إعادة تعريف الولاء والسيادة في سورية: قراءة فلسفية لتصريحات بيدرسن حول السويداء

مدخل مفاهيمي.. من السيادة التقليدية إلى الشرعية التشاركية:

لقد ورثت الدولة السورية، شأنها شأن معظم الكيانات العربية ما بعد الاستقلال، نموذجًا للسيادة قائمًا على احتكار القرار السياسي والإداري من المركز، في مقابل تهميش الأطراف، وتعليق مفاهيم التعدد الاجتماعي والتمثيل المتوازن.
هذا النموذج الذي تأسس على ركيزتين: الهيبة السيادية في مواجهة الخارج، والسيطرة الإدارية في مواجهة الداخل، فشل في استيعاب الديناميكيات الاجتماعية والسياسية المتحوّلة، خاصة في لحظات الأزمة التي تعرّي هشاشة أدوات الهيمنة، وتُعيد طرح سؤال الشرعية.

إن تصريحات غير بيدرسن، المبعوث الأممي إلى سورية، حول خصوصية السويداء، والقول الصريح بأن "الولاء لا يُفرض بالقوة العسكرية"، تعكس تحولًا في الخطاب الدولي الرسمي من الاعتراف بالسيادة الشكلية إلى مطالبة الدولة بإعادة بناء شرعيتها من الداخل.
وهذا ما يُدخل مفهوم السيادة في اختبار فلسفي عميق، من حيث كونها ليست مجرد سيطرة إقليمية بل عقدًا أخلاقيًا–تمثيليًا بين السلطة والمواطنين.

وفي السياق السوري، يُصبح من المشروع طرح أسئلة من نمط:

  • هل السيادة هي القدرة على فرض القرار، أم الشرعية في تمثيل الإرادة العامة؟
  • هل الولاء المطلوب من المواطنين يجب أن يُبنى على الخوف، أم على الثقة والتمكين؟
  • هل يمكن اعتبار السيطرة الأمنية مؤشرًا على وحدة الدولة، أم على فشلها في إنتاج توافق سياسي؟ قراءة سياسية لأحداث السويداء.. تمايز الواقع المحلي عن فرضيات المركز:
    منذ اندلاع التوترات في السويداء، وعجز السلطة المركزية عن تأمين استجابة عقلانية، برزت ثلاث خصائص لهذا الواقع المحلي:
    أولًا: الطابع المجتمعي غير المسلح للمطالب، فالنشاطات الاحتجاجية في السويداء لم تتأسس على رغبة بالانفصال، بل على رفض التهميش والبحث عن تمثيل سياسي أكثر عدالة، وهي مطالب تقترب من منطق الإصلاح لا التمرد.
    ثانيًا: عدم انخراط القوى المحلية في السجالات الطائفية فخلافًا لمناطق أخرى، حافظت السويداء على نبرة مدنية ومجتمعية عالية، مما يجعل من تجاهلها خطرًا ليس على الاستقرار فحسب، بل على وحدة السردية الوطنية نفسها.
    ثالثًا: غياب الطموح السلطوي مقابل المطالبة بالتمكين، فلم تظهر في السويداء جهات تطالب بسلطة مستقلة، بل ركزت على اللامركزية الإدارية، احترام الحقوق، والمشاركة في إدارة الشؤون العامة.
    هذه الخصائص تؤسس لتمايز لا يمكن إنكاره بين السويداء ومناطق الساحل، كما أشار بيدرسن، مما يُلزم السلطة المركزية بالتعامل معها ليس باعتبارها "منطقة خارجة عن السيطرة"، بل كمجتمع يطالب بصياغة جديدة للعلاقة مع الدولة.

تحليل فلسفي للولاء السياسي: الدولة كعقد اجتماعي أم جهاز قسري؟
في الفلسفة السياسية، يُعتبر الولاء من المفاهيم الملتبسة بين الطاعة المشروعة، والانتماء السياسي. توماس هوبز رأى أن الولاء ينبع من حاجة الإنسان للأمن، ويُبرر الخضوع لـ "ليفياثان" القوي.
أما روسو فاعتبر الولاء نتيجة مباشرة للعقد الاجتماعي القائم على الإرادة العامة، لا على القوة.

ومن هذا المنظور، فإن قول بيدرسن إن "الولاء لا يُبنى بالقوة العسكرية"، يعيد الاعتبار للنموذج الديمقراطي للسلطة، الذي يقوم على:

  • التمثيل الحقيقي للمواطنين.
  • حماية الحقوق والمصالح.
  • إنتاج ثقة وتكافؤ قانوني.
    وهذا معناه أن الدولة السورية، إذا أرادت استعادة الولاء الشعبي، فلا يمكنها أن تُراهن على الأدوات الأمنية وحدها، بل يجب أن تخضع نفسها لإعادة تعريف شاملة لوظائفها:
  • هل الدولة خادمة للمجتمع؟ أم حارسة له فقط؟
  • هل تعبر عن إرادته؟ أم تفرض إرادتها عليه؟
  • وهل ولاء المواطنين مكافأة لتمثيلهم؟ أم جزية مقابل بقائهم؟

الانتقال السياسي كشرط للاستقرار.. إعادة هندسة السلطة والتمثيل:

إن تأكيد بيدرسن على أن "تحقيق الأمن والاستقرار مرتبط ارتباطاً وثيقاً بانتقال سياسي ناجح"، لا يعكس مجرد موقف أممي، بل يُعيد ترسيم العلاقة بين الدولة كجهاز ومجتمع كفاعل. ففي النظرية السياسية الحديثة، يُنظر إلى الاستقرار ليس كنتيجة للقوة، بل كمحصلة لعلاقة رضى وتفاهم تاريخي بين الحاكم والمحكوم.
فالانتقال السياسي في الحالة السورية لا يعني فقط تبديل النخبة أو تعديل بنية السلطة، بل يتطلب إعادة بناء النسق السياسي والدستوري الذي يضبط العلاقة بين المركز والأطراف، وبين الفرد والمؤسسات، وبين الحقوق والواجبات.
إن تكرار مقاربة "إعادة بسط السيادة بالقوة" قد تنجح في خلق هدنة، لكنها تعجز عن إنتاج استقرار مستدام، ولطالما ظلت:

  • المؤسسات خاضعة للإرادة الأمنية لا للمساءلة الشعبية.
  • التمثيل السياسي قائم على الانتماء وليس على الكفاءة أو الحقوق.
  • الدولة تُعامل المواطن كخاضع لا كشريك في التأسيس والبناء.
    من هنا، يصبح الانتقال السياسي ضرورة معرفية وأخلاقية قبل أن يكون شرطًا دوليًا، وهو وحده ما يضمن أن تكون استجابة دمشق لملف السويداء ليست مجرد مراوغة أمنية، أو حلاً لتعنت الشيخ حكمت الهجري وغباءه، بل خطوة تأسيسية باتجاه عقد سياسي جديد يُعيد تعريف مفهوم الوطن والمواطنة.

البنية الدبلوماسية لتصريحات بيدرسن.. من الحياد الأخلاقي إلى الوساطة التكوينية:

تمثل تصريحات بيدرسن تحولًا في وظيفة المبعوث الأممي من مجرد وسيط تفاوضي إلى فاعل سياسي–أخلاقي يشارك في صياغة التصورات العامة للمستقبل السوري، فخطابه لم يكتف بإعادة توصيف الأحداث، بل قدم تصورات فلسفية حول السيادة، والشرعية، والولاء، مما يضعه في موقع استثنائي بين وسطاء الأمم المتحدة في النزاعات المعاصرة.

هذا التحول يرتكز على أربع دلالات مركزية:

  1. تجاوز مفهوم "الحياد البارد" إلى الحياد الحيادي القيمي، الذي يُدين الانتهاك ويُدافع عن المشاركة.
  2. الربط بين الحل الميداني والتصور الدستوري، بما يُعزز من وزن العملية السياسية كمخرج حتمي لا كخيار تفاوضي.
  3. الإقرار بخصوصيات المجتمعات المحلية دون تهديد وحدة الدولة، وهو ما يُحاكي منطق الفيدرالية التشاركية لا الانفصالية.
  4. تقويض السردية الرسمية التي قد ترى في كل معارضة تهديدًا، وتستغل حالة الهجري لتعميمه على كل الأصوات الحقيقية الوطنية المعارضة، وتُعيد الاعتبار للحوار كفضاء تأسيسي لا تكتيكي.
    هذا النوع من الوساطة، إذا تطور، يمكن أن يُساهم في هندسة دستور جديد يُبنى على فهم محلي للشرعية، لا على فرضيات فوقية مستنسخة، ويشكل ضمانة أخلاقية للتوازن بين المكونات السياسية والاجتماعية.

موقع السويداء في المعادلة الوطنية.. بين خصوصية اجتماعية واستحقاق دستوري:
السويداء تُمثل نموذجًا مصغرًا لعلاقة الهوية بالمواطنة، والسلطة بالمجتمع.
ومن خلال ما جرى فيها، برزت ثلاث ركائز تجعل من موقعها محوريًا في أي عملية إصلاح وطني:
أولًا، القوة الأخلاقية للاحتجاج، فلقد تمكنت السويداء من الحفاظ على احتجاج سلمي، واضح المطالب، دون الانزلاق للعسكرة أو الطائفية، مما يُكسبها شرعية مدنية وأخلاقية رفيعة، طبعاً قبل انقلاب الهجري.
ثانيًا، التركيبة الاجتماعية المركّبة، فوجود تركيبة مجتمعية متماسكة، قائمة على الوعي الجمعي، والإرث التاريخي للامتناع عن العنف، يجعل من أي استجابة أمنية تجاه السويداء خارج سياقها إذا ما انتهى التصعيد واحتشاد العشائر.
ثالثًا، موقعها في الجغرافيا السياسية، فالسويداء تقف بين الجنوب والساحل، وهي بذلك تمثل نقطة توازن حساس يمكن أن تتحول إلى فضاء تجريبي للديمقراطية المحلية، أو إلى بوابة لانهيار الثقة الوطنية.

إشكالية الحماية الدولية والارتباط بالسيادة المتكافئة:في ردّه على دعوات بعض القيادات المحلية للحماية الدولية، اعتبر بيدرسن أن هذا الخيار "غير واقعي". وهذا الموقف، وإن بدا متحفظًا، يحمل رسالة مزدوجة:

  • الأولى: رفض تحويل سورية إلى حالة وصاية دولية تُدار من الخار
  • الثانية: دعوة ضمنية إلى ضرورة أن تُبادر السلطة المركزية نفسها إلى حماية مواطنيها وإنشاء أنظمة أمنية ومدنية تحمي الحياة وتضمن الكرامة.
    لكن في التحليل الفلسفي للسيادة، فإن الحماية لا تُقاس فقط بمنع التدخل الخارجي، بل بمدى قدرة الدولة على أن تكون هي الضامن الفعلي لأمن مواطنيها وحقوقهم دون اللجوء لأطراف ثالثة.
    فإن فشلت، تُصبح فكرة الحماية الدولية نتيجةً لا اختيارًا.

هنا، يُطرح السؤال الذي يُقلق كل منظّري الدولة: هل الدولة التي تطالب برفض التدخل، ولا تملك أدوات الحماية، ولا تسمح بالشراكة، تبقى مؤهلة لاحتكار السيادة؟ أم أن السيادة يجب أن تتحول إلى عملية موزّعة ومتوازنة تستوعب المطالب المحلية ضمن الوحدة الوطنية؟

استنتاجات وتوصيات استراتيجية لمسار التعافي الدستوري والمؤسسي:

في ضوء التحليل السابق، يصل تيار المستقبل السوري إلى جملة من الاستنتاجات والتوصيات العملية التي تهدف إلى تحويل تصريحات بيدرسن إلى رافعة سياسية ودستورية لإعادة بناء الدولة السورية على أسس جديدة:
أولًا: ضرورة فتح مسار تفاوضي مباشر بين دمشق وممثلي السويداء، يرعاه أطراف أممية أو حيادية، ويُبنى على أساس الاعتراف بالتمثيل المحلي لا الإنكار السلطوي، ويبقى مجال التفاوض مفتوحاً لمنع أي اعادة لتجربة الشيخ الهجري لاحقاً.
ثانيًا: إدماج مبدأ "التمكين المحلي ضمن السيادة الوطنية" في مسودة الدستور الجديد، كصيغة وسط تضمن وحدة الدولة دون قمع خصوصيات المجتمعات، فالقضية ليست بالسويداء فقط، بل قد تكون بشمال شرق سورية أعمق!.
ثالثًا: إعادة تعريف مفهوم الولاء الوطني بوصفه نتيجة للعدالة التمثيلية والخدمات الفعالة، لا للرعب أو العقيدة الأمنية.
رابعًا: الدفع نحو إنشاء مجلس وطني للحوار المجتمعي يشمل ممثلين عن كافة المحافظات، ويُعنى بصياغة استراتيجيات توزيع السلطة، واللامركزية الإدارية.
خامسًا: مساءلة الأداء الرسمي في تعاطيه مع السويداء، وكشف كل الانتهاكات التي وقعت، ومحاسبة المسؤولين عنها كجزء من إعادة الثقة بمؤسسات الدولة.
سادسًا: رفض اختزال السيادة في المفهوم العسكري، والدعوة إلى مقاربة متعددة الأبعاد تشمل السيادة القانونية، الاقتصادية، الإنسانية، والثقافية.

خاتمة:

إن تصريحات غير بيدرسن في السويداء لم تكن مجرد توصيفٍ دبلوماسي للحدث، بل شكلت إعلانًا غير رسمي لانتهاء صلاحية النموذج السيادي القسري، وبداية لتصور أممي–وطني جديد يُعيد تعريف السلطة بوصفها أداة للتمثيل لا للقهر.
وإذا أَحسنّا استقبال هذه اللحظة، فيمكن أن تتحول السويداء من مشهد أمني إلى "منصة دستورية" لإعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع، على أسس التشاركية، العدالة، والكرامة.

إن تيار المستقبل السوري، إذ يرصد هذا التحوّل بمسؤولية، يُجدد دعوته لكل القوى السياسية والاجتماعية لأن تُعيد النظر في مفهوم السلطة والتمثيل، وأن تُبادر إلى تأسيس خطاب جديد يليق بسورية المُنهكة، خطاب لا يسجنها في الماضي، بل يُحرر مستقبلها من الخوف والاحتكار، ويكتب أولى صفحات العقد السوري الجديد.

جمعة محمد لهيب
المكتب العلمي
المكتب السياسي
مقالات

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع