفسية مرتبطة بالنزاع، بينما يحتاج 80% من المعلمين إلى تدريب متخصص في الدعم النفسي الاجتماعي.
كما تعاني المنظومة من عجز بنسبة 45% في أعداد المعلمين المؤهلين، واكتظاظ صفوف يصل إلى نسبة 1:70، مما يضع عبئاً هائلاً على المعلم ويحد من قدرته على أداء دوره التربوي.
ثانياً، تحليل التحديات الراهنة:
- الإرث المؤسسي للنزاع:
أدى تعدد المناهج إلى خلق فجوات معرفية بين الطلاب، وتراجع في الثقة المجتمعية بالمعلم كمؤسسة.
حيث أظهر استطلاع مركز SCARS (2024) انخفاضاً بنسبة 62% في مكانة المعلم الاجتماعية، مما يعكس أزمة ثقة عميقة بين المجتمع والمؤسسة التربوية.
هذا التراجع لا يرتبط فقط بالظروف المادية، بل أيضاً بفقدان المعلم لدوره الرمزي كمصدر للمعرفة والسلطة الأخلاقية. - الإشكاليات البنيوية:
تعاني المنظومة التعليمية من ضعف التمويل، حيث لا تتجاوز حصة التعليم 4% من الموازنة العامة، مقارنةً بالمتوسط العالمي البالغ 15%.
كما أن 55% من المدارس تفتقر للتجهيزات الأساسية، بما في ذلك الكهرباء والمياه والمرافق الصحية.
أما على مستوى التعليم العالي، فقد فقدت الجامعات السورية نحو 52% من أعضاء هيئاتها التدريسية، ما أدى إلى تراجع جودة إعداد المعلمين الجدد، وغياب البحث التربوي المتخصص. - الصدمات النفسية المجتمعية:
لا يمكن الحديث عن إعادة بناء التعليم دون معالجة الآثار النفسية للصراع.
فالمعلم نفسه يعاني من إرهاق نفسي مزمن، وانعدام الأمن الوظيفي، وغياب الدعم المؤسسي.
وتشير تقارير منظمة الصحة العالمية (2025) إلى أن المعلمين في مناطق النزاع معرضون لمستويات عالية من القلق والاكتئاب، مما يؤثر مباشرة على أدائهم التربوي.
فالتدريب على الدعم النفسي الاجتماعي لم يعد ترفاً، بل ضرورة تربوية ملحة.
ثالثاً، النموذج التنموي المقترح – نحو المعلم المنخرط:
في ضوء التحديات السابقة، تقترح هذه الدراسة نموذجاً تنموياً يقوم على إعادة تعريف دور المعلم كمشارك فاعل في بناء السلام، وليس مجرد ناقل للمعرفة.
هذا النموذج يستند إلى ثلاث ركائز أساسية:
- الهوية التربوية: توحيد المناهج على أساس التربية على السلام والعدالة والتنوع الثقافي، مستفيدين من تجربة جنوب أفريقيا بعد الفصل العنصري.
- الكفاءة المهنية: تأسيس "الأكاديمية السورية لتدريب المعلمين" بالشراكة مع مؤسسات دولية، وتطوير برامج تدريبية تجمع بين المهارات الأكاديمية والدعم النفسي والاجتماعي.
- الاستدامة المؤسسية: إصدار "قانون حماية الكرامة التعليمية"، وربط الرواتب بمؤشر التضخم، وإنشاء صندوق وطني لدعم التعليم بآلية تمويل مشتركة.
رابعاً، التوصيات الاستراتيجية:
في البيان الذي أصدرناه بتاريخ 20 آذار 2025 المعنون بـ "يوم المُعلِّم في سورية" أكدنا خلاله أنه لا مستقبل لسورية دون تعليمٍ جيد، ولا تعليمَ جيدَ دون مُعلِّمٍ مُكرَّمٍ ومُتمكن، وعليه فإننا في المكتب العلمي لـ تيار المستقبل السوري نوصي بما يأتي:
- للحكومة السورية: رفع الاستثمار في التعليم إلى 15% من الناتج المحلي، وتفعيل مشروع جذب الكفاءات، وتطبيق نظام الرقمنة التكيفية.
- للمؤسسات الأكاديمية: توثيق تجارب الحرب في "أرشيف الذاكرة التربوية"، وإنتاج مواد تعليمية تراعي التنوع المجتمعي.
- للمجتمع الدولي: إنشاء "صندوق إعمار التعليم السوري"، ودعم برامج التبادل الأكاديمي مع مراكز الدراسات النزاعية.
الخاتمة:
إن إعادة بناء سورية وإن كانت تبدأ من إعادة إعمار البنية التحتية، فإن الأولوية أيضا لإعادة تشكيل الوعي الجمعي، وهو ما لا يمكن تحقيقه دون إعادة تعريف دور المعلم.
فالمعلم السوري ليس مجرد ناقل للمعرفة، بل هو حامل للسردية الوطنية، ومؤتمن على بناء السلام، ومؤهل لتشكيل هوية جامعة تتجاوز الانقسامات.
إن نجاح مشروع إعادة البناء يتوقف على قدرة المعلم في معالجة الإرث النفسي للصراع، وتوحيد السردية التاريخية، وبناء هوية وطنية جامعة.
وهذه ليست مهمة تربوية فحسب، بل هي مهمة وطنية، تتطلب من الجميع – الدولة، والمؤسسات، والمجتمع الدولي – أن يعيدوا النظر في موقع المعلم، لا بوصفه ضحية للسياسات أو الحروب، بل بوصفه فاعلاً في صياغة مستقبل البلاد.
المراجع:
- وزارة التربية السورية. (1948). السجلات الرسمية للرواتب والتعيينات. دمشق: الأرشيف المركزي للوزارة.
- الأرشيف الوطني السوري. (2024). وثائق السياسات التربوية في سورية (1970–2011). دمشق: قسم السياسات العامة.
- البنك الدولي. (2011). تدهور القطاع العام في سورية: تحليل اقتصادي. واشنطن: وحدة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
- جامعة دمشق – كلية التربية. (2007). هجرة الكفاءات التربوية السورية إلى دول الخليج: دراسة تحليلية. دمشق: وحدة الدراسات العليا.
- اليونسكو. (1961). تطور التعليم في سورية: تقرير قطري. باريس: قسم التعليم الأساسي.
- اليونسكو. (2023). التعليم في حالات الطوارئ: تقييم الأضرار في سورية. باريس: مكتب الشرق الأوسط.
- منظمة الصحة العالمية. (2025). الصحة النفسية في مجتمعات ما بعد النزاع: سورية نموذجاً. جنيف: قسم الصحة النفسية المجتمعية.
- يونيسف. (2024). تقييم الاحتياجات التعليمية في سورية بعد النزاع. عمان: المكتب الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
- مركز الدراسات السورية للبحوث المتقدمة (SCARS). (2024). تقييم الفجوات التعليمية في سورية: دراسة ميدانية متعددة المناطق. دمشق: وحدة السياسات التربوية.