الملخص التنفيذي:
تحذر تقارير أممية حديثة من انهيار تدريجي للقطاع الصحي في سورية نتيجة فجوات تمويلية حادة، وتراجع الجاهزية المؤسسية، وتهميش المناطق الريفية، في ظل غياب السلطة المركزية بعد سقوط نظام الأسد، تبرز الحاجة إلى إعادة تعريف الشرعية الصحية على أسس تشاركية، عادلة، ومستدامة.
تستعرض هذه الورقة التحديات البنيوية التي تواجه النظام الصحي السوري، وتقترح إطارًا إصلاحيًا مستندًا إلى تجارب دولية في إعادة بناء الأنظمة الصحية بعد الصراعات، مع توصيات قابلة للتطبيق في السياق السوري.
خلفية الأزمة الصحية في سورية:
منذ عام 2011، تعرض القطاع الصحي السوري لتدمير ممنهج، شمل البنية التحتية، الكوادر، وسلاسل الإمداد. ومع انهيار النظام في ديسمبر 2024، تفاقمت الأزمة نتيجة غياب التنسيق المركزي، وتراجع التمويل الدولي، وتعدد الجهات المسيطرة على الأرض. تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) في يوليو 2025 وصف الجاهزية الصحية بأنها "ضعيفة"، محذرًا من انهيار تدريجي محتمل.
هذا، والتمويل الصحي في سورية يعاني من ثلاث فجوات رئيسية:
- فجوة الاستدامة: الاعتماد المفرط على المساعدات الدولية دون وجود آلية وطنية للتمويل.
- فجوة العدالة الجغرافية: تهميش المناطق الريفية والجنوبية في توزيع الموارد.
- فجوة التنسيق: غياب جهة مركزية تنظم العلاقة بين الجهات المحلية والدولية.
هذه الفجوات لا تعكس فقط أزمة مالية، بل تشير إلى غياب نموذج شرعي لإدارة الصحة العامة، ما يهدد العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن.
الصحة كمدخل لإعادة بناء الشرعية في مرحلة ما بعد الصراع:
في الأدبيات السياسية، تُعتبر الصحة من "السلع السياسية" التي تعزز شرعية الدولة حين تُدار بكفاءة وعدالة. في السياق السوري، يمكن للصحة أن تكون:
- أداة للمصالحة المجتمعية: عبر تقديم خدمات متساوية لجميع المناطق.
- منصة لبناء الثقة: من خلال شفافية التمويل وتوزيع الموارد.
- نموذجًا للحكم الرشيد: إذا أُديرت عبر مؤسسات مستقلة وتشاركية.
ومن النماذج الدولية القابلة للتطبيق والتي يمكن الاستفادة منها في السياق السوري رواندا بعد الإبادة الجماعية (1994) حيث أنشأت وزارة صحة مستقلة ذات صلاحيات واسعة. واعتمدت على التمويل المختلط (دولي + محلي).
وركزت على الرعاية المجتمعية والصحة النفسية كمدخل للمصالحة.
وأيضاً كوسوفو بعد الحرب (1999) حيث أنشأت صندوقًا صحيًا سياديًا بإشراف دولي. واعتمدت على اللامركزية في إدارة المنشآت الصحية، ودمجت الصحة في برامج العدالة الانتقالية.
تحليل السياسات الحالية في سورية:
رغم تعدد الجهات الفاعلة (مجالس محلية، منظمات دولية، فصائل حكومة انتقالية)، إلا أن السياسات الصحية تعاني من:
- غياب المعايير الموحدة في التوظيف والتوزيع.
- ضعف الرقابة المؤسسية على التمويل والمشتريات.
- تسييس الخدمات الصحية في بعض المناطق.
هذا الوضع يخلق بيئة طاردة للكوادر، ويُضعف الثقة المجتمعية في المؤسسات الصحية.
وعليه، فإننا في المكتب العلمي لـ تيار المستقبل السوري نقترح إطارًا ثلاثي الأبعاد لإعادة تعريف الشرعية الصحية:
- الشرعية الإجرائية، وذلك عبر اعتماد معايير واضحة في التوظيف، التوزيع، والمساءلة.
- الشرعية المجتمعية، وذلك من خلال إشراك المجتمعات المحلية في تحديد الأولويات الصحية.
- الشرعية المؤسسية، عبر إنشاء هيئة مستقلة لإدارة التمويل الصحي، تُشرف عليها جهات محلية ودولية.
خاتمة:
من خلال المقترح السابق فإننا نوصي على المستوى المحلي:
- إنشاء مجالس صحية محلية منتخبة.
- اعتماد نظام شفاف لتوزيع الموارد بناءً على مؤشرات الاحتياج.
- إطلاق برامج تدريبية للكفاءات الصحية في المناطق المحررة.
وعلى المستوى الوطني:
- تأسيس هيئة وطنية مستقلة للتمويل الصحي.
- إصدار إعلان صحي انتقالي يُنظم العلاقة بين الجهات الفاعلة.
- دمج الصحة النفسية في برامج إعادة الإعمار.
وعلى المستوى الدولي:
- إعادة هيكلة الدعم الدولي ليكون مشروطًا بالشفافية والعدالة.
- دعم مبادرات الحوكمة الصحية المحلية.
- الاستثمار في الرعاية المجتمعية كمدخل للمصالحة.
إن انهيار القطاع الصحي في سورية يعبر عن أزمة شرعية مؤسسية.
ففي مرحلة ما بعد الأسد، تبرز الصحة كأحد أهم القطاعات القادرة على إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، إذا أُديرت بكفاءة، شفافية، وعدالة.
وهذه الورقة تقترح نموذجًا إصلاحيًا مستندًا إلى تجارب دولية، وقابلًا للتطبيق في السياق السوري، بشرط توفر الإرادة السياسية والتنسيق المؤسسي.