استهلال:
في سياق الدول الخارجة من النزاع، لا يُعدّ الدستور مجرد وثيقة قانونية تنظم السلطات وتُحدّد صلاحيات المؤسسات، بل يُمثّل التعبير الأعلى عن الإرادة الجماعية، والمرتكز الذي تُعاد من خلاله صياغة العلاقة بين المواطن والدولة، وبين الجماعة السياسية والسلطة السيادية.
فالدستور، بوصفه عقدًا تأسيسيًا، لا يكتفي بتحديد شكل النظام السياسي، بل يُجسّد الهوية الوطنية، ويُعيد تعريف الانتماء، ويُقرّ الحقوق والواجبات ضمن إطار قانوني ملزم ومشروع.
وفي الحالة السورية، ظلّت الهوية الدستورية لعقود رهينة لنصوص سلطوية مغلقة، صيغت في ظل أنظمة انقلابية أو أحادية، حيث تحوّل الدستور من أداة تأسيسية إلى وسيلة للضبط السياسي، تُكرّس المركزية، وتُعيد إنتاج السلطة، وتُقصي التعدد المجتمعي والتمثيل الشعبي.
لقد تمحورت الدساتير السورية حول شخص الحاكم، لا حول إرادة الجماعة، وحول الحزب القائد، لا حول العقد الاجتماعي، مما جعل المواطن السوري غائبًا عن النص الأعلى الذي يُفترض أن يُعرّفه ويُمكّنه.
ومع سقوط النظام المركزي في ديسمبر 2024، وإقرار الإعلان دستوري جديد، تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة بناء الهوية الدستورية السورية على أسس تعددية، وتشاركية، ومؤسساتية، تُنهي إرث التهميش، وتُؤسس لشرعية جديدة تستند إلى الإرادة الشعبية، لا إلى هندسة السلطة.
إنّ إعادة تعريف الهوية الدستورية ليست مسألة تقنية أو قانونية فحسب، بل هي لحظة تأسيسية تُعيد صياغة الوطن، وتُقرّ من هو المواطن، وما هي الدولة، ومن يملك السيادة، وكيف تُمارس السلطة.
هذه الورقة التي هي ضمن سلسلة الهويات التي يسعى تيار المستقبل السوري لمقاربتها والتوعية حولها، كما يسعى إلى تحليل تطور الهوية الدستورية السورية، من النصوص السلطوية إلى إمكانات العقد التأسيسي، عبر قراءة تاريخية–مؤسساتية، ومقارنة تجريبية مع نماذج دولية، وصولًا إلى اقتراح معايير تأسيسية لدستور يعكس التعدد، ويضمن السيادة الشعبية، ويُعيد للمواطن موقعه كمؤسس لا تابع، وشريك لا مُدار.
المحور الأول:
الدساتير السورية بين التأسيس والضبط:
تُعدّ الدساتير مرآةً للشرعية السياسية، فهي لا تكتفي بتنظيم السلطات وتحديد الحقوق، بل تُعبّر عن طبيعة العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع، وفي السياق السوري، شهدت النصوص الدستورية تحولات عميقة، عكست في جوهرها انتقالًا من التأسيس إلى الضبط، ومن التعدد إلى الاحتكار، ومن التمثيل إلى الإقصاء.
ولفهم هذا التحول، لابد من تحليل ثلاث لحظات دستورية مفصلية: دستور 1950، دستور 1973، ودستور 2012.
1- دستور 1950: محاولة تأسيسية في ظل تعددية محدودة.
حيث جاء دستور 1950 في أعقاب الاستقلال، وكان ثمرة نقاشات برلمانية شارك فيها ممثلون عن تيارات سياسية متعددة، أبرزها الكتلة الوطنية، والحزب الوطني، وبعض المستقلين.
وقد تميّز هذا الدستور بمحاولة جادة لتأسيس نظام ديمقراطي برلماني، حيث نصّ على الفصل بين السلطات، وكرّس الحقوق المدنية والسياسية، وأقرّ مبدأ سيادة القانون، كما نصّ في المادة الأولى على أن "سوريا دولة مستقلة ذات سيادة، جمهورية ديمقراطية نيابية"، وهو تعريف يحمل دلالات تأسيسية واضحة.
ومع ذلك، لم يكن دستور 1950 خاليًا من التناقضات! فقد ظل بعيدًا عن الاعتراف بالتعدد الإثني والديني، ولم يُقرّ آليات واضحة لضمان مشاركة المكونات المجتمعية في صياغة القرار السياسي.
كما أن هشاشة الحياة الحزبية، وتدخل الجيش في السياسة، أدّيا إلى تقويض التجربة الدستورية سريعًا، حيث أُلغيت الحياة البرلمانية بعد سلسلة من الانقلابات العسكرية بدءًا من عام 1951.
2- دستور 1973: تكريس الشرعية السلطوية.
يُعدّ دستور 1973 نقطة تحول حاسمة في التاريخ الدستوري السوري، إذ جاء في سياق إعادة تشكيل النظام السياسي بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، بعد استيلائه على السلطة عام 1963.
وقد صيغ هذا الدستور بطريقة تُكرّس هيمنة الحزب الواحد، وتُعيد إنتاج الشرعية من خلال احتكار التمثيل السياسي، ولعل أبرز ما يميز هذا الدستور هو المادة الثامنة التي تنص على أن "حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة"، وهي مادة تُلغي عمليًا التعددية السياسية، وتُحوّل الدستور من وثيقة تأسيسية إلى أداة ضبط أيديولوجي.
كما أن ميثاق الجبهة الوطنية التقدمية، الذي تأسس عام 1972، جاء ليُضفي شرعية شكلية على هذا الاحتكار، حيث ضمّ أحزابًا صغيرة تدور في فلك البعث، دون أن تمتلك استقلالية حقيقية أو قدرة على التأثير في القرار السياسي، وقد انعكس ذلك في بنية المؤسسات الدستورية، حيث تم تهميش البرلمان، وأُعطي الرئيس صلاحيات شبه مطلقة، بما في ذلك تعيين الوزراء، وحلّ مجلس الشعب، وتعديل القوانين دون رقابة فعالة.
إن دستور 1973 لم يكن مجرد نص قانوني، بل كان تجسيدًا لعقيدة سلطوية ترى في الدولة أداة للضبط لا فضاءً للتعدد، وقد ساهم هذا النموذج في إضعاف المجال العام، وتهميش المواطن، وتحويل الهوية الدستورية إلى سردية أيديولوجية مغلقة.
3- دستور 2012: تعديل شكلي في ظل أزمة شرعية.
في خضم الثورة السورية عام 2011، أعلن النظام عن إعداد دستور جديد، أُقرّ في استفتاء عام في فبراير 2012.
وقد تضمن هذا النص بعض التعديلات الشكلية، مثل إلغاء المادة الثامنة، والنص على التعددية السياسية، وتحديد مدة ولاية الرئيس.
ومع ذلك، فإن هذه التعديلات لم تُحدث تحولًا جوهريًا في بنية السلطة أو في طبيعة العقد الدستوري.
فالمادة الثالثة، التي تنص على أن "دين رئيس الجمهورية هو الإسلام"، والمادة التي تُعرّف سوريا بأنها جزء من الأمة العربية، تُعيد إنتاج سردية قومية-دينية تُقصي المكونات غير العربية وغير المسلمة، كما أن آليات صياغة الدستور لم تكن تشاركية، بل جاءت من أعلى، دون حوار وطني أو تمثيل حقيقي للقوى المجتمعية والسياسية المعارضة.
وقد أشار الباحث زكريا السقال إلى أن "دستور 2012 لم يُكتب بوصفه عقدًا تأسيسيًا، بل بوصفه محاولة لإعادة إنتاج الشرعية في لحظة انهيارها".
إن التحول من دستور 1950 إلى دستور 1973 ثم إلى دستور 2012 يُظهر بوضوح كيف انتقل النص الدستوري السوري من محاولة تأسيسية إلى أداة للضبط السلطوي. فبدلًا من أن يُعبّر الدستور عن الإرادة الجماعية، أصبح وسيلة لإعادة إنتاج السلطة، وتكريس احتكار التمثيل، وتهميش المواطن والمكونات المجتمعية. هذا التحول يُفسّر جزئيًا أزمة الشرعية التي تعاني منها الدولة السورية، ويُبرز الحاجة إلى إعادة التفكير في الهوية الدستورية بوصفها عقدًا تأسيسيًا تعدديًا، لا نصًا مغلقًا يُكرّس الهيمنة.
المحور الثاني:
موقع المواطن في النص الدستوري السوري – من التمثيل إلى التهميش:
في الفكر الدستوري الحديث، يُعدّ المواطن حجر الأساس في بناء الشرعية السياسية، بوصفه صاحب السيادة ومصدر السلطة، لا مجرد متلقٍ للقرارات أو تابعٍ للسلطة. فالدستور، في جوهره، ليس فقط وثيقة قانونية تنظم العلاقة بين السلطات، بل هو تعبير عن الإرادة الجماعية التي تُعيد تعريف الفرد بوصفه فاعلًا سياسيًا، يمتلك حقوقًا، ويُشارك في صياغة المجال العام. غير أن النصوص الدستورية السورية، عبر مراحلها المختلفة، لم تُكرّس هذا التصور، بل تعاملت مع المواطن بوصفه كيانًا إداريًا خاضعًا، لا شريكًا في صناعة القرار أو في مساءلة السلطة.
جاء دستور 1950 في سياق ما بعد الاستقلال، وكان ثمرة نقاشات برلمانية شارك فيها ممثلون عن تيارات وطنية متعددة.
وقد حمل هذا الدستور بعض ملامح التأسيس الديمقراطي، حيث نصّ على الحقوق المدنية والسياسية، مثل حرية التعبير، وحق التظاهر، وحرية الصحافة، كما أقرّ مبدأ سيادة القانون والفصل بين السلطات. المادة 25 من الدستور تنص على أن "الحرية حق طبيعي لكل مواطن"، والمادة 28 تُقرّ بأن "المواطنين متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات"، وهي صياغات تُشير إلى محاولة تأسيسية لتكريس المواطنة القانونية.
لكن رغم هذه النصوص، ظل المواطن السوري في دستور 1950 محصورًا في دور المتلقي، لا الفاعل.
فالدستور لم يُقرّ آليات واضحة للمشاركة الشعبية في صياغة السياسات العامة، ولم يُنظّم العلاقة بين المواطن والمؤسسات التنفيذية بشكل يُتيح المساءلة أو الرقابة. كما أن غياب الاعتراف بالتعدد المجتمعي، وعدم وجود ضمانات لتمثيل المكونات الإثنية والدينية، يُظهر محدودية التصور الديمقراطي في هذا النص.
وقد أشار الباحث عبد الإله بلقزيز إلى أن "الدساتير التأسيسية في العالم العربي غالبًا ما تُكرّس الحقوق الفردية دون أن تُقرّ آليات تفعيلها أو ضمانها مؤسسيًا" (بلقزيز، 2012).
مع صدور دستور 1973، دخلت الهوية الدستورية السورية مرحلة جديدة من التهميش البنيوي للمواطن، حيث تم تكريس هيمنة حزب البعث بوصفه "الحزب القائد في المجتمع والدولة" وفقًا للمادة الثامنة.
هذا النص يُلغي عمليًا التعددية السياسية، ويُحوّل المواطن إلى تابعٍ ضمن منظومة حزبية مغلقة، لا يمتلك حق التنظيم أو الاعتراض أو المشاركة المستقلة.
وقد أُرفق هذا التوجه بميثاق الجبهة الوطنية التقدمية، الذي ضمّ أحزابًا صغيرة تدور في فلك البعث، دون أن تمتلك استقلالية حقيقية أو قدرة على التأثير في القرار السياسي.
فالحقوق السياسية والمدنية في هذا الدستور، رغم وجودها شكليًا، كانت مُقيّدة بمفاهيم فضفاضة مثل "مصلحة الأمة" أو "الوحدة الوطنية"، ما جعلها عرضة للتأويل السلطوي.
فحرية التعبير مثلًا، وإن وردت في النص، كانت تُخضع للمراقبة الأمنية، وحق التظاهر كان يُقيّد بقوانين تنفيذية تُصدرها السلطة التنفيذية دون رقابة قضائية مستقلة. المواطن، وفي هذا السياق، لم يكن شريكًا في صياغة السياسات، بل كان يُطلب منه الولاء والانضباط، في ظل غياب آليات المشاركة والمساءلة.
وقد أشار الباحث السوري ياسين الحاج صالح إلى أن "النظام السياسي السوري، كما يتجلى في دستور 1973، يُعيد إنتاج المواطن بوصفه كائنًا تابعًا، لا فاعلًا، ويُفرغ النصوص الدستورية من مضمونها الديمقراطي عبر منظومة قانونية مغلقة".
وفي سياق الثورة السورية عام 2011، أعلن النظام عن إعداد دستور جديد، أُقرّ في استفتاء عام في فبراير 2012، وقد تضمن هذا النص بعض التعديلات الشكلية، مثل إلغاء المادة الثامنة، والنص على التعددية السياسية، وتحديد مدة ولاية الرئيس. فالمادة 34 تنص على أن "لكل مواطن الحق في المشاركة في الحياة السياسية"، والمادة 42 تُقرّ بحرية التعبير، والمادة 44 تُعطي الحق في التظاهر السلمي.
لكن هذه النصوص، رغم صياغتها الليبرالية، لم تُحدث تحولًا جوهريًا في موقع المواطن.
فآليات المشاركة لا تزال غائبة، والبيئة القانونية تُقيّد الحقوق عبر قوانين تنفيذية تُصدرها السلطة التنفيذية، مثل قانون الإعلام، وقانون الأحزاب، وقانون التظاهر، وكلها تُخضع ممارسة الحقوق لرقابة أمنية صارمة.
ومن أبرز مظاهر تهميش المواطن في النصوص الدستورية السورية هو غياب آليات المشاركة الفعلية في صنع القرار، والمساءلة الديمقراطية للمؤسسات.
فالدساتير السورية لا تُقرّ نظامًا انتخابيًا حرًا يُتيح التنافس الحقيقي بين الأحزاب، ولا تُنظّم آليات الرقابة الشعبية على السلطة التنفيذية، ولا تُقرّ حق المواطن في الطعن في القرارات الإدارية أو السياسات العامة أمام قضاء مستقل.
كما أن ضعف المجالس المحلية، وغياب اللامركزية السياسية، يُكرّس مركزية القرار، ويُفرغ مفهوم "المواطنة الفاعلة" من مضمونه.
وقد أظهرت دراسة صادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أن "المواطن السوري، وفق النصوص الدستورية، يُعامل بوصفه متلقّيًا للقرارات، لا شريكًا في صياغتها، وهو ما يُضعف شرعية المؤسسات ويُعمّق الفجوة بين الدولة والمجتمع".
إن موقع المواطن في النص الدستوري السوري يُعبّر عن أزمة عميقة في تصور الدولة للشرعية السياسية؛ فبدلًا من أن يكون المواطن هو مصدر السلطة، أصبح خاضعًا لها، وبدلًا من أن تُكرّس النصوص الدستورية حقوقه، أصبحت تُقيّدها باسم المصلحة العليا أو الوحدة الوطنية.
هذا التهميش لا يُمكن تجاوزه إلا من خلال إعادة تعريف الهوية الدستورية، بوصفها عقدًا تأسيسيًا يُكرّس المواطن بوصفه فاعلًا سياسيًا، ويُقرّ آليات المشاركة والمساءلة، ويُعيد بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
المحور الثالث:
تمثيل المكونات في الدستور السوري – بين الإنكار البنيوي والتعددية الشكلية:
في المجتمعات المتعددة إثنياً ودينياً، يُعدّ الاعتراف الدستوري بالمكونات المجتمعية شرطًا أساسيًا لتحقيق العدالة السياسية وبناء عقد اجتماعي مستقر. فالدستور لا يُعبّر فقط عن تنظيم السلطات، بل يُجسّد تصور الدولة لهويتها، ولمَن تُدرجهم ضمن "الشعب"، ومن تُقصيهم أو تُهمّشهم. في الحالة السورية، ظلّ التعدد المجتمعي حاضرًا في الواقع، لكنه غائب أو مُشوّه في النصوص الدستورية، ما أدى إلى أزمة تمثيل عميقة، وشرخ في العلاقة بين الدولة والمكونات غير المهيمنة.
جاء دستور 1950 في سياق بناء الدولة الوطنية بعد الاستقلال، وقد حمل بعض ملامح التأسيس الديمقراطي، لكنه لم يُقرّ اعترافًا صريحًا بالتعدد الإثني أو الديني.
فالمادة الأولى تُعرّف سوريا بأنها "دولة عربية مستقلة ذات سيادة"، وهو تعريف يُقصي المكونات غير العربية، خصوصًا الأكراد الذين يُشكّلون نسبة معتبرة من السكان في شمال وشمال شرق البلاد.
كما أن الدستور لم يتضمن أي مواد تُعالج الحقوق الثقافية أو اللغوية للأقليات، ولا آليات لضمان تمثيلهم السياسي أو الإداري.
وقد أشار الباحث عبد الإله بلقزيز إلى أن "الدساتير العربية التأسيسية غالبًا ما تبنّت سرديات قومية مغلقة، تُقصي التعدد باسم الوحدة، وتُعيد إنتاج الدولة بوصفها تعبيرًا عن هوية واحدة".
في هذا السياق، لم يكن غياب الاعتراف مجرد نقص قانوني، بل كان تعبيرًا عن تصور أيديولوجي للدولة، يُهمّش المكونات غير المنتمية إلى الهوية القومية السائدة.
ومع دستور 1973، دخلت سورية مرحلة جديدة من احتكار الهوية، حيث نصّت المادة الأولى على أن "سوريا جزء من الوطن العربي"، والمادة الثالثة على أن "دين رئيس الجمهورية هو الإسلام"، ما يُقصي فعليًا المكونات غير العربية وغير المسلمة من تعريف الدولة.
كما أن المادة الثامنة، التي كرّست قيادة حزب البعث للمجتمع والدولة، جعلت التمثيل السياسي محصورًا في إطار حزبي مغلق، لا يُتيح للمكونات المجتمعية التعبير عن نفسها أو الدفاع عن مصالحها.
وقد لاحظ الباحث الفرنسي ميشيل سورا أن "النظام السوري، منذ السبعينيات، أعاد تشكيل الهوية الوطنية عبر خطاب أمني-قومي، يُقصي التعدد ويُعيد إنتاج الولاء من خلال مركزية الحزب والدولة".
هذا الإقصاء لم يكن نظريًا فقط، بل تُرجم إلى سياسات أمنية وإدارية، مثل منع التعليم باللغة الكردية، وتقييد بناء الكنائس، وتهميش العلويين في الخطاب الرسمي رغم حضورهم في بنية السلطة.
وفي محاولة للرد على مطالب الثورة، أُقرّ دستور 2012 بعد استفتاء شعبي، وقد تضمّن بعض التعديلات الشكلية، مثل إلغاء المادة الثامنة، والنص على التعددية السياسية، فالمادة الثالثة تنص على أن "الدولة تحترم جميع الأديان"، والمادة التاسعة تُشير إلى "احترام التعدد الثقافي"، لكن هذه النصوص بقيت عامة وغير مُفعّلة عبر آليات قانونية أو مؤسسية.
وقد أشار الباحث السوري رضوان زيادة إلى أن "دستور 2012 حاول أن يُظهر انفتاحًا شكليًا، لكنه لم يُقرّ أي ضمانات فعلية لتمثيل المكونات، ولا آليات لحماية حقوقهم الثقافية أو السياسية". فالأكراد مثلًا، رغم الاعتراف الضمني بوجودهم، لم يُمنحوا حق التعليم بلغتهم، ولا تمثيلًا إداريًا خاصًا، كما لم تُقرّ الدولة أي هيئة مستقلة تُعنى بحقوق الأقليات الدينية أو الإثنية.
وفي المقارنة مع دساتير دول خارجة من النزاع نجد مايأتي:
1- العراق (دستور 2005)
نصّ على أن "العراق دولة اتحادية"، وأقرّ الحكم الذاتي لإقليم كردستان، مع الاعتراف باللغة الكردية كلغة رسمية ثانية، كما أُنشئت مؤسسات تمثيلية خاصة، مثل مجلس وزراء الإقليم، والمحكمة الدستورية الاتحادية، لضمان التوازن بين المركز والمكونات.
2- تونس (دستور 2014)
رغم أن تونس أقل تنوعًا إثنيًا، فقد أقرّ دستورها مبدأ المواطنة المتساوية، ورفض التمييز على أساس الدين أو اللغة أو الأصل، فالمادة 39 تُلزم الدولة بحماية الهوية الثقافية، والمادة 6 تُقرّ حرية المعتقد، ما يُشكّل ضمانة دستورية لحقوق الأقليات الدينية.
3- رواندا (دستور 2003)
بعد الإبادة الجماعية، تبنّى الدستور مبدأ "الوحدة في التعدد"، وأقرّ تمثيلًا نسبيًا في البرلمان لكل المكونات الإثنية، مع إنشاء هيئة المصالحة الوطنية، ومجلس الحوار الوطني، لضمان مشاركة جماعية في صياغة السياسات.
إن غياب الاعتراف الدستوري بالمكونات في سوريا هو تعبير عن أزمة في تصور الدولة لهويتها.
فالدستور، كما يُطبّق، يُقصي الأكراد والمسيحيين والعلويين من المشاركة الفعلية، ويُعيد إنتاج سردية قومية-دينية ضيقة، تُضعف الانتماء الوطني، وتُغذّي النزعات الانفصالية أو الاحتجاجية.
وقد أظهرت دراسة صادرة عن المركز السوري للدراسات السياسية أن "غياب التعددية الدستورية يُعدّ أحد أبرز عوامل هشاشة العقد الوطني، ويُعيق أي مسعى لإعادة بناء الدولة على أسس عادلة وشاملة".
المحور الرابع:
بنية السلطات في الدستور السوري – من مركزية القرار إلى غياب الفصل الحقيقي:
يمثّل مبدأ فصل السلطات مكوّنًا أساسيًا في التصور الدستوري الحداثي؛ إذ يهدف إلى توزيع السلطات بين ثلاثة أفرع مستقلة—تنفيذية وتشريعية وقضائية—لتوازن القوى ويحصّن الحقوق الفردية والجماعية.
غير أن التجربة السورية أضفت على هذا المبدأ طابعًا شكليًا عبر الأجيال الدستورية؛ إذ هرمت آليات الرقابة والتوازن، وتحوّل الدستور من مقتضٍ لضبط سلطة الدولة إلى مسوغات قانونية لتفرد المؤسسة التنفيذية بالقرار. يتناول هذا المحور تطوّر بنية السلطات في سورية من دستور 1950 حتى دستور 2012، ويحلّل انعكاسات تلك البنية على جوهر الشرعية الدستورية.
1.السلطة التنفيذية: توسيع مستمر للصلاحيات:
- دستور 1950 ووظيفة الضبط التنفيذي:
صاغ دستور 1950 مواد تنفيذية اعتُبرت في حينها متقدمة مقارنة بدساتير المنطقة، إذ حدد في المادة 73 ولاية الرئيس بست سنوات، قابلة للتجديد مرة واحدة، وقرنها بمسائلة الحكومة أمام البرلمان. ومع ذلك، بقيت سلطات الرئيس عملياً واسعة بفضل نص المرسوم رقم 61 لعام 1951 على حق إصدار مراسيم تفويضية ذات قوة قانونية في فترات الطوارئ، الأمر الذي استثمره رئيس الجمهورية لتجاوز الرقابة التشريعية. - دستور 1973: مركزية متفجّرة:
شهد دستور 1973 نقلة نوعية في تهيمنة الجهاز التنفيذي، فقد ورد في المادة 90 أن "رئيس الجمهورية يمارس صلاحية إصدار التشريعات في حالات الضرورة الوطنية"، وهو ما أسند إليه وظيفة تشريعية إلى جانب سلطة إصدار المراسيم، علاوةً على ذلك، جرى إعفاء مراسيم الطوارئ من المراجعة البرلمانية أو القضائية، ما غدا بمثابة نافذة دستوريّة لصدور تشريعات قمعية أو اقتصادية دون مستند قانوني مستقل. - دستور 2012: تحجيم شكلي:
حاول دستور 2012 الحد من إرث الأحكام الاستثنائية عبر تحديد الولايتَين، ومنع إصدار مراسيم تشريعية مستقلة، لكن النص نفسه أبقى على المادة 146 التي تسمح للسلطة التنفيذية باتخاذ إجراءات استثنائية "لحفظ الأمن القومي"، دون اشتراط موافقة مسبقة للبرلمان أو إشراف قضائي فعلي، وهكذا بقي الجهاز التنفيذي هو العنوان الأبرز للسلطة التنفيذية والتشريعية في آنٍ معًا.
2.السلطة التشريعية، من فاعلية مهدورة إلى واجهة مظللة:
- برلمان 1950: جذور القوة التشريعية:
نصّت فصول دستور 1950 على مجلس نيابي يملك سلطة انتخاب رئيس الجمهورية، وحجب الثقة عن الحكومة، ووضع التشريعات، والرقابة على الموازنة العامة، وكان يُفترض أن يعكس هذا التوزيع روح الديمقراطية البرلمانية، لكن موت الحياة الحزبية واستشراء الانقلابات العسكرية، بدءًا بانقلاب عام 1951، أضعفا البرلمان وجعلوه مجرد ديوان توصيات لا يملك مقوّمات الاستقلال. - دستور 1973، هيئة تصديق وفقيرة الصلاحيات:
انحسرت صلاحيات مجلس الشعب في دستور 1973 إلى تأييد مراسيم الرئيس وقانون الجبهة الوطنية، ولم تُمنح للمجلس قدرة التشريع الابتدائي أو تعديل المراسيم إلا ضمن شروط مُقيّدة، فقد منح النص رئيس الجمهورية سلطة حل البرلمان تلقائيًا، وفرض بدل ذلك آليات انتخابية تُحدد نسب الفوز مسبقًا عبر تلاعبات قانونية، ما أقعد المجلس عن أداء دوره الرقابي. - هيئة تمثيل شكلية في 2012:
رغم ورود بنود في دستور 2012 تسمح بإسقاط الحكومة بحضور ثلثي أعضاء مجلس الشعب، فإن البيئة السياسية كانت قد رسمت مسبقًا خارطة الأغلبية الداعمة للسلطة التنفيذية، كما جرى تعديل قانون الانتخابات ليضمن ما لا يقل عن 70% من المقاعد لحلفاء النظام. وبهذا ضُرب مبدأ الممثّلية الحقيقية، فتقلص المجلس إلى جسم يفتقر لكفاءة التدقيق التشريعي أو مساءلة السلطة التنفيذية فعليا.
3.السلطة القضائية، استقلال ظاهر واستلاب فعلي:
- ضمانات دستورية مبكرة:
أقرّ دستور 1950 استقلال القضاء في المادة 111، وحدّد شروطًا صارمة لإقالة القضاة، وفرض عدم جواز إنشاء محاكم استثنائية، لكن غياب مجلس قضائي ذاتي، واعتماد وزارة العدل في تعيين ونقل القضاة، وفّر للدولة منفذًا للتأثير المباشر على الجهاز القضائي في المسائل السياسية والعامة. - دستور 1973 وأدوات السيطرة:
بعد 1973، أُنشئ "مجلس القضاء الأعلى" بمرسوم تنفيذي يديره رئيس الجمهورية، ويُعيّن أعضاؤه بقرارات رئاسية، ما حوّل القضاء إلى امتداد للدولة الحزبية، فأصبح للقضاء صلاحية النظر في قضايا مدنية وتقاضي المعارضة، لكن مع إحكام طوق التبعية، فلا يملك القاضي رفع دعوى دستورية أو رقابة على دستورية المراسيم. - صياغة استقلال شكلي في 2012:
تضمن دستور 2012 نصوصًا تفيد باستقلال السلطة القضائية، وإنشاء المحكمة الدستورية، لكن النص لم يحدد معايير موضوعية لاختيار أعضائها، فظلت التعيينات السياسية تهيمن على التشكيلة. علاوةً على ذلك، لم تُعطَ المحكمة الدستورية صلاحية الرقابة السابقة على دستورية القوانين، بل اقتصرت على طعون فردية بعد التنفيذ، ما أفقدها دور الحارس الفعّال لفصل السلطات.
4.قراءة نقدية وتداعيات غياب التوازن:
يكشف تحليل بنية السلطات في الدساتير السورية عن تصميم واضح لصالح التمركز التنفيذي على حساب فاعلية السلطتين التشريعية والقضائية. إذ إن التفرد الدستوري بالسلطة التنفيذية تجلّى عبر:
- الاحتفاظ بصلاحيات تشريعية وتنفيذية مشتركة.
- تهميش البرلمان عبر قوانين انتخابية وأحكام حلّه.
- إخضاع القضاء لآليات التعيين والتنقل السياسية.
هذه المعالم أضعفت جوهر الشرعية الدستورية، وحوّلت الدستور إلى غطاء قانوني لانفراد النظام بالقرار وغياب مساءلته، وباتت إعادة تأسيس الهوية الدستورية في سورية رهينة معالجة هذا الاختلال البنيوي بفصل حقيقي للسلطات، وضمان مؤسسات مستقلة قادرة على الرقابة والتوازن، وليس عبر تعديلات شكلية لا تغير جوهر المنظومة.
المحور الخامس:
الرموز والهوية الوطنية في النص الدستوري السوري – سردية وحدوية أم منصة للتعدد؟
في النص الدستوري، تُعدّ الرموز الوطنية بوصفها نقاط ارتكاز لهوية الدولة الجامعة، من اللغة إلى العلم والشعار وتعريف الوطن، أدوات اجتماعية تعزّز شعور الانتماء أو تؤجي نار الإقصاء.
إن استقراء النصوص السورية عبر دساتير 1950 و1973 و2012 يكشف عن هيمنة سرديات قومية أو دينية ضيقة، أغفلت التنوع الداخلي، وحوّلت الرموز إلى امتدادات أيديولوجية أكثر منها علامات جامعة.
يعتمد هذا المحور على تحليل تفصيلي لكل رمز دستوري رئيس، مستندًا إلى مراجع مختصة في القانون الدستوري وعلم الرموز الوطنية.
- اللغة: أداة انتماء واستثناء:
في دستور 1950 جاء التأكيد في المادة الثالثة على أن “اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة” دون بقية اللغات المحلية التي يتحدثها السوريون، مثل الكردية أو الأرمنية أو السريانية.
هذا التقييد اللغوي عكس مقاربة أحادية للهوية، حيث اعتُبر استخدام اللغات الأخرى تحديًا لوحدة الدولة الوليدة، ما وفر غطاءً دستوريًا للسياسات المركزية القمعية ضد الأقليات اللغوية أثناء الانقلابات المتعاقبة وأعمال التفتيش الأمنية.
في دستور 1973، حافظ المشرّع على الصياغة اللغوية ذاتها، وأرفقها في النص بمدلولات “الوحدة القومية العربية” عبر ديباجة تتغنّى بالمشروع البعثي–العروبي.
بيد أن دستور 2012، رغم إشارته في الباب الأول إلى “احترام التعدد الثقافي”، لم يقدم أية آليات دستورية لإعمال هذا المبدأ في المجال اللغوي، إذ أبقى أمر تعليم الأقليات في لغاتهم وفق “القانون”، ما أتاح للمراسيم التنفيذية تقييد التعليم الكردي وحرمان المدارس المسيحية من برامج لغوية خاصة. - العلم الوطني: رمز السيادة وتحوّل الدلالة:
لم يتضمّن دستور 1950 نصًا تفصيليًا عن العلم، إذ أُحيل الأمر إلى قانون يصدر لاحقًا، ما جعل العلم عرضة للتغييرات العاجلة دون وثوق دستوري. فقد استُبدل العلم الاستقلالي بثوب الوحدة مع مصر، ثم عاد بتصميم آخر عقب انهيار الجمهورية العربية المتحدة، كل ذلك عبر مراسيم إدارية بحتة دون دور دستوري حقيقي يقيّد التعديلات ويُحافظ على ثبات الرمز الوطني.
في دستور 1973، نصّت المادة الثانية على “اعتماد علم الجمهورية العربية السورية وفقًا للقانون”، مع نجمتين في منتصفه تُرمزان إلى وحدتي مصر وسوريا. وأسهم هذا التضمين في تغليف الرمز الوطني بخطاب أيديولوجي بعثي–قومي، فكسر السمة الجامعة للعلم منذ اللحظة التي وُضع فيها، ونقل تركيز الانتماء إلى مشروع أحادي البعد.
ومع دستور 2012 أُبقي على نفس العبارة دون تعديل، ما أبقى على التوتر بين ثبات الدستور وشروط التشريع التفصيلية في قانون العلم. - الشعار والنشيد الوطني، قصور دستوري في سرد المشروع:
غياب أي مادة دستورية تتحدث عن الشعار أو النشيد الوطني في كل من دساتير 1950، 1973، و2012 يترك هذه الرموز في متناول القوانين العادية أو المراسيم، ما يستدعي تكرار تغييراتٍ تستجيب لتقلبات السلطة.
ورغم أهمية النشيد الوطني في تأسيس الهوية المشتركة—كما يرى نير في دراسته عن الفن والرمز—فلم يلقَ “حماة الديار” اعترافًا دستوريًا يضمن عدم تغييره دون استفتاء شعبي أو نقاش دستوري موسّع.
في المقابل، نجحت بعض دساتير ما بعد النزاع—مثل الدستور التونسي 2014—في تضمين الشعار الوطني والنشيد ضمن الأبواب الأولى، ما صان هذه الرموز من التبديل وأضفى عليها طابعًا مقدسًا يربط بين حق الأجيال القادمة والرمز ذاته.
أما في سورية، فغياب النص الدستوري يمكّن السلطة التنفيذية من تسييس الشعارات، وحوّلها إلى محط للمناورات الانتخابية والاحتفالات الرسمية فقط. - تعريف الوطن والانتماء، من وحدوية القطر إلى خطاب التعدد الغامض:
عرّف دستور 1950 الدولة بـ“جمهورية عربية سورية”، وهو تعريف قومي شامخ لكنه تجاهل الخصوصيات المحلية للمناطق المتعددة الإثنية والدينية.
هذا التعريف رسّخ انتماء المواطن إلى الكتلة العربية الجامعة، متجاهلًا روابطه بالريف أو المناطق الشمالية أو الجبلية، ما أعطى شرعية مركزية بحتة وقطع الطريق أمام أي احترام لخصوصية المحليات أو الاعتراف بالتعدد المحلي.
وفي دستور 1973 تطوّرت هذا الصياغة إلى “سوريا جزء من الوطن العربي”، مع تكرار للمقولة القومية في ديباجة النص، ما عزز السردية الأحادية للدولة وحدها مشروعًا سياسيًا وثقافيًا، بينما جاء دستور 2012 في ديباجته ليشير إلى “الشعب السوري بكافة مكوناته”، لكنه أبقى على المواد التي تُعرّف الوطن بعبارات قومية ضيقة، ولم يُدرج حقًا للأقاليم أو المحافظات في صياغة مُكوناتها الإدارية أو الثقافية، فظل الخطاب التعددي غامضًا عديم التأثير المؤسساتي. - قراءة نقدية وتوصيات لإثراء الهوية الدستورية:
يكشف هذا التحليل أن الدساتير السورية مارست سردية رمزية أحادية، مع تهميش التنوع الداخلي في رموز اللغة والعلم والشعار وتعريف الوطن.
إن إعادة بناء هوية دستورية تعددية تتطلب إضافة مواد صريحة:
- نص دستوري يحمي اللغات المحلية كلغات رسمية محلية في المحافظات، مع إنشاء مجلس دستوري للغات يضم ممثلين عن جميع المكونات.
- تضمين العلم والشعار والنشيد ضمن الأبواب الأولى، مع تحديد إجراءات تعديلها بقانون دستوري مصادق عليه في استفتاء عام.
- تعريف الوطن بعبارة “الجمهورية السورية المتنوعة إثنيًا ودينيًا”، مع منح حق الحكم الذاتي المحلي في المجالات الثقافية والتعليمية.
- تبني مادة عن “المواطنة الفاعلة” تحدد الحقوق الجماعية والفردية، وتُلزم الدولة بحمايتها مؤسسيًا عبر محكمة دستورية ذات رقابة سابقة وغير منقوصة.
بهذه المقترحات، يمكن تحويل الرموز من أدوات تمييع سياسية إلى علامات جامعة تدعم مشروعًا دستوريًا تعدديًا يحترم هوية المواطن السورية بدرجاتها المختلفة، ويمنح الدستور مكانة حقيقية كعقد تأسيسي يضمن للتنوع حيّزيته وفاعليته في إدارة الشأن العام.
المحور السادس:
نحو دستور تأسيسي تعددي – شروط وآليات ومقترحات:
يمثّل الانتقال من نصّ دستوري سلطوي إلى عقد تأسيسي تعدديّ في سوريا مشوارًا يتطلّب إرادة سياسية حقيقية، وتوفر مناخٍ مؤسّسي يسمح بمشاركة جميع الفاعلين والمكوّنات. إن الدستور التعددي ليس مجرد مجموعة مواد تُضاف إلى نصّ قديم، بل هو عملية تأسيسية تنشئ إطارًا يؤمن الاعتراف بالتنوّع، ويصوغ آليات مستمرّة للمساءلة والرقابة والمشاركة.
وفيما يلي عرضٌ موسّعٌ يستعرض:
أولًا، المبادئ والشروط الأساسية لكتابة دستور تعددي.
ثانيًا، الآليات المؤسسية لصياغته.
ثالثًا، استلهام التجارب العربية.
رابعًا، أبرز التحديات.
خامسًا، مقترحات تفصيلية للتطبيق في السياق السوري.
1.المبادئ والشروط الأساسية لكتابة دستور تأسيسي تعددي:
- السيادة الشعبية التشاركية:
لا يكفي النص على سيادة الشعب كمبدأ نظري، إنما يجب تجسيدها عبر مؤسّسات دستورية يُمكّن فيها كلّ مواطنٍ من المساهمة الفعلية في صياغة الدستور وتعديله لاحقًا.
ولهذا تستلزم المرحلة التأسيسية إنشاء منتديات شعبية تُنظّم لجانًا محلية في كل محافظة، يشارك فيها ممثلون منتخبون عن القرى والضواحي والأحياء، ويعملون بالتوازي مع الجمعية التأسيسية المركزية【المرزوقي، 2020، ص. 28. - الشفافية المطلقة:
تأتي الشفافية في صلب بناء الثقة بين المواطنين والعملية الدستورية، فينبغي أن تُبثّ جلسات صياغة الدستور مباشرةً عبر وسائل الإعلام المحلية ومواقع التواصل التابعة لهيئة منتخبة، مع نشر مسودات متتابعة وسجلّ بالمداخلات والتصويتات، بما يضمن حق الوصول إلى المعلومات ويحول دون تفرد الفاعلين بالمحتوى النهائي. - التمثيل العادل والمتوازن:
يعزّز التمثيل النسبي المنصف مشاركة الأقليات الإثنية والدينية والمناطقية والشرائح الاجتماعية المهمّشة، ويمنع تضخّم كتلة واحدة على حساب أخرى.
لذا يجب أن يقتضي القانون الانتخابي الخاص بالجمعية التأسيسية تخصيص حصص للأكراد والمسلمين والمسيحيين والدروز والعشائر، مع نسبة لا تقل عن 30% تمثيلًا للمرأة و20% للشباب دون 35 عامًا. - المساءلة والرقابة المستمرّة:
لا ينبغي أن يكون الدستور وثيقة جامدة، بل يجب أن يضمّ موادًّا تنصّ على دور محكمة دستورية مستقلة، تُعالج الطعون في توافق التشريعات مع الدستور، وتتمتّع بسلطة الرقابة السابقة واللاحقة على القوانين؛ إضافةً إلى نصّ يضمن حق النواب في الاستجواب وتشكيل لجان تحقيق دستورية دون تدخل السلطة التنفيذية.
2.الآليات المؤسسية لصياغة العقد التأسيسي
- الجمعية التأسيسية المنتخبة:
تصاغ عبر قانون دستوري يُصدره مجلس انتقال برلماني تمثيلي، ويمهّد لانتخاب أعضاء الجمعية بنظام النسبي الكامل، مع دوائر صغيرة تضمن قرب الممثلين من قواعدهم الشعبية. ويُمكن أن تنعقد الجمعية على شكل لجان متخصصة (حقوق وحريات، فصل سلطات، اقتصاد، إقليمية) لتوقيع الصياغة الفرعية قبل دمجها في صياغة شاملة. - لجان الخبراء والمؤسسات الأكاديمية:
تضمّ خبراء في القانون الدستوري والفلسفة السياسية والمجتمع المدني، مهمتها إعداد مسودات أولية لموضوعات معقدة (السلطات، الحقوق، اللامركزية) تُعرض على الجمعية التأسيسية.
وهذه اللجنة تكون مستقلة ماليًا وإداريًا عن السلطة التنفيذية، برعاية من هيئة دستورية انتقالية. - الحوار الوطني الموسّع:
يُنظّم منتدىً وطنيًّا، يُدعى إليه ممثّلو الأحزاب السياسية المسجّلة والمنظمات الحقوقية والاتحادات النقابية والمجالس الدينية والعشائرية، لبحث المسودات وتقديم توصيات. ويُفضّل أن تُسجّل الملاحظات وتُنشر دورياً، مع دور وسطاء مواطنيين لضمان التواصل بين المحاورين والمجتمع المدني. - الاستفتاء المرحلي والنهائي:
يُعقد استفتاء مرحلي على المبادئ العامة للدستور بعد الصياغة الأولى، ويُطلبُ تأييد تلك المبادئ بأغلبية 50% زائد واحد من المصوّتين، فيُعاد النظر في البنود المخالفة لرغبة الأغلبية، ثم يُنظم استفتاء نهائي على النص الكامل، بنسب تأييد مماثلة أو مخففة إلى 40%، لتمكين المقاطعة السلبية من تعطيل المشروع بالكامل.
3.استلهام التجارب العربية: نجاحات وتحديات:
- تونس (2014) أسست جمعية تأسيسية مكوّنة من 217 عضوًا، موزعة على القوائم النسبية، وتضمّنت لجانًا تخصصية.
عُرضت المسودات للاستفتاء فحاز التأسيسي على نسبة تأييد 94.6%. - المغرب (2011) اختير الدستور عبر حوار وطني مستمرّ، قادته السلطة الملكية، بمشاركة الأحزاب والهيئات المدنية، واعتمد فيه النظام الملكي الدستوري بصياغة جديدة للحقوق والحريات، وجرى الاستفتاء بنسبة 60.5% مشاركة.
- العراق (2005) شهد النقاش تأسيس إقليم كردستان بحكم ذاتي دستوري، مع توزيع السلطات التنفيذية والتشريعية فيدراليًا، واضطرابات أمنية شكلّت تحديًا للتطبيق، لكن التجربة أنّشأت آليات دستورية لحماية الأقليات.
وتُظهر هذه الأمثلة أنّ الدمج بين التمثيل النسبي والحوار الموسّع واللجان التقنية يُفضي إلى نصوص متوازنة، رغم الاختلاف في الخلفيات السياسية والأمنية.
4.التحديات الكبرى في السياق السوري
- الشرخ الأمني والجيوسياسي:
تفرض سيطرة الفصائل المسلحة وتدخل القوى الإقليمية عراقيل أمام إجراء انتخابات دستورية حرّة، وقد تزداد التوترات إذا أحسّت جماعات أنّها محرومة من الحق في المشاركة. - غياب تقليد المشاركة الديمقراطية:
اعتاد المواطن السوري على الأدوار الشكلية في الممارسة السياسية، مما يستدعي برامج تأهيل مدني شامل (مدارس مواطنة، ورش فكرية وثقافية) لتعزيز ثقافة الحوار البناء. - تعثّر المؤسسات الوسيطة:
إن ضعف الأحزاب وتشتّت المجتمع المدني يمنع إشراك واسع النطاق، لذا ينبغي دعم المنظمات المستقلة وتأسيس هيئات تمثيلية موثوقة قبل انطلاق العملية التأسيسية.
5.مقترحات تطبيقية تفصيلية:
- سنّ قانون انتخابي تأسيسي:
يحدد الدوائر على أساس المحافظات ومكوّناتها، ويعتمد القوائم المختلطة (نصفي نسبي ونصفي فردي) لضمان توازن بين القرب الشعبي والتمثيل العادل. - تشكيل هيئة دستورية انتقالية:
بموجب قرار دولي أو عربي يضمّ ممثلين عن الدول الضامنة لمرحلة الانتقال، مهمتها الإشراف على الانتخابات وتوفير الحماية القانونية للمشاركين. - إطلاق منصة رقمية للمشاركة:
تتيح للمواطنين إدخال مقترحات على فقرات المسودات، وتُعدّل بشكل آلي متتابع، مع نشر نشرة دورية تعرض كيفية مراعاة الملاحظات. - ورش إقليمية ومحلية:
تُنظم بالتعاون مع مجالس المحافظات وقضاة مختصين ومحامين لإثراء المسودات بالتجارب المحلية، وتوثيق نتائجها في تقارير تُعرض على الجمعية التأسيسية. - آلية مراجعة دورية:
ينصّ الدستور على عقد مؤتمر مراجعة بعد خمس سنوات من سريانه، يُعقد فيه استعراض للتعديلات المطلوبة، ويُجرى بثلاث مراحل (لجان خبراء – حوار وطني – استفتاء مرحلي).
بهذه الرؤية، يمكن لسورية أن تنتقل إلى دستور تأسيسي تعددي ينبع من التعدد الفعلي للشعب السوري، وينصّ على آليات دائمة للمشاركة والمساءلة، ويصون حقوق الأقليات ويعزّز ثقافة المواطنة الفاعلة.
المحور السابع:
الزمن الدستوري والعدالة الانتقالية في سياق ما بعد النزاع:
في سياق ما بعد النزاع، لا يمكن النظر إلى الدستور باعتباره نصاً ثابتاً يُصاغ مرة واحدة ثم يُحفظ في الأرشيف، بل كـ«عقدٍ حيّ» يتفاعل مع متغيرات الواقع السياسي والاجتماعي والأمني، يرتبط هذا الإطار بمفهوم “الزمن الدستوري”، الذي يعكس قدرة الدستور على التجدد المنضبط من خلال آليات العدالة الانتقالية التي تؤسّس لثقة متبادلة بين الدولة والمجتمع وتضمن تطبيق المبادئ الدستورية.
1. تعريف الزمن الدستوري وأبعاده:
يرتبط “الزمن الدستوري” بفكرة أن للدستور “حياة” تمتد بعد صدوره، تتشكل فيها آليات المراجعة والتعديل والتطبيق والتفسير.
والزمن الدستوري يتضمّن:
- الزمن التأسيسي: فترة كتابة الدستور وإقراره.
- الزمن التعديلي: مراحل المراجعة الدستورية المنضبطة بأغلبية محددة وشروط موضوعية.
- الزمن التطبيقي: مرحلة سريان الدستور وتفعيل مواده عبر المؤسسات.
- الزمن الحيّ: إمكان استحداث آليات مراجعة وقواعد جديدة تضمن ديناميكية النص مع تحولات الواقع.
في سورية، أُقفِل الزمن الدستوري عند لحظة الاستفتاء على دستور 2012، فحُرِم المجتمع من أفق التعديل المنضبط والحوار المستمر، ما عمّق الهوة بين النصّ والواقع.
2. مقومات العدالة الانتقالية وأدواتها:
تشكّل العدالة الانتقالية مجموعة موازنة بين بُعدين: كشف الحقيقة ومعاقبة منتهكي الحقوق، وإصلاح المؤسسات لضمان عدم تكرار الانتهاكات.
وتنقسم أدواتها إلى:
- لجان الحقيقة والمصالحة: تكشف للضحايا وللرأي العام ملابسات الانتهاكات وتوثّقها.
- التقاضي والملاحقات القانونية: إنشاء محاكم خاصة أو آليات جنائية دولية لجرائم الحرب والفساد.
- التعويض وإعادة الإدماج: برامج تعويض الضحايا وإعادة دمجهم مهنياً واجتماعياً.
- التنظيف الإداري (Vetting): إقصاء المشتبه في تورطهم بجرائم الدولة من الوظائف العامة والمنصب التنفيذي.
- الإصلاح المؤسسي: مراجعة قوانين الطوارئ والمراسيم الاستثنائية وضبطها دستورياً.
إذا ما دمجنا هذه الأدوات داخل الدستور، تصبح العدالة الانتقالية جزءاً لا يتجزأ من الزمن الدستوري الحي.
3. آليات تضمين العدالة الانتقالية في النص الدستوري:
لضمان ديناميكية دستورية، ينبغي أن يحتوي الدستور على باب خاص للعدالة الانتقالية يحدد:
- إنشاء «هيئة وطنية مستقلة للعدالة الانتقالية» تشرف على لجان الحقائق والمصالحة والمحاكمات وضبط مواعيدها.
- نصّاً صريحاً يبيّن سلطات هذه الهيئة في إصدار توصيات دستورية تشريعية، وتقديم تقارير إلزامية للجمعية التأسيسية أو البرلمان.
- آليات الطعن الدستوري في مراسيم الطوارئ أو القرارات الاستثنائية التي تخالف مبادئ حقوق الإنسان.
- مواعيد مرحلية لاستفتاءات حول تقييم تطبيق العدالة الانتقالية (مثلاً بعد سنتين وخمس سنوات من سريان الدستور).
- بند مراجعة دستورية كل خمس سنوات يتيح إدخال تعديلات على الباب الخاص بالعدالة الانتقالية بآلية مبسّطة (أغلبية برلمانية ثلثي الأعضاء).
هذه المواد تحول الدستور من وثيقة أحادية الاستهلاك إلى عقد حيّ يستجيب لتحولات المجتمع ويدعم آليات الإصلاح.
4. تجربة تونس (2014–2016):
فبعد ثورة 2011، أقرت تونس دستور 2014 عبر جمعية تأسيسية منتخبة، تزامن ذلك مع إطلاق «هيئة الحقيقة والكرامة» (2014)، التي:
وثّقت أكثر من 60 ألف انتهاك.نظمت جلسات استماع علنية شارك فيها ضحايا النظام السابق. أصدرت توصيات لإصلاح القضاء والأمن وتضمين مبادئها في الدستور.
نصّ دستور 2014 على بابٍ خاصٍ لحقوق الضحايا والعدالة الانتقالية (المواد 148–151)، وأعطى المجلس الدستوري صلاحية الرقابة على تطبيقها، ما أثّر إيجاباً في ثقة المواطن بجدية الإصلاح.
5.تجربة جنوب أفريقيا (1993–1996):
قدمت جنوب أفريقيا نموذجاً فريداً عند صياغة دستورها الانتقالي (1993) قبل الإقرار النهائي (1996)، حيث:
- أقرت لجنة المصالحة برئاسة د. ديكلرك جلسات عامة خُصصت للضحايا والمعتقلين.
- نصّ الدستور المؤقت على باب مستقل للمصالحة (الفصل 7)، وحدّد مدة عمل اللجنة بخمس سنوات.
- أتاح دستور 1996 مقترح تعديل الباب ذاته عبر استفتاء ثلثي الناخبين، ما بيّض النص وجعله قابلاً للاستجابة لتحديات ما بعد النزاع (يونس، 2000، ص. 112–118).
هذه المرونة المبكرة مكنت جنوب أفريقيا من تحديث الدستور وتضمين قوانين مكافحة التمييز في تعديل 2003.
6. تجربة جنوب أفريقيا (1993–1996):
قدمت جنوب أفريقيا نموذجاً فريداً عند صياغة دستورها الانتقالي (1993) قبل الإقرار النهائي (1996)، حيث:
- تشتت الفواعل المسلحة: السيادة المشتتة تحتاج إلى اتفاقات أمنية أولية تضمن سلامة الناخبين والمشاركين في هيئة العدالة الانتقالية.
- التدخل الإقليمي والدولي: قد يُعوّق توافقاً وطنياً إذا شُرِط على الفصائل الخارجية موافقة مسبقة على تشكيل الهيئة المستقلة.
- ضعف سجلّ المساءلة الوطنية: غياب محاكمات الداخل والتخوف من الملاحقات الداخلية قد يدفع باتجاه الاستعانة بمحاكم دولية، مما يثير حساسيات سيادية.
- الموارد والتمويل: يتطلب تأسيس لجان العدالة الانتقالية تمويلاً مستقلاً يحرّرها من تأثيرات مراكز النفوذ المحلية والإقليمية.
7. توصيات لإثراء الزمن الدستوري والعدالة الانتقالية:
- تضمين بابٍ مستقل للعدالة الانتقالية والحقوق الضحايا في الدستور، مع نصوص واضحة لتشكيل الهيئة الوطنية وتحديد مدتها وصلاحياتها.
- ضبط آليات مراجعة دورية (كل خمس سنوات) تتيح تعديل الباب الخاص بالعدالة الانتقالية بالغالبية البسيطة، لضمان مرونة وتجاوب مع تطورات الواقع.
- ضمان استقلالية مالية وقانونية للهيئة من خلال نصوص تحدد مصادر تمويلها (موازنة خاصة) وإعفائها من أحكام الطوارئ.
- إنشاء محكمة دستورية متخصصة في الطعون المتعلقة بالعدالة الانتقالية، تُمارس رقابة سابقة على النصوص التشريعية المكملة.
- إطلاق برامج تأهيل مدني تُعنى بتوعية المواطنين بفكرة الزمن الدستوري ودورهم في عمليات المصالحة والمساءلة، عبر المدارس والجامعات ووسائل الإعلام.
بإدراج هذه البنود، يتحول الدستور السوري إلى عقد حيّ قادر على استيعاب حقبة ما بعد النزاع، ويؤسّس لمرحلة انتقالية قائمة على العدالة والمواطنة الفاعلة والثقة المتبادلة بين مؤسسات الدولة والمجتمع.
الخاتمة:
نحو إعادة بناء الشرعية الوطنية واستشراف مستقبل دستوري تعددي:
استعرضنا في هذه الورقة مسار الهوية الدستورية السورية منذ دستور 1950 التأسيسي إلى دستور 2012 الشكلّي، مرورًا بتحولات النصوص من أدوات ضبط سلطوي إلى محاولات تأسيس تعدديَّة محدودة، ورأينا كيف غاب المواطن والمكونات المتنوعة عن مراكز القرار، وكيف احتكرت السلطة التنفيذية الصلاحيات، وثُبِّتت سرديات أحادية في اللغة والرموز وتعريف الوطن، لكن الأهم أننا حددنا معالم عقد تأسيسي جديد يحول الدستور إلى نص حيّ، يستجيب لنبض المجتمع بسلاسة، ويقدم آليات لمراجعة زمنية وتنفيذ للعدالة الانتقالية.
هذا وملخص النقاط الأساسية للورقة:
- الهوية الدستورية ليست نصًا جامدًا بل عقدٌ اجتماعي ينبض بميكانيزمات المشاركة والمساءلة.
- التجارب السورية أثبتت أن غياب التمثيل العادل والتنوع الثقافي والديني يقود إلى أزمة شرعية وانسداد سياسي.
- فصل السلط الحقيقي يظل أساسًا لأي دستور يضمن التوازن والرقابة، بعيدًا عن محاصصات أحادية الجانب.
- الرموز الوطنية – اللغة، العلم، الشعار، وشروط تعريف الوطن – يجب إعادة صياغتها لتكون منصة جامعة لكل السوريين.
- عقد تأسيسي تعددي يقتضي جمعية تأسيسية منتخبة، حوارًا وطنيًا شاملًا، واستفتاءات مرحلية ونهائية.
- الزمن الدستوري الحي لا يُغلق عند الاستفتاء، بل يتفاعل مع العدالة الانتقالية عبر هيئات مستقلة وآليات مراجعة دورية.
وفي هذا الختام، تحاورنا في تيار المستقبل السوري حول أفكار إبداعية لاستشراف مستقبل دستوري، فكانت هذه المقترحات:
- دستور تفاعلي رقمي، بمعنى إطلاق منصة رقمية ثلاثية اللغة (العربية- الكردية-الإنجليزية) تدمج تكنولوجيا البلوكشين لتتبع التعديلات والتصويت الشعبي، ما يحول كل مقترح إلى سجل دائم وشفاف لا يمكن تغييره إلا عبر توافق دستوري محدّد.
- إنشاء “مجالس شبابية” في كل محافظة، تمنح الجيل الجديد حقّ مبادرة مقترحات التعديلات الدستورية أو القوانين: هيئة استشارية رسمية تُلامس تطلعاتهم وتقدم توصيات ملزمة للجمعية التأسيسية.
- برامج المحاكاة الدستورية في المدارس والجامعات، وتصميم مناهج تعليمية ومحاكاة برلمانية وألعاب فيديو تفاعلية تشرح للمواطنين – صغارًا وكبارًا – آليات كتابة الدستور، وتتيح لهم تجربة التصويت على بنوده في سيناريوهات افتراضية، لتعميق الوعي الدستوري.
- تشكيل فريق من الخبراء القانونيين والمدنيين يتنقل بين المدن والقرى، يعقد ورشات “الطاولة المستديرة” مع الأهالي، يجمع الآراء ويحوّلها إلى وثائق رسمية تُعرض على الجمعية التأسيسية، ما يضمن مشاركة المواطنين البعيدين جغرافيًا.
- دمج هيئة رقابية دائمة داخل المحكمة الدستورية، تضم ممثلين عن الشباب والنساء والأقليات، تراقب تنفيذ القوانين والمراسيم وفق الدستور وتُحقّق في الشكاوى الموجهة ضد السلطات دون وساطة بيروقراطية.
- اعتراف مناطقي مؤسس، واعتماد نموذج “الهوية المتعددة الطبقات” الذي يعترف بالمواطنة السورية كقاسم مشترك، ثم يعطي بعدًا مناطقيًا وثقافيًا في المواد الخاصة بالحكم المحلي، فتُمنح المحافظات حقّ وضع لافتاتها وتحديد لحن نشيدها الإقليمي تحت سقف علم الدولة والوطنية. في ختام هذا المسعى، ينبني الدستور التعددي على قناعة أساسية: أن التنوّع السوري ليس عبئًا، بل مصدر قوة وإبداع. ومسار بناء دستور حيّ ومُشارك لا يترسخ بوثيقة واحدة، بل بممارسة مستمرة تظلّلها الشفافية والإرادة السياسية الصادقة والشراكة الحقيقية بين الدولة والمواطن.
وبهذا العقد الجديد، تصير الهوية الدستورية جسراً يربط بين الماضي المؤلم ومستقبلٍ حرٍّ ومتكامل، يحقّق للمواطن السوري مكانته كشريكٍ فاعلٍ في صناعة وطنه.
المراجع:
- المشهدي، خالد. المواطنة والمراجعة الدستورية في مرحلة ما بعد النزاع. دمشق: المركز السوري للدراسات السياسية، 2019.
- المشهدي، خالد. المواطنة والتعددية في الدساتير العربية: نحو نص متعدد الأبعاد. عمان: دار الفكر المعاصر، 2021.
- الخطيب، أيمن. اللامركزية وبناء الحكم المحلي في سوريا. دمشق: دار الفكر المعاصر، 2019.
- المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. العدالة الانتقالية: التحديات والفرص في الدول العربية. الدوحة: المركز العربي للأبحاث، 2017.
- المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. تجارب الدستور المركب في العالم العربي. الدوحة: المركز العربي للأبحاث، 2022.
- المركز السوري للدراسات السياسية. الهوية الوطنية والمكونات المجتمعية في سوريا. دمشق: المركز السوري، 2020.
- المرزوقي، عياض. الدستور والديمقراطية في العالم العربي. الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014.
- بلقزيز، عبد الإله. الدولة في الفكر العربي المعاصر. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012.
- الحاج صالح، ياسين. الأسدية: سيرة ذاتية لنظام. بيروت: دار التنوير، 2015.
- زيادة، رضوان. الانتقال الديمقراطي في سوريا: تحديات الكتابة التأسيسية. بيروت: دار الريس، 2014.
- السقال، زكريا. “الزمن الدستوري في الدساتير العربية: منظور تراكمي.” مجلة دراسات دستورية 11، عدد 1 (2016): 33–72.
- السقال، زكريا. “الجمعية التأسيسية وآليات المشاركة الشعبية: تجربة تونس والمغرب.” مجلة دراسات دستورية 10، عدد 2 (2013): 45–80.
- السقال، زكريا. “الدستور السوري الجديد: قراءة نقدية.” مجلة دراسات سورية، عدد 5 (2013).
- داوود، مروة. “آليات العدالة الانتقالية في سوريا: دراسة حالة.” المجلة السورية للعلوم السياسية 5، عدد 3 (2019): 25–55.
- الجعفري، ناصر حمد عبدالله. “آليات العدالة الانتقالية في الدول العربية.” مجلة الحقوق العربية 14، عدد 2 (2019): 40–65.
- المرزوقي، عياض. “نحو دستور تأسيسي تشاركي في الدول العربية: مقاربات نظرية وتجارب عملية.” مجلة القانون الدستوري العربية 14، عدد 1 (2020): 15–60.
- المرزوقي، عياض. “العدالة الانتقالية وإعادة بناء المؤسسات في سوريا.” في أوراق مؤتمر العدالة الانتقالية في العالم العربي، عمان، 2018، 102–110.
- أبو خليل، مي شمس الدين. “الحوار الوطني كآلية لصياغة الدستور: الدروس المستخلصة من تجارب عربية.” المجلة العربية للعلوم السياسية 6، عدد 3 (2015): 101–130.
- برهان، موسى عبد السلام. “آليات الاستفتاء الشعبي في الدساتير العربية بعد الربيع العربي: تونس وليبيا نموذجًا.” مجلة السياسة والعلوم القانونية 8، عدد 2 (2016): 90–120.
- Ayubi, Nazih N. Over-stating the Arab State: Politics and Society In the Middle East. Cambridge: Cambridge University Press, 1995.
- Hudson, Michael C. The Precarious Republic: Political Modernization in Syria. Boulder: Westview Press, 1993.
- Rabie, Sami M. The Arab Ba’th Socialist Party In Syria: Ideology and Power. London: Ithaca Press, 1979.
- Al-Halabi, Sami. Syrian Constitutional Law: Structure and Practice of Power. Damascus: Damascus University Press, 2001.
- Al-Ali, Zaid. The Iraqi Constitution: A Contextual Analysis. Oxford: Oxford University Press, 2010.
- Ben Achour, Yadh. La deuxième République tunisienne. Tunis: Cérès Editions, 2016.
- Seurat, Michel. L’État de barbarie. Paris: Éditions du Seuil, 1994.
- Masri, Safwan M. Symbols of Sovereignty in the Modern Middle East. London: Routledge, 2018.
- Krawietz, Birgit. “Judicial Independence in the Arab Middle East.” في Judicial Independence in Muslim Majority States، تحرير Birgit Krawietz، 123–149. Leiden: Brill, 2010.
- Al-Masri, Lina. “Constitutional Reforms in Syria Post-2011: Substance and Form.” Arab Law Quarterly 27، عدد 1 (2013): 77–100.
- Haddad, Bassam. “Language and Identity in Syrian Constitutionalism.” Journal of Middle Eastern Politics 12، عدد 1 (2020): 45–68.
- Salam, Amal. “Religious and Political Identity In Arab Constitutions.” Middle Eastern Constitutional Studies 3، عدد 1 (2011): 65–90.
- Nair, Vikram. “Anthem and National Identity In Post-Conflict States.” Journal of Political Symbols 4، عدد 2 (2016): 40–60.
- Al-Olabi, Waleed. “National Symbols and Identity In Syria’s Constitutions.” Damascus University Journal of Law 56، عدد 2 (2017): 123–152.