نزع الصدام الوطني حول النظام المركزي واللامركزي

إحاطة:

نلحظ بوضوح في وسائل التواصل الاجتماعي ذلك الصدام العدائي بين السوريين في نقاشاتهم حول المركزية واللامركزية، حيث يسهل تلمس حجم التحزب لكل فريق، بل وادعاء الصوابية واحتكار الحقيقة في طروحاتهم.

يأتي هذا المقال في باب رفع الوعي حول الثقافة السياسية، التي أصبحت علما له مدارسه ومتخصصوه الذين قعّدوا القواعد السياسية لأطروحاتهم ضمن مناهج علمية حديثة، تنزع أي مقاربة سياسية لأنظمة الحكم من سياقها الصدامي بين أبناء البلد المختلفين.

ففي العلوم السياسية، تُصنَّف النظم السياسية وفقًا لطريقة توزيع السلطة، وآلية اتخاذ القرار، وطبيعة العلاقة بين الحكومة والمواطنين، لهذا برز هناك عدة أنواع رئيسية للنظم السياسية، منها:  

1. الأنظمة الديمقراطية، والتي تتنوع بدورها إلى:  

  • الديمقراطية الليبرالية، حيث تستند إلى الانتخابات الحرة، والفصل بين السلطات، وضمان الحقوق والحريات الأساسية، ومثالها الولايات المتحدة، وفرنسا.  
  • الديمقراطية الاجتماعية، والتي تجمع بين الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية، حيث يكون للدولة دور في توفير الخدمات وضمان التوزيع العادل للثروة، ومثالها السويد، وألمانيا.  
  • الديمقراطية المباشرة، وفيها يشارك المواطنون مباشرة في صنع القرار، كما كان الحال في بعض المدن الإغريقية القديمة.  

2. الأنظمة السلطوية، والتي تتجلى بـ:  

  • الديكتاتورية، حيث يحكم فيها شخص واحد أو مجموعة صغيرة بسلطة مطلقة دون رقابة شعبية حقيقية، وأمثلتها كثيرة، لعل سوريو الأسد أوضحها، والتي كانت سمة غالب الأنظمة بالقرن المنصرم.
  • الأوتوقراطية، وهي سلطة حكم مركزة في يد فرد أو نخبة صغيرة دون مشاركة شعبية فعلية.  
  • الأوليغارشية (حكم القلة)، حيث تتحكم فيها مجموعة نخبوية محدودة في صنع القرار السياسي، وغالبًا ما يكون ذلك بناءً على المصالح الاقتصادية أو العسكرية.  

3. الأنظمة الشمولية، والتي يُمارس فيها النظام السيطرة المطلقة على جميع جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويستخدم أدوات القمع لإخضاع المجتمع، ويصلح معها مثال سورية الأسد، والأنظمة الشيوعية سابقًا مثل الاتحاد السوفيتي. 

4. الأنظمة الملكية، وهي بين: 

  • الملكية الدستورية، أو الملكية الرمزية، والسلطة الفعلية في يد البرلمان والحكومة المنتخبة، ومثالها بريطانيا، وإسبانيا.  
  • الملكية المطلقة، حيث يتمتع الملك فيها بسلطة غير محدودة في إدارة شؤون الدولة. مثل بعض الأنظمة التاريخية.  

5. الأنظمة الجمهورية، والتي تتنوع إلى:  

  • الجمهورية الرئاسية، حيث يكون الرئيس هو رأس الدولة ورأس الحكومة، وله سلطات تنفيذية قوية، مثل الولايات المتحدة، البرازيل.  
  • الجمهورية البرلمانية، فالرئيس رمز للدولة، والسلطة الفعلية في يد رئيس الوزراء الذي ينبثق عن البرلمان، مثل ألمانيا، وإيطاليا.  
  • الجمهورية شبه الرئاسية، وهو النظام الذي يجمع بين صفات الرئاسي والبرلماني، حيث يتم تقسيم السلطة بين الرئيس ورئيس الوزراء مثل فرنسا.  

6. الأنظمة الفيدرالية والوحدوية، وهي إما أن تكون:  

  • نظام فيدرالياً، السلطة فيه موزعة بين الحكومة المركزية والولايات أو الأقاليم، لكل منها صلاحياتها الخاصة، مثل الولايات المتحدة، والهند.  
  • أو النظام الوحدوي، إذ السلطة مركزة في يد الحكومة المركزية، ولا تتمتع الأقاليم باستقلال سياسي كبير، مثل فرنسا، ومصر.  

كل من هذه الأنظمة قد تشترك وصفاً لبلد ما، كما ولكل نظام مزاياه وعيوبه، وتعتمد فاعليتها على مدى احترامها للحقوق والحريات، وآلية تحقيق العدالة والمشاركة السياسية. 

عن اللامركزية:

في العلوم السياسية تُعتبر اللامركزية والفيدرالية جزءًا من الدراسات المتعلقة بتوزيع السلطة والإدارة السياسية للدول، وهما مفهومان يرتبطان ببنية النظام السياسي، وتحديد العلاقة بين الحكومة المركزية والوحدات الإدارية المختلفة، مثل الأقاليم أو الولايات.  

فاللامركزية، نظام إداري وسياسي يُمنح فيه قدر من السلطة للمناطق أو الوحدات المحلية، دون أن يكون لديها استقلال كامل عن الحكومة المركزية، وهناك عدة أنواع منها:  

  1. اللامركزية الإدارية، حيث تُمنح الهيئات المحلية صلاحيات تنفيذية، لكن القرارات الكبرى تبقى بيد الحكومة المركزية.  
  2. اللامركزية السياسية، حيث يكون للمناطق سلطات أكبر في اتخاذ القرارات، وأحيانًا انتخابات محلية مستقلة.  
  3. اللامركزية المالية، حيث تحصل الأقاليم أو البلديات على استقلالية في إدارة مواردها المالية.  

وأما الفيدرالية فهي نظام حكم تُقسم فيه السلطة بين حكومة مركزية وحكومات إقليمية أو محلية، بحيث تمتلك الأقاليم صلاحيات شبه مستقلة وفق الدستور، ولعل أبرز ميزاتها:  

  1. تقاسم السيادة بين الحكومة المركزية والولايات أو الأقاليم، كما في الولايات المتحدة وألمانيا.  
  2. وجود دستور واضح يحدد اختصاصات كل مستوى من مستويات الحكم.  
  3. استقلال تشريعي وإداري للأقاليم، مما يجعلها أكثر قدرة على إدارة شؤونها مقارنة باللامركزية العادية.  

وأما فيما خص موقع النظام اللامركزي والفيدرالي في العلوم السياسية، فهو أن اللامركزية تُعتبر أسلوبًا في الإدارة الحكومية، وقد تكون جزءًا من نظام سياسي مركزي أو حتى فيدرالي.  

وأما الفيدرالية، فتُعتبر نظامًا سياسيًا شاملاً يُحدد شكل الدولة وطريقة توزيع السلطة داخليًا. 

إضافة إلى أن كلا المفهومين يتداخلان مع نظرية الدولة، والحكم المحلي، والديمقراطية التشاركية في العلوم السياسية.  

هاجس التقسيم:

من خلال ماسبق، يظهر أن الدعوة إلى الفيدرالية ليست بالضرورة دعوة للتقسيم، بل تعتمد على طبيعة التطبيق والمقاربة السياسية لها. 

فالفيدرالية نظام سياسي وإداري يقوم على تقاسم السلطة بين الحكومة المركزية والأقاليم أو الولايات، مع وجود دستور ينظم العلاقة بين الطرفين، كما وتُعد الفيدرالية نموذجًا ناجحًا يعزز الوحدة مع توفير الحكم الذاتي المحلي.  

ومع ذلك، هناك تحديات قد تجعل بعض المجتمعات ترى الفيدرالية كمدخل للتقسيم، خاصة إذا كانت هناك توترات قومية أو طائفية، أو إذا لم تكن هناك إرادة سياسية حقيقية للحفاظ على وحدة البلاد، فالفيدرالية يمكن أن تكون وسيلة لتقوية الدولة عبر توزيع الصلاحيات بشكل فعال، لكنها أيضًا قد تؤدي إلى انفصال محتمل إذا لم يكن هناك توافق على الهوية الوطنية الجامعة.  

لذلك، المسألة تعتمد على كيفية تصميم الفيدرالية، ومدى التزام القوى السياسية بوحدة البلاد وضمان تطبيقها بطريقة تعزز الاستقرار. 

مقاربة مسألة اللامركزية في سورية بين الطرح السياسي والواقع الاجتماعي

تفترض الأدبيات السياسية أن نظام اللامركزية ليست بالضرورة تقسيمًا، ففي العلوم السياسية الحديثة، تعني اللامركزية توزيع السلطات بين الحكومة المركزية والوحدات المحلية بطريقة تتيح لهذه الأخيرة إدارة شؤونها، مع الحفاظ على وحدة الدولة. 

أما التقسيم، فهو إنشاء كيانات سياسية مستقلة قد تؤدي إلى تفكك الدولة.  

بالتالي، لا يمكن الحكم على أي دعوة للامركزية بأنها دعوة للتقسيم إلا عبر تحليل محتواها وسياقها السياسي.  

في حالة سورية، نلحظ أن الدعوة إلى اللامركزية تأتي في سياق اضطرابات سياسية وهيكلية، حيث تسعى بعض الأطراف إلى تعزيز الإدارة الذاتية في مناطق معينة، مثل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بينما يعتبرها آخرون خطوة نحو التقسيم بسبب التوجهات القومية أو العرقية لبعض الكيانات المطروحة.  

لهذا فإننا نرى أن المقاربة العقلانية لهذه المسألة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار ثلاثية:  

  1. التوازن بين الحكم الذاتي والإبقاء على وحدة سورية.  
  2. إمكانية تطبيق نموذج لامركزي إداري يخدم المناطق دون أن يهدد الهوية الوطنية الجامعة.  
  3. ضمان عدم استغلال اللامركزية كذريعة لإضعاف الدولة أو إنشاء كيانات شبه مستقلة.  

هذا، ويشير الفلاسفة السياسيون المعاصرون مثل جون رولز ويورغن هابرماس إلى أن أي نموذج سياسي يجب أن يكون "شاملًا" بحيث لا يؤدي إلى تهميش أي فئة أو تهديد وحدة الدولة، ومن خلال هذه الرؤية يمكن النظر إلى اللامركزية كآلية لتعزيز الديمقراطية عبر منح المجتمعات المحلية القدرة على إدارة شؤونها دون الحاجة إلى انفصال سياسي.

في المقابل، ينبغي الحذر من أن تصبح اللامركزية أداة لتقسيم النفوذ السياسي والجغرافي، خاصة إذا لم يتم ضمان وجود مظلة وطنية جامعة.  

وعليه، فإن السيناريوهات المحتملة لتطبيق اللامركزية في سورية بحسب مايبدو تتجلى بـ:  

  1. نموذج اللامركزية الإدارية، حيث يُسمح للمحافظات بإدارة خدماتها، مثل التعليم والصحة، دون منحها سلطات تشريعية مستقلة.  
  2. نموذج اللامركزية السياسية المقيدة، حيث تُمنح المناطق سلطات واسعة في بعض الملفات، لكن القرارات السيادية تظل في يد الحكومة المركزية.  
  3. نموذج الفيدرالية المشروطة، إذ تكون هناك أقاليم بحكومات محلية، لكن ضمن إطار دستوري واضح يمنع التفكك.  

وهنا يبرز السؤال الجوهري: كيف يمكن التوفيق بين المطالب المختلفة؟

يمكن الإجابة عن هذا السؤال بمقاربة مسألة اللامركزية في سورية عبر حوار سياسي حقيقي يوازن بين:

  1. حماية وحدة الأراضي السورية.  
  2. تمكين المناطق المختلفة من إدارة شؤونها دون أن تصبح كيانات منفصلة.  
  3. ضمان ألا تكون اللامركزية خطوة نحو التقسيم بل آلية للإدارة الفعالة.  

مقترحنا:

كنا قد قدمنا رؤيتنا في تيار المستقبل السوري حول مقترح ثالث بين اللامركزية والمركزية، وهو "اللامركزية التعاونية المشتركة"، وذلك في ورقة منشورة بموقعنا الرسمي بعنوان: "المركزية واللامركزية والخيار الثالث"، حيث نرى أنه يمكن أن تكون حلاً توافقياً قوياً لسورية إذا تم تطبيقها بشكل متوازن يراعي التحديات السياسية والاجتماعية. 

إذ هذا النموذج يختلف عن الفيدرالية أو اللامركزية التقليدية، حيث يقوم على التشارك الفعّال بين الحكومة المركزية والإدارات المحلية، ويهدف إلى تحقيق توزيع مسؤول للسلطة دون أن يؤدي إلى التفكك أو الانقسامات.

إذ من مزايا اللامركزية التعاونية المشتركة التي نراها:  

  1. حماية وحدة الدولة، حيث يمنح هذا النموذج صلاحيات واسعة للإدارات المحلية دون المساس بوحدة القرار الوطني.  
  2. تعزيز التوافق الوطني، من خلال إشراك جميع الفئات والمكونات السورية في إدارة شؤونهم دون تصعيد المخاوف من التفكك.  
  3. توزيع مسؤوليات الحكم، بدلًا من إنشاء كيانات منفصلة، يعمل هذا النموذج على خلق تعاون مستمر بين الحكومة المركزية والمحافظات.  
  4. التكامل الاقتصادي والاجتماعي، حيث يسمح للمناطق المختلفة بتحديد أولوياتها التنموية ضمن خطة وطنية موحدة.  

خاتمة:

لعل أهم سؤال يُطرح هنا هو كيف يمكن تطبيق اللامركزية التشاركية في سورية؟  

نرى جواباً لذلك أن صياغة إطار دستوري واضح يمنح الإدارات المحلية صلاحيات تنفيذية وإدارية، ولكن ضمن مظلة وطنية موحدة، إضافة إلى إنشاء آليات رقابة مشتركة بين الحكومة المركزية والهيئات المحلية لضمان عدم استغلال الصلاحيات بشكل فردي، مع تعزيز الاندماج بين المناطق من خلال سياسات اقتصادية موحدة تمنع ظهور كيانات معزولة، تنتهي بتمكين المجتمع المحلي عبر الانتخابات المحلية، ولكن ضمن نظام يضمن التعاون المستمر بين جميع أجزاء الدولة؛ نرى بأن هذا هو الطريق السليم والصحيح لترسيخ البديل الذي نقدمه.

أخيراً، اللامركزية التعاونية المشتركة يمكن أن تكون نقطة التقاء بين الأطراف المختلفة، حيث توفر الحكم الذاتي الإداري دون أن تفتح المجال للتقسيم السياسي، وتطبيقها يتطلب إرادة سياسية قوية، ورؤية شاملة لإدارة التنوع داخل سوريا، بحيث تكون آلية لتعزيز الاستقرار وليس مدخلاً للصراعات الجديدة.  

وما يهمنا بهذا المقال، إخراج الدعوة لخيار المركزية أو اللامركزية من إطار التخوين المتبادل، وإطار الصدام الوطني، واعتبار هذا الخلاف طبيعي باعتباره أحد مفرزات العلوم والفلسفة السياسية، وبالتالي فإننا نوصي في المكتبين العلمي والسياسي لـ تيار المستقبل السوري وبشدة أن يتم التعامل مع هذا الخلاف بوعي وطني وعقل منفتح ونقاش أكاديمي منهجي علمي، يُقدم فيه كل طرف أدلته الواقعية لرؤيته، في جو من السلم الأهلي والاحترام المتبادل، لعلنا نصل في خطوة أولى إلى احترام تنوعاتنا الفكرية والسياسية، على اعتبار أن التنوع ثروة حضارية يجب الحفاظ عليها بإطارها الحضاري الفعال، وبذلك تصبح اللامركزية التعاونية المشتركة حلاً مرنًا يحقق التوازن بين الحكم المحلي والإدارة الوطنية، إذا تم تبنيها بنص دستوري واضح، وآليات رقابة متبادلة، وإطار وطني جامع يحول دون النزعة الانفصالية.

المكتب العلمي

المكتب السياسي

فريق البحث

قسم البحوث والدراسات

مقالات

تيار المستقبل السوري

شاركها على:

اقرأ أيضا

إعادة تكوين الإنسان العربي: من التهميش إلى الولادة الجديدة

التحديات التي تواجه الإنسان العربي وكيف يمكن إعادة تكوينه من التهميش إلى التحول الإيجابي.

4 ديسمبر 2025

أنس قاسم المرفوع

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية في مرحلتي ما قبل وبعد سقوط نظام الأسد

واقع تجارة المخدرات وتعاطيها في سورية قبل وبعد سقوط نظام الأسد وتأثيرها على الاقتصاد والمجتمع.

4 ديسمبر 2025

إدارة الموقع