الملخص التنفيذي:
تشكّل العلاقة بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والدولة السورية الجديدة أحد أبرز التحديات السياسية والمؤسساتية في سياق الانتقال الوطني عقب سقوط النظام السابق في كانون الأول 2024.
وقد أصبحت هذه العلاقة محورًا لمعادلة دقيقة تحاول أن توازن بين ضرورات السيادة ووحدة مؤسسات الدولة من جهة، ومتطلبات العدالة والتمثيل السياسي والثقافي لمكونات شمال شرق سورية من جهة أخرى.
تطرح هذه الورقة تصورًا عمليًا لتسوية متوازنة بين الطرفين، يراعي المبادئ الدستورية والسياسية للدولة الناشئة، ويستند إلى تجارب انتقالية في بلدان خرجت من النزاع المسلح نحو التوافق الوطني، مثل جنوب أفريقيا والبوسنة.
كما وتوصي الورقة بإطار متعدد المحاور يتضمن إعادة هيكلة عسكرية مشروطة، لا مركزية إدارية موسعة، واعتراف دستوري بالحقوق الثقافية، وضمانات عدالة انتقالية بمشاركة دولية تقنية.
أولًا، السياق السياسي والمرحلة الانتقالية:
تعيش سورية، منذ سقوط نظام الأسد، مرحلة غير مسبوقة من إعادة تأسيس عقد اجتماعي جديد يُعيد تعريف شكل الدولة، وطبيعة مؤسساتها، وموقع المواطن ضمنها. هذه المرحلة تفرض ضرورة إعادة دمج كل القوى التي برزت خلال سنوات النزاع داخل منظومة الدولة بشكل لا يُضعف سيادتها ولا يعيد إنتاج مظاهر التفرد والانقسام.
برزت قوات سوريا الديمقراطية خلال العقد الأخير بوصفها قوة مسلحة ذات بعد محلي–قومي، تمكنت من فرض سيطرتها في مناطق شمال شرق البلاد، وتمتعت بدعم دولي واسع، خاصة من الولايات المتحدة في إطار مكافحة تنظيم داعش.
ورغم توقيع اتفاق إطاري بينها وبين الحكومة السورية الجديدة في آذار 2025، فما تزال قسد تمانع الانضواء الكامل ضمن مؤسسات الدولة، وتطالب بالاحتفاظ بهيكل عسكري مستقل وصيغة لا مركزية سياسية ترى فيها ضمانًا للتمثيل الكردي في سورية الجديدة.
في المقابل، تؤكد الحكومة السورية برئاسة أحمد الشرع أن الدولة لا يمكن أن تبدأ من قواعد سيادية منقوصة، وترى في مطالب قسد تهديدًا لوحدة القرار السياسي والعسكري، رغم التزامها باعتراف دستوري بالحقوق الثقافية واللغوية لمكونات الشمال الشرقي، وفي مقدمتها الكُرد السوريون.
ثانيًا، الإشكالية المؤسساتية في العلاقة بين الطرفين:
إن جوهر الخلاف بين قسد والدولة السورية يتمثل في موقع القوة والهوية داخل الدولة. فمن جهة، تطالب قسد بالاعتراف بها كمكون عسكري وإداري شبه مستقل، مع اندماج رمزي في مؤسسات الدولة، وضمان حقوق تمثيلية للكُرد.
ومن جهة أخرى، ترى الحكومة أن الاندماج يجب أن يكون فرديًا ومؤسساتيًا خالصًا، دون كتلة سياسية أو عسكرية، حفاظًا على هيبة المؤسسات وتماسك السيادة.
هذا التباين يقود إلى مفاهيم مختلفة حول الدولة نفسها.
فبينما تسعى الحكومة السورية إلى إعادة بناء دولة مركزية مرنة غير استبدادية، تؤمن قسد بنموذج لا مركزي موسع يصل حد الفدرالية الإدارية، وتُبقي على ميليشيا قوية ذات تمويل وتجهيز خاص.
وهذا التعارض يهدد الاستقرار الانتقالي ويخلق خطرًا حقيقيًا في تكريس الازدواجية داخل مؤسسات الدولة الناشئة.
ثالثًا: المحددات الدستورية والقانونية للاندماج:
تستند فكرة احتكار الدولة لاستخدام القوة إلى مبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، كما تُعد عنصرًا جوهريًا في أي عملية انتقال ديمقراطي.
غير أن تجارب بلدان ما بعد النزاع تشير إلى أن هذا الاحتكار لا يمكن فرضه دفعة واحدة، وإنما يحتاج إلى هندسة مؤسساتية تدريجية تضمن دمج القوات غير النظامية ضمن مؤسسات الدولة، وتحقيق العدالة في التمثيل، دون منحها امتيازات خارج الإطار السيادي.
توصي الورقة هنا بأن يتأسس الحل على مبدأ "الدمج المشروط والمرحلي"، عبر إنشاء وحدة رسمية داخل المؤسسة العسكرية تُشكّل من عناصر قسد، تحمل طابعًا جغرافيًا لا سياسيًا، وتُدار خلال مرحلة انتقالية عبر قيادة مشتركة تخضع لرقابة مركزية صارمة، بحيث تُدرج هذه الوحدة في هيكلة الجيش الوطني وفق قوانين الخدمة، وتُخضع أفرادها لإعادة تدريب وفق العقيدة الوطنية، بما يُفضي لاحقًا إلى اندماج كلي.
في الوقت ذاته، كما ويُفترض أن يُراعى مطلب الاعتراف بالهوية الكردية وغيرها من الهويات السورية باعتبارها ثروة حضارية وطنية، من خلال تعديل دستوري ينص على الحقوق الثقافية واللغوية للكُرد، ويضمن استخدام اللغة الكردية في التعليم المحلي والإعلام دون إنشاء كيان سياسي مستقل (وهو ما ذكرناه صراحةً في أوراق تيار المستقبل السوري منذ سنوات ضمن رؤيتنا الجامعة لشكل الدولة الجديدة) وهو ما يُحقق التمثيل دون المساس بوحدة الدولة أو فتح باب الفدرلة أو خرق مبدأ مركزية التعليم الوطني.
رابعًا، البنية الإدارية المقترحة لمنطقة شمال شرق سورية:
يرى تيار المستقبل السوري أن الحل الواقعي يتمثل في اعتماد نموذج لا مركزية تعاونية، وإدارية موسعة، يمنح المجالس المحلية المنتخبة صلاحيات واسعة في مجالات الخدمات، التخطيط، التنمية، إدارة المشاريع، شؤون التعليم والصحة، وإدارة الموارد، بشرط أن تبقى هذه المجالس مرتبطة تشريعيًا وماليًا بالحكومة المركزية، وتُخضع لرقابة وطنية عبر وزارة الإدارة المحلية، كما قدمنا في ورقة منشورة عبر موقعنا بعنوان: المركزية واللامركزية والخيار الثالث بينهما.
ويُستحسن هنا الاستفادة من النماذج المقارنة، مثل النموذج الإسباني الذي يمنح الأقاليم سلطات محلية كبيرة دون المساس بوحدة الدولة، والنموذج الألماني الذي يوازن بين الفيدرالية والسلطة الاتحادية من خلال ما يُعرف بـ"اللامركزية المندمجة" ولو أن هناك فارقاً بين المَقيس والمُقاس عليه.
خامسًا، آليات العدالة الانتقالية ومعالجة انتهاكات المرحلة السابقة:
لا يمكن أن يُكتب لأي اتفاق النجاح دون تضمين آلية واضحة لمعالجة الانتهاكات التي وقعت خلال سنوات النزاع، سواء من طرف قسد أو باقي الأطراف، بما يُحقق مبدأ المحاسبة دون التصفية السياسية.
ومن هنا، توصي الورقة بتأسيس هيئة وطنية مستقلة للعدالة الانتقالية، تشارك فيها شخصيات حقوقية وقانونية ومجتمعية من الطرفين، وتُشرف على التحقيق في مزاعم الاعتقال التعسفي، التهجير، التجاوزات، وتجريف الهوية، وتُصدر توصيات تُنفذ على مراحل عبر القضاء الوطني أو لجان مصالحة محلية.
هذه الهيئة لا تُعد أداة إدانة جماعية، بل وسيلة للإنصاف وتهيئة المجتمعات المحلية لمرحلة جديدة تُبنى فيها الثقة بين المكونات، وتُعيد الاعتبار للمواطنة المشتركة.
سادسًا، دور المجتمع الدولي في المسار التوافقي:
ينبغي على المجتمع الدولي، خاصة الأمم المتحدة، أن يُسهم بدور تقني رقابي في عملية الدمج والتسوية، دون تدخل في القرار السيادي. ويمكن أن تُشكّل الأمم المتحدة مكتبًا ميدانيًا في شمال شرق سورية لمراقبة التنفيذ، وتقديم تقارير فصلية حول مدى الالتزام بالبروتوكولات العسكرية والإدارية، ورصد مؤشرات التصعيد أو التعثر، ما يُشكل أداة دعم للمسار الوطني وليس وصاية عليه.
كما يجب أن يتوقف الدعم العسكري غير المشروط لقسد بمجرد البدء الفعلي في المسار التوافقي، ويُحوّل إلى دعم تنموي لبناء القدرات المحلية في إطار الدولة.
سابعًا، الرسائل السياسية الموجهة إلى الأطراف:
1- إلى الحكومة السورية، توصي الورقة بضرورة الانفتاح على صيغة اندماج مرحلي تسمح باستيعاب مكونات شمال شرق سورية ضمن مؤسسات الدولة دون الإخلال بوحدتها، وتُراعي المعطى الثقافي والخصوصية المحلية كعنصر إثراء لا تهديد.
2- إلى قيادة قسد، تدعو الورقة إلى تجاوز ثنائية الإبقاء على الهياكل العسكرية المستقلة أو الانسحاب الكامل، عبر قبول مبدأ الشراكة الوطنية تحت مظلة الدولة، وقراءة اللحظة السياسية على أنها فرصة للتحول من موقع السيطرة إلى موقع المشاركة.
3- إلى المجتمع الدولي، تطالب الورقة بتركيز الدعم على مسار بناء المؤسسات وتهيئة بيئة المصالحة الوطنية، والامتناع عن دعم أي كيان خارج منظومة الدولة، وعدم التعامل بازدواجية في الملف السوري على أساس مصالح عابرة.
الخاتمة والتوصيات النهائية:
ترى الورقة أن مستقبل العلاقة بين قسد والدولة السورية يجب أن تُبنى على أسس المواطنة، والمساواة، والتعددية، ضمن وحدة سيادة لا تتجزأ.
ويُعد قبول الطرفين بالتنازلات المعقولة، والاعتراف المتبادل بالحاجة إلى التغيير، المدخل الحقيقي
ونرى أن مستقبل العلاقة بين قوات سوريا الديمقراطية والدولة السورية لا يمكن حصره في صيغة أمنية أو تفاهمات ظرفية، بل يجب أن يُستند إلى تصور مؤسسي يستوعب تعقيدات المرحلة، ويكرّس مبدأ الدولة الجامعة لا الدولة المُقسّمة.
إن اللحظة التأسيسية التي تمر بها سورية اليوم تتيح فرصة نادرة لإعادة بناء الدولة الوطنية على قاعدة جديدة، تقوم على شراكة عادلة بين المكونات، وسيادة لا تتناقض مع التعدد، ومؤسسات لا ترتبط بالولاء بل بالكفاءة والمواطنة.
وفي هذا الإطار، نوصي بالانتقال السياسي وبناء الدولة بما يلي:
- إطلاق مسار رسمي للتفاوض بين الحكومة السورية الجديدة وقيادة قسد تحت مظلة وطنية وبإشراف تقني دولي، يُبنى على أساس البروتوكول الموقع في آذار 2025، ويُطوّر إلى اتفاق ملزم ضمن جدول زمني قابل للرقابة.
- اعتماد صيغة اندماج مرحلي لقسد ضمن المؤسسة العسكرية، تبدأ بتشكيل وحدة شمالية شرقية تابعة للجيش السوري، وتُدار خلال المرحلة الانتقالية وفق قيادة مشتركة تُحل لاحقًا ضمن هيكلة وزارة الدفاع.
- تبني لا مركزية إدارية موسعة في شمال شرق سورية وكافة المناطق السورية، تُعزز من قدرة المجتمعات المحلية على اتخاذ القرار التنموي والخدمي، ضمن رقابة مركزية تُضمن التوازن ومنع التقسيم.
- تضمين الاعتراف بالهوية الثقافية الكردية في الدستور السوري الجديد، بما يشمل استخدام اللغة الكردية في التعليم والإعلام المحلي، دون التأسيس لكيانات سياسية مستقلة أو سلطات موازية.
- تأسيس هيئة وطنية للعدالة الانتقالية، تضمن معالجة الانتهاكات الموثقة بمشاركة قانونيين وممثلين عن الضحايا والمجتمع المدني، وتُنتج توصيات للعدالة والمصالحة بما يُعيد الاعتبار للسلم الأهلي.
- نقل الدعم الدولي من البرامج العسكرية الموازية إلى دعم التنمية المحلية، وبناء القدرات المؤسسية داخل الإطار السيادي السوري، مع وقف التمويل الخارجي غير المنسق الذي يعزز الانقسام.
- إنشاء وحدة رقابة مدنية–عسكرية مشتركة تُراقب عملية الدمج والتأهيل، وتصدر تقارير دورية تُنشر للعموم، تعزيزًا لمبدأ الشفافية في إعادة بناء المؤسسات العسكرية.
- إطلاق حوار وطني مفتوح يشمل ممثلين عن قسد، والحكومة، والقوى السياسية والمجتمعية، ويمكن لتيار المستقبل السوري أصالة عن نفسه، ونيابة عن تجمع القوى الوطنية السورية الديمقراطية (المنبر السوري الديمقراطي) باعتبارنا رئيساً دورياً له، أن ينكون مساهمين بشكل ايجابي بذلك، وليناقشَ هذا الحوار مستقبل التعددية السياسية في سورية، ويضع أسسًا لميثاق وطني لا يُقصي أحدًا ولا يُكرّس سلطات فوق وطنية.
ختامًا، نؤكد أن هذا النموذج ليس فقط قابلاً للتطبيق بل ضروري لإنهاء حقبة التجاذب والانقسام، وبدء مسار بناء الدولة على أسس تمثيلية، وتكاملية، وعدالة شاملة.
ونُجدد دعوتنا إلى الأطراف المعنية للانخراط في حوار صريح ومسؤول، يُفضي إلى تسوية تحفظ وحدة سورية، وتُعزز قدراتها، وتُعيد الاعتبار لإنسانها ومواطنيها على امتداد جغرافيتها.