الشرعية الإدارية في سورية، من تفكيك الولاء الحزبي إلى تأسيس الكفاءة المؤسسية

مقدمة:

شهدت سورية في ديسمبر 2024 تحولاً جذرياً في بنيتها السياسية والإدارية، مع انهيار نظام بشار الأسد وهروبه من دمشق، وما تبعه من إعادة تشكيل السلطة على يد فصائل المعارضة المسلحة.
هذا الحدث التاريخي مثّل لحظة تأسيسية لإعادة تعريف مفهوم الشرعية الإدارية في الدولة السورية، بعد عقود من احتكار حزب البعث للقرار الإداري والتربوي، وتغليب الولاء السياسي على الكفاءة المهنية.
في هذا السياق، تبرز خطوة مديرية التربية في محافظة القنيطرة فتحَ باب الترشح لإدارة المدارس خارج إطار البعث، يوم الأحد 2025/08/03م، كإشارة رمزية وتحول مؤسسي نحو نموذج جديد من الشرعية، يستند إلى الكفاءة والشفافية، لا إلى الانتماء الحزبي.

هذه الورقة تسعى إلى تحليل هذا التحول من منظور سياسي وإداري، وربطه بإعادة بناء مؤسسات الدولة في مرحلة ما بعد الصراع، مع الاستفادة من تجارب دولية مماثلة مثل رواندا وكوسوفو.

انهيار منظومة الولاء الحزبي في سورية:

منذ سبعينيات القرن الماضي، شكّل حزب البعث العمود الفقري للشرعية الإدارية في سورية، حيث كانت التعيينات في المؤسسات التربوية والإدارية تخضع لاعتبارات الولاء السياسي، لا للكفاءة المهنية.
وهذا النموذج أدى إلى تهميش الكفاءات المستقلة، وإنتاج جهاز بيروقراطي هش، يفتقر إلى الفعالية والمساءلة.
ومع سقوط النظام في ديسمبر 2024، انهارت هذه المنظومة، وبرزت الحاجة إلى إعادة بناء الشرعية الإدارية على أسس جديدة، ولم يعد الولاء الحزبي معياراً مقبولاً، بل أصبح عبئاً على عملية إعادة الإعمار المؤسسي، خاصة في القطاعات الحيوية كالتعليم والصحة والعدل.

خطوة القنيطرة كمؤشر على التحول المؤسسي:
أعلنت مديرية التربية في محافظة القنيطرة فتح باب الترشح لإدارة المدارس وفق معايير مهنية واضحة، تشمل سنوات الخدمة، الأداء التوجيهي، والسجل الإداري، وهذه الخطوة رغم محدوديتها الجغرافية، تحمل دلالات عميقة:

  • تفكيك احتكار البعث: فللمرة الأولى، يُسمح للكوادر التربوية المستقلة بالتقدم لمناصب إدارية دون الحاجة إلى توصية حزبية.
  • إعادة الاعتبار للكفاءة: فالمعايير المعلنة تركز على الأداء والخبرة، لا على الانتماء السياسي.
  • إشارات إلى نموذج إداري جديد: قد تكون هذه الخطوة نواة لتعميم نموذج إداري تشاركي في باقي المحافظات، خاصة في ظل غياب السلطة المركزية القديمة.

الشرعية الإدارية في مرحلة ما بعد الأسد:
في الأدبيات السياسية، يُميز بين نوعين من الشرعية: الشرعية الثورية، التي تستند إلى إسقاط النظام القديم، والشرعية الدستورية، التي تُبنى على قواعد قانونية ومؤسساتية مستقرة، وفي الحالة السورية، نحن أمام لحظة انتقالية تتطلب دمج النموذجين:

  • الشرعية الثورية: تمثلها القوى التي أسقطت النظام، وتطالب بإعادة بناء الدولة على أسس جديدة.
  • الشرعية المؤسسية: تتطلب بناء مؤسسات قادرة على تقديم الخدمات، وتحقيق العدالة، بعيداً عن الولاءات الفئوية.
    الخطوة التي اتخذتها مديرية التربية في القنيطرة يمكن قراءتها كجزء من هذا التحول، حيث تُعاد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع المحلي، وتُفتح المجال أمام نماذج أكثر شفافية وتشاركية.

تحديات إعادة بناء الشرعية الإدارية:
رغم أهمية هذه الخطوة، فإن إعادة بناء الشرعية الإدارية في سورية تواجه تحديات متعددة:

  1. غياب الإطار القانوني الموحد: فلا تزال سورية تفتقر إلى دستور جديد – رغم وجود إعلان دستوري- يُنظم العلاقة بين السلطات.
  2. تعدد القوى المسيطرة: فوجود فصائل متعددة يخلق تبايناً في نماذج الحكم المحلي، ويُصعّب توحيد المعايير الإدارية.
  3. ضعف الكوادر المؤهلة: فسنوات الحرب أدت إلى هجرة واسعة للكفاءات، مما يضعف قدرة المؤسسات على استيعاب النموذج الجديد.
  4. غياب الثقة المجتمعية: بعد عقود من الفساد والمحسوبية، يحتاج النظام الإداري الجديد إلى بناء الثقة تدريجياً.

تجربة رواندا كنموذج مقارن:
بعد الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، واجهت البلاد تحديات مشابهة في إعادة بناء مؤسساتها.
وقد نجحت في ذلك عبر:

  • تبني معايير صارمة للكفاءة في التعيينات الإدارية.
  • إطلاق برامج تدريبية واسعة لإعادة تأهيل الكوادر.
  • الاستفادة من الدعم الدولي في بناء المؤسسات.
  • دمج العدالة الانتقالية بالمصالحة الوطنية، مما أعاد الثقة في الدولة.
    ويمكن لسورية أن تستفيد من هذه التجربة، خاصة في قطاع التعليم، عبر بناء نموذج إداري يستند إلى الكفاءة، ويُدار محلياً، مع رقابة مؤسسية مستقلة.

نحو إطار تحليلي لإعادة تعريف الشرعية الإدارية:
بناءً على ما سبق، يمكن اقتراح إطار تحليلي لإعادة تعريف الشرعية الإدارية في سورية ما بعد الأسد، يقوم على ثلاثة محاور:

  1. الشرعية الإجرائية: تستند إلى معايير واضحة في التعيين، مثل المؤهلات، والخبرة، والسجل المهني.
  2. الشرعية المجتمعية: تُبنى على قبول المجتمع المحلي للقيادات الإدارية، من خلال آليات تشاركية.
  3. الشرعية المؤسسية: تتطلب وجود جهة رقابية مستقلة تُشرف على التعيينات، وتضمن الشفافية والمساءلة.
    هذا الإطار يمكن أن يُطبّق تدريجياً في القطاعات الحيوية، بدءاً من التعليم، ثم الصحة، فالعدل، وصولاً إلى الإدارة المحلية.

خاتمة:
في ضوء التحليل السابق، يقدم المكتب العلمي لـ تيار المستقبل السوري التوصيات التالية لصنّاع القرار والمجالس المحلية:

  • تعميم نموذج القنيطرة في باقي المحافظات، مع تعديل المعايير وفق السياق المحلي.
  • إصدار إعلان إداري انتقالي يُنظم التعيينات في المؤسسات العامة، ويُحدد معايير الكفاءة.
  • إطلاق برامج تدريبية لإعادة تأهيل الكوادر الإدارية، خاصة في المناطق المحررة.
  • إنشاء هيئة مستقلة للرقابة الإدارية، تُشرف على التعيينات، وتُحقق في الشكاوى.
  • الاستفادة من التجارب الدولية في بناء مؤسسات ما بعد الصراع، مع مراعاة الخصوصية السورية.

إن فتح باب الترشح لإدارة المدارس خارج إطار البعث ليس مجرد قرار إداري، بل هو لحظة تأسيسية لإعادة تعريف الشرعية الإدارية في سورية. في ظل غياب النظام القديم، وتعدد القوى المسيطرة، تبرز الحاجة إلى نموذج إداري جديد، يستند إلى الكفاءة، ويُدار بشفافية، ويُراقب بمؤسسات مستقلة. هذا النموذج لا يُعيد فقط بناء الدولة، بل يُعيد بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وهي الثقة التي فُقدت لعقود، ولا يمكن استعادتها إلا عبر مؤسسات عادلة، فعالة، ومشروعة.

المراجع:

  1. نور الخطيب، "عن الشرعية في مرحلة التحول السوري"، الجمهورية، 2025.
  2. ربى خدام الجامع، "سورية ما بعد الأسد بين إعادة تشكيل السلطة وصراع النفوذ الإقليمي"، تلفزيون سورية، 2025.
  3. "الشرع يصدر مرسوماً لتنظيم تعيين القيادات الإدارية وتعزيز الكفاءة والشفافية"، تلفزيون سورية، 2025.
  4. مركز الحوار السوري، "إعادة بناء مؤسسات الدولة بعد الصراعات: دراسة حالة رواندا"، فبراير 2025.
  5. "إشكالية بناء الدولة بعد الثورات: دراسة حالة على دولة سورية"، المركز الديمقراطي العربي، 2024.
شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع