ميثاق السلوك العسكري في سورية: قراءة فلسفية دستورية في مفاهيم الانضباط والسلطة

تمهيد، سياق الأزمة والتحول البنيوي:

نشرت وزارة الدفاع في الحكومة السورية، يوم الجمعة 30 أيار 2025 ميثاق «لائحة قواعد السلوك والانضباط العسكري»، وقالت إن هذا الميثاق ينطبق على كل من يرتدي الزي العسكري ضمن الجيش السوري الجديد، هذا ويشكّل الإعلان عن "ميثاق السلوك والانضباط العسكري" في سورية، ضمن ظروف ما بعد السلطوية والسقوط الفعلي للنظام الاستبدادي، مناسبة تستدعي قراءة نقدية معمّقة تتجاوز الشكل القانوني إلى الأسس الفلسفية والدستورية التي يُفترض أن يرتكز عليها مثل هذا النص. إن السياق السوري المعاصر يتميّز بغياب عقد اجتماعي جامع، وتفكك مؤسساتي واسع، وشرخ عميق في مفهوم الشرعية، ما يجعل أي محاولة لتنظيم المؤسسة العسكرية تحديًا وجوديًا لا تقنيًا فحسب.

بعد أحداث السويداء المأساوية، نتوجه إلى الميثاق، في صيغته الراهنة، لمعالجته باعتباره رافعاً ممكناً لمؤسسة الجيش، ومانعاً من عودة الخلل الذي كان أحد أسباب ماجرى ويجري بسورية.
حيث إن الميثاق يُطرح وكأنه بديل للقانون أو مقدمة للدستور، مما يستدعي مساءلته من زاوية فلسفة القانون، وطبيعة السلطة السياسية، ودور الانضباط العسكري في ظل فراغ بنيوي في العقد الوطني.

الانضباط كمفهوم فلسفي بين الطاعة والسيادة:

في الفكر السياسي الحديث، لا يُفهم الانضباط العسكري كمجرد التزام بالأوامر، بل يُنظر إليه كأحد تجليات العلاقة بين الفرد والسلطة في إطار عقد اجتماعي محدد.
توماس هوبز، في "اللفياثان"، يرى أن الطاعة للسلطة ضرورة لضمان الأمن، لكنها تُمنح للسيادة التي تأسست على تنازل إرادي من الأفراد.
وفي المقابل، جون لوك يشترط أن تكون السلطة شرعية وخاضعة للدستور وأن الطاعة ليست مطلقة بل مشروطة بحماية الحقوق الطبيعية.
فالميثاق السوري المقترح يتعامل مع الانضباط كغريزة أو حالة عقلية يجب غرسها، لكنه يتجاهل المصدر المفترض لشرعية تلك الغريزة: هل تستند إلى دستور نافذ؟ أم إلى سلطة منتخبة؟ أم إلى تمثيل مدني؟
فدون ذلك، يصبح الانضباط مجرد طاعة غير عقلانية، أو كما وصفها إيمانويل كانط: “استلاب أخلاقي” حين تُمارس الطاعة دون مساءلة أو عقل.

وفي السياقات الانتقالية، مثل الحالة السورية، لا يمكن فهم الانضباط العسكري خارج إطار إعادة تعريف العلاقة بين الجيش والدولة، وبين السلطة والمجتمع. فالعقيدة العسكرية لا تتشكل من المبادئ الأخلاقية وحدها، بل من تموضع الجيش داخل البنية القانونية والسياسية الجديدة، ومن توافق مجتمعي واسع حول دوره ووظيفته.

الانضباط العسكري بين الأنظمة السلطوية والنماذج التعاقدية:

لتمييز أفق الانضباط العسكري في سورية الجديدة، يجب أولاً إدراك الفروقات الجذرية بين الانضباط كمفهوم وظيفي في الأنظمة السلطوية، وبين تموضعه في الدول التعاقدية الدستورية.
ففي النظام السلطوي، كالذي حكم سورية لعقود، يُصاغ الانضباط من أعلى، عبر بنية أمرية متمركزة حول القائد أو الحزب الحاكم، فيُغذّى الانضباط هنا بخطاب يتجاوز القانون إلى الولاء الشخصي، وتُمارَس الطاعة باعتبارها جوهر الهوية العسكرية.
أما في النظم التعاقدية، كما في التجارب الدستورية الحديثة (كجنوب إفريقيا بعد الأبارتايد أو تشيلي ما بعد بينوشيه)، فإن الانضباط يُعاد تعريفه بوصفه التزامًا طوعيًا تجاه عقد اجتماعي جامع ومؤسسات مدنية راعية.
فلا يُستمد الانضباط من شخص أو خطاب أيديولوجي، بل من مرجعية قانونية دستورية واضحة، تُحدّد وظيفة الجيش وتضبط سلوكه وتُخضعه للرقابة والمساءلة.

إن الميثاق السوري المقترح لا يقدم أي معالم واضحة تربط مضمون الطاعة والانضباط بمرجعية دستورية جديدة، بل يبقى معلّقًا في فراغ قانوني، ما يجعله أقرب لتكريس الطاعة الشكلية دون خضوع حقيقي للقانون.

تحليل بنية الميثاق: استبدال المؤسسات بالأخلاق؟

عند تفكيك بنية النص ذاته، يظهر جليًا أن الميثاق يستند إلى مصطلحات أخلاقية مثل "الطاعة الغريزية"، "الحفاظ على كرامة المدني"، و"الإخلاص والانضباط"، لكنه يتجاهل تفعيل المرجعية القانونية أو المدنية، ولا نجد فيه ربطًا واضحًا بالمؤسسة التشريعية، ولا بالدستور الانتقالي، ولا حتى بإجراءات الرقابة أو المساءلة التي تكفل عدم تحول الانضباط إلى أداة استبداد جديدة.
هذا التوجه الأخلاقي، رغم أهميته الرمزية، لا يُعد كافيًا لتأسيس عقيدة عسكرية في مرحلة ما بعد الاستبداد.
بل يُمكن أن يشكّل خطرًا مضاعفًا إذا ما تحوّل إلى غطاء لسلوك عسكري خارج الرقابة، أو أداة لاحتكار العنف تحت شعار "الوحدة والانضباط".
ومن زاوية دستورية، فالميثاق يفتقر إلى ما يسمّيه الفقه المقارن بـ "الضمانات الدستورية للسلطة التنفيذية المسلحة"، أي الآليات التي تمنع تسييس الجيش أو استخدامه خارج حدود المصلحة العامة والدستور.

سورية ما بعد السلطوية: فراغ الشرعية وتهديد الانضباط غير التعاقدي:

إن سياق ما بعد سقوط النظام المركزي في سورية يؤسس لمعضلة شرعية بنيوية تمس كل مؤسسة حيوية، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، فغياب سلطة تشريعية منتخبة، وانعدام دستور متوافق عليه، وتعدد مراكز القرار العسكري، كلها عوامل تجعل أي تنظيم للجيش عرضة لفقدان المشروعية أو التحول إلى أداة في يد السلطة المتغلبة، لا تجسيدًا لوحدة الدولة.
وفي هذا السياق، يأتي الميثاق العسكري كوثيقة حائرة بين الطموح المؤسسي والانكفاء التنظيمي. فعوضًا عن أن يكون ترجمة لرؤية وطنية دستورية، يبدو كأنه محاولة لاستباق التأسيس السياسي عبر ضبط الجيش في غياب إرادة مدنية جامعة.
والأخطر، أن الانضباط الذي لا يستند إلى تعاقد مدني دستوري يمكن أن يُستخدم لتبرير ممارسة العنف في غياب المساءلة، تحت ذريعة "الطاعة والانضباط".
إن التجارب الدولية تشير إلى أن بناء الانضباط العسكري خارج إطار دستوري ومؤسسي يؤدي غالبًا إلى إعادة إنتاج السلطوية، ففي رومانيا ما بعد تشاوشيسكو، لم يُدمج الجيش في المؤسسات المدنية إلا بعد تعديل الدستور وربط مهامه برقابة برلمانية فعّالة. وفي ليبيا، فشل مشروع بناء الجيش ما بعد القذافي جزئيًا بسبب غياب تعاقد سياسي يضبط العلاقة بين العسكري والمدني. أما في جنوب إفريقيا، فقد ارتكز دمج الجيش الوطني الجديد على وثيقة دستورية صريحة تُلزم الجيش بحماية الدستور وليس السلطة السياسية

التأصيل الفلسفي: الطاعة، الإرادة، والعقد الاجتماعي الغائب:

من منظور فلسفي، يُطرح سؤال جوهري: هل يمكن للانضباط أن يكون أخلاقيًا ووطنيًا في غياب إرادة جماعية تعاقدية؟ هنا تبرز إسهامات مفكرين مثل هابرماس الذي يؤكد أن الشرعية لا تُشتق من الطاعة، بل من المشاركة، والتداول، والاعتراف المتبادل بين الأفراد والمؤسسات. فالانضباط، في فلسفة هابرماس، ليس طاعة تقنية، بل تعبير عن خضوع طوعي لنظام قانوني يراه الفرد نتاجًا لإرادته الجماعية.
أما في النموذج الكانطي، فالعلاقة بين القانون والطاعة تُصاغ من خلال العقل الأخلاقي: "لا طاعة دون إرادة، ولا قانون دون أخلاق". بناءً على ذلك، يصبح الانضباط العسكري مشروعًا فقط إذا استند إلى دستور ناتج عن توافق عام، لا إلى سلطة مفروضة أو إلى نص شكلي معزول عن الإرادة الشعبية.
وفي ظل غياب العقد الاجتماعي في سورية، يتحوّل الانضباط إلى طاعة غير مؤسسة، قد تستخدم لإعادة تشكيل السلطة لا لخدمة الشعب.
من هنا تأتي الحاجة إلى مساءلة الميثاق ليس على أساس مدى تنظيمه، بل على أساس مدى شرعيته كمكوّن في مشروع الدولة التعاقدية.

نحو ميثاق عسكري تعاقدي: مقترحات تأسيسية وبنود مبدئية:

لبناء جيش وطني في سورية يكون أداة لحماية الدستور والمجتمع لا أداة سلطة فوقية، لا بد من تحويل الميثاق العسكري من وثيقة أخلاقية مجردة إلى نص تعاقدي يحتكم إلى دستور مؤقت ويُخضع المؤسسة العسكرية لرقابة مدنية صارمة.

أ. المبادئ العامة التأسيسية:

  1. الخضوع المطلق للدستور:
    يجب أن يُنصّ صراحة على أن المؤسسة العسكرية، في بنيتها وهيكليتها وسلوكها، لا تخضع لأي سلطة حزبية أو سياسية مهما كانت، بل تلتزم التزامًا مطلقًا بالدستور المؤقت خلال المرحلة الانتقالية، ثم بالدستور الدائم حال إقراره.
    هذا الخضوع لا يعني مجرد الاعتراف بالدستور، بل العمل تحت مظلته، والانضباط لأحكامه، والامتثال للسلطة القضائية والتشريعية المدنية، فالدستور هو العقد الجامع بين الشعب ومؤسساته، وأي مؤسسة تتجاوزه أو تخرج عنه تُهدد وحدة الدولة وشرعيتها.
  2. الرقابة المدنية والمؤسسية:
    إن تأصيل مبدأ الرقابة المدنية على المؤسسة العسكرية يتطلب نقل السلطة الرقابية من الأجهزة الأمنية أو التنفيذية إلى هيئات تمثيلية، تشريعية، ومستقلة.
    كما يجب أن ترتبط سياسات الدفاع والقرارات العسكرية الكبرى برقابة البرلمان الانتقالي، أو هيئة دستورية مدنية مختصة، تملك صلاحيات استدعاء، واستجواب، ومساءلة القادة العسكريين دون تدخل السلطة التنفيذية.
    كما يُقترح أن تكون هناك لجنة دفاع مدنية-تشريعية مشتركة، تضم خبراء مدنيين، وتتمتع بصلاحيات رقابية وفنية متقدمة.
  3. الشفافية والمساءلة:
    لا يكفي النص على القيم الأخلاقية مثل النزاهة والانضباط، بل يجب مأسسة آليات الشفافية، ومنها:
  • الإعلان السنوي عن موازنات الدفاع ومجالات إنفاقها.
  • نشر تقارير الأداء والانضباط.
  • تمكين الإعلام والمجتمع المدني من الوصول إلى المعلومات غير المصنّفة أمنيًا.
  • وضع آليات مساءلة مستقلة تمكّن المواطنين والجنود من رفع شكاوى بحق ممارسات مخالفة للقانون.


4. الحياد السياسي والمؤسسي:


فالجيش مؤسسة وطنية حيادية، ويُمنع على أفراده الانخراط في أي نشاط حزبي أو دعاية سياسية، ويُحظر توظيف المؤسسة العسكرية في صراعات داخلية أو نزاعات على السلطة أو تزوير إرادة الشعب في الانتخابات أو الاستفتاءات، ويُعتبر أي خرق لهذا المبدأ تهديدًا مباشرًا للنظام الديمقراطي ويخضع للعقوبات الدستورية.


5.العقيدة العسكرية المدنية:

يجب أن تُعاد صياغة العقيدة العسكرية لتكون منسجمة مع مفهوم الدولة المدنية الدستورية، بحيث يتم تدريب الجنود والضباط على:

  • حماية سيادة القانون لا سيادة الأشخاص.
  • احترام حقوق الإنسان وقيم المواطنة.
  • التمييز الواضح بين الدفاع الوطني والعمل الأمني الداخلي.
  • فهم دورهم كمؤتمنين على السلاح لا كحاملي تفويض سياسي.

6.العدالة الانتقالية والتكوين الوجداني:

لا يمكن بناء جيش وطني دون الارتكاز إلى مبادئ العدالة الانتقالية، التي تقتضي الاعتراف بالماضي والانحياز إلى قضايا الضحايا وتفكيك الثقافة العسكرية الاستبدادية، وتُدرج في العقيدة الجديدة برامج لتأهيل الضباط والجند على مفاهيم:

  • المصالحة المجتمعية.
  • تجريم الانتهاكات السابقة.
  • احترام التنوع الإثني والديني والسياسي في البلاد.

7.الالتزام بالقانون الدولي الإنساني:

يُدرّب الجيش على قواعد القانون الدولي الإنساني، واتفاقيات جنيف، وحقوق المدنيين في النزاعات المسلحة، ويُشدد في الميثاق على أن خرق هذه المبادئ لا يُعد فقط مخالفة مهنية بل جريمة تُعرض مرتكبها للمحاسبة أمام المحاكم الوطنية والدولية.

خاتمة تأسيسية: الجيش كمؤسسة ضامنة أم سلطة مهيمنة؟


في الظروف السورية الراهنة، لا يمكن فصل ميثاق السلوك العسكري عن سؤال الشرعية الدستورية ومفهوم العقد الاجتماعي.
فالجيش، في الدولة التعاقدية، ليس أداة طاعة ولا مجرد فاعل أمني، بل مؤسسة سيادية مسؤولة عن حماية النظام الديمقراطي لا السيطرة عليه.
وإذا أُريد للجيش السوري أن يتحوّل من أداة سلطوية إلى مؤسسة وطنية، فإن الميثاق يجب أن يُعاد صياغته بوصفه وثيقة دستورية، تُخضع العسكري للمدني، وتمنح الطاعة معناها القانوني والأخلاقي. وهنا نستعيد مقولة مونتسكيو: “السلطة يجب أن توقف السلطة”، فلا انضباط دون رقابة، ولا جيش وطني دون دستور يضبط العلاقة بين القوة والسيادة، وبين الطاعة والحرية.

المراجع:


ـ Hobbes, Thomas. Leviathan. Edited by Richard Tuck. Oxford: Oxford University Press, 1996. Originally published in 1651.
ـ Locke, John. Two Treatises of Government. Edited by Peter Laslett. Cambridge: Cambridge University Press, 1988. Originally published in 1689.
ـ Kant, Immanuel. Groundwork of the Metaphysics of Morals. Translated and edited by Mary Gregor. Cambridge: Cambridge University Press, 1997.
ـ Montesquieu, Charles de. The Spirit of the Laws. Translated and edited by Anne M. Cohler, Basia Carolyn Miller, and Harold Samuel Stone. Cambridge: Cambridge University Press, 1989.
ـ Habermas, Jürgen. The Theory of Communicative Action: Reason and the Rationalization of Society. Volume 1. Translated by Thomas McCarthy. Boston: Beacon Press, 1984.
ـ Government of South Africa. White Paper on National Defence for the Republic of South Africa. Pretoria: Department of Defence, 1996.
ـ Republic of South Africa. Defence Act, No. 42 of 2002.
ـ Constitution of Romania. Adopted in 1991, revised In 2003. Official Gazette of Romania.
ـ United Nations Development Programme (UNDP). Libya Security Sector Reform and Post-Conflict Military Integration Reports. New York: UNDP, 2012–2016.
ـ Cawthra, Gavin. Securing South Africa’s Democracy: Defence, Development and Security in Transition. Basingstoke: Palgrave Macmillan, 1997.
ـ Bellamy, Alex J., Paul D. Williams, and Stuart Griffin. Understanding Peacekeeping. Second edition. Cambridge: Polity Press, 2010.
ـ Barany, Zoltan. Democratic Breakdown and the Decline of the Russian Military. Princeton: Princeton University Press, 2007.
ـ Syria TV. "ميثاق السلوك والانضباط العسكري لوزارة الدفاع وأهميته." سورية تي في، تموز 2025. https://www.syria.tv
ـ Haramon Center for Contemporary Studies. دراسات في إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية السورية خلال المرحلة الانتقالية. دمشق: مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 2020–2023.
ـ Carnegie Middle East Center. Civil-Military Relations and Security Sector Reform in Syria. بيروت: برنامج كارنيغي للشرق الأوسط، 2018–2024.


شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع